كاياهان أويغور – صحيفة أكشام – ترجمة وتحرير ترك برس

تقع الكرة الأرضية التي نعيش عليها ضمن منظومة عالمية، عمرها يقارب الثلاثة قرون، وجميع دول العالم منضوية حاليا ضمن هذه المنظومة. فعلى سبيل المثال: تقوم السيدات في المدن التركية المطلة على البحر الأسود، بتعليب أسماك "الهامسي"، المستوردة من الأرجنتين، ووضعها ضمن قوارير زجاجية بلغارية الصنع، مضافاً إليها الخل المصنوع في إيطاليا، ومن ثم تسويقها وبيعها في كافة أنحاء العالم. ولكن العبرة هنا ليست بالمنظومة الاقتصادية فحسب. فالقيم التي يتبناها الاقتصاد، والمقاييس المحددة للقيم، والرموز الثقافية والآليات السياسية كذلك تشكل كلاً لا يتجزأ من هذه المنظومة.    

فالمنظومة العالمية حاليا تشمل الشرق أيضا، ولكن شريطة بقاء المركز في الغرب، لأنها بمجملها منظومة رأسمالية تعتمد على تشكيل رؤوس أموال غير محددة بسقف معين. فالمنظومة التي لا تضع الثروات في خدمة الإنسان، بل تضعها في خدمة عملية إنتاج هذا الإنسان، من شأنها أن تسقط ما لم تحقق النمو المنشود. وما يشهده عالمنا اليوم، مرحلة سقوط ليس إلا، والنمو الجزئي الذي نراه في بعض المراكز، ما هو إلا نمو لا يملك أي مقابل، وهو مجرد استلاف واستدانة من المستقبل.     

هذا هو لب هذه المنظومة، بينما شكلها أو كساؤها هو السيادة الغربية. فهي تعتمد على السيادة التي يفرضها المركز على الأطراف المحيطة. وقد قامت بريطانيا العظمى التي أسست هذه المنظومة وقادتْها، والولايات المتحدة الأمريكية التي حلت مكانها فيما بعد، بتشكيل هيكلية قيادية فوقية للمنظومة منذ انطلاقتها، وعملتا على الدوام على الحفاظ عليها. فمن جهة، حاولت هاتين الدولتين نشر النظام الرأسمالي في كل أنحاء العالم، ومن جهة أخرى، قامتا بالحؤول دون حدوث أي خلل في الموازين، وهذين الأمرين نقيضين. فهاتين الدولتين، حافظتا على مراقبة الدول الواقعة في أطراف المركز، والدول الواقعة فيما بين المركز والأطراف على حد سواء. ومنظومة السيادة التي تم العمل على تشكيلها، ما هي إلا منظومة تحقق السيادة للمسيحيين البيض، مركزها في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ القرن التاسع عشر قامت هاتان الدولتان بتوزيع الأدوار على الأعراق الأخرى، فأطلقتا صفة العمال على العرق الأصفر، وصفة القرويين على العرق الأسود، وصفة الإداريين على العرق الأبيض، أي على أنفسهم، وامتلكتا رؤية تمييزية ضمن العرق الأبيض نفسه، تنظر بفوقية إلى العالم الكاثوليكي اللاتيني، وبفوقية أكثر إلى العالم الأرثوذكسي السلافي، وعملتا على إبقاء العالم الإسلامي خارج المنظومة برمتها.            

سأورد لكم مثالاً تاريخياً. ينظر رواد الحداثة إلى الثورة الفرنسية على أنها مرحلة هامة من مراحل تطور الرأسمالية. وهم محقون بذلك، لكن بريطانيا التي تحولت إلى الرأسمالية قبل فرنسا، بذلت كل ما بوسعها من أجل إجهاض الثورة الفرنسية. وبعد ذلك قامت كل من بريطانيا وفرنسا بوضع العصي أمام تطور ألمانيا. وفيما بعد أجهضت هذه الدول الثلاث مجتمعة جهود الدول المحيطة (روسيا مثلا) في التحول إلى مركز. وعندما رغب غورباتشوف في ثمانينيات القرن الماضي بالانسحاب من أوربا الشرقية بعد الاتفاق مع الغرب، وبتشكيل اتحاد يضم كلا من فرنسا وألمانيا وروسيا، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالقضاء على هذا المشروع الذي كان سيشكل خطرا على الهيمنة الأمريكية. وفي العهد السوفياتي، كان ثمة من يرغب بسلوك الطريق الذي سلكته الصين فيما بعد، لتحقيق قفزة صناعية كبيرة منذ ذلك الوقت. ولكن المنظومة رأت بأن صيغة الولايات المتحدة الأمريكية+الصين أنسب إليها من صيغة الولايات المتحدة الأمريكية+روسيا.

وفي ثمانينيات القرن الماضي، أطلقت كل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بقيادة تاتشر، حملة إيديولوجية هجومية كبيرة، لحماية هيمنتهما على العالم. وفي تلك الفترة انضم بعض المثقفين الأتراك إلى هذه الحملة وأوجدوا مفهوما أطلق عليه "reel sosyalizm" أي "الاشتراكية الواقعية". كانوا يرغبون بإيصال رسال مفادها "قد تكون الاشتراكية جميلة في الكتب، ولكن انظروا إليها على أرض الواقع". وفي حقيقة الأمر، كانوا محقين في ذلك، ولكن ألا يجب النظر أيضا إلى الواقع، أي إلى الرأسمالية الواقعية من أجل فهم القيم الغربية والأكاذيب الليبرالية؟ فالبيانات والخطب والاجتماعات المتعلقة بحقوق الإنسان تدهش الأبصار، ولكن هناك حقائق أخرى تتعلق بالرأسمالية الواقعية، مثل قتل ملايين المسلمين وغوانتانامو ومعتقلات سجن أبو غريب، والانقلابات الاستعراضية كتلك التي حدثت في مصر وأوكرانيا، ودائرة النار المشتعلة في الشرق الأوسط، وأفغانستان المهدمة، والصومال المدمرة وليبيا و...   

والآن تقوم الرأسمالية العالمية – كما حدث قبل 80 عاما – بتحريض اليمين المتطرف في أوربا، وبتضخيمه عبر قوة المال والإعلام، بهدف تحريض الألمان على الروس مجدداً، أي ضرب عصفورين بحجر واحد. وإذا ما تلقى المسلمون ضربة كبيرة في هذه المعمعة، فذلك يضاعف أرباحهم ومكاسبهم. و في حال عجز الغرب عن ذلك، يلجأ للحل الوحيد لديه، و هو إشعال فتيل الحرب، لذلك فهو يبحث لاعب، لتكرار تطبيق هذا السيناريو المعروف مرة أخرى. لكن تبدو مهمته صعبة هذه المرة، فشعوب الشرق استيقظت من غفوتها، و شعوب الغرب سئمت من الحرب.

عن الكاتب

كاياهان أويغور

كاتب في صحيفة أكشام


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس