معاذ السراج - خاص ترك برس

لم تكن كاترين الثانية ملكة بريطانيا وحدها، لكن كثيرين كانت لديهم "عقدة القسطنطينية"، من أمثال تشرشل وكونت أغناتيف ولورد كرزون نائب الملكة السابق في الهند، هؤلاء وغيرهم جعلوا من احتلال إسطنبول أمراً لا بد منه من أجل هيبة بريطانيا في الشرق الأدنى والهند. فرنسا هي الأخرى كانت حاضرة بجيوشها وأساطيلها، وإيطاليا كذلك، واليونان الجار اللدود، والروس والبلغار وغيرهم، لكن البريطانيين كانوا في المقدمة.

انتشرت "هوجة الاسترداد" من اليونان إلى بريطانيا، "آيا صوفيا" كانت الأيقونة التي يجب أن تعاد إلى وضعها الطبيعي.. "كنيسة"، لكن المسألة كانت أكبر من مجرد تعصب شخصي أو عاطفي... ذلك أن دور إسطنبول كعاصمة للإسلام كان السبب وراء الرغبة في إعادة تعميد مسجدها الأساسي، وطرد الخليفة السلطان.

لكن الحقيقة التي صدمت الجميع هي أن إسطنبول كانت "مهمة أوسع وأخطر" من أن تحكمها دولة بعينها، حتى لو كانت بريطانيا العظمى، وهي في أوج مجدها.

لكن مفارقات التاريخ لا بد أن تترك بصماتها. فبين عشية وضحاها مُسح تاريخ قرون، وتغير كل شيء، تناسوا تاريخ هذه الإمبراطورية العظيمة ودورها الحاسم في حفظ توازن القوى في أوروبا لقرون، ولم يعد التاريخ العثماني أكثر من مجرد "النير الثقيل على مدى أربعمئة وستين عاما"، وأطلقت الشعارات الرنانة: "إن لم تعط القسطنطينية لليونان فإن المسألة الشرقية لن تحل نهائيا".

تعددت الأسباب والدوافع وراء هذه الحرب الرهيبة، وكانت الإمبريالية والثأر ومعاداة الشيوعية في صدراتها. أراد الحلفاء السيطرة على عاصمة الإمبراطورية العثمانية لكي يعجلوا بنزع سلاحها وتقسيمها. كانت بريطانيا حينها في أوج قوتها العالمية وثقتها بنفسها، التي جددها هذا الانتصار، وقواتها الضاربة تتمركز في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية. هكذا بدت الصورة: بريطانيا هي التي ربحت الجائزة، جائزة القسطنطينية.

الدخول في الحرب العالمية الأولى لم يكن مجرد خطيئة استراتيجية وحسب، إذ إنها قادت الإمبراطورية العثمانية إلى هزيمة كاملة بكل معاني الكلمات، (ولطالما بذل عبد الحميد المستحيل للبقاء بعيدا عن مثل هذه الورطات القاتلة)، وبلغت نشوة الانتصار مداها، حتى إن بعض رجال الدولة من الحلفاء أرادوا فرض شروط أسوأ مما أرادوه لألمانيا، كان من بينها التخلي عن القسطنطينية.

"لويد جورج" رئيس الوزراء البريطاني المؤمن بالقومية الماتزينية (نسبة إلى الزعيم القومي الإيطالي ماتزيني) وأحد المؤيدين المتحمسين لليونان، كان الأشد عداوة، وصلافة، وكان تصوره عن إسطنبول من أسوأ ما يكون: "القسطنطينية في يد الأتراك لم تكن فقط مرتعا لكل أنواع الرذائل الشرقية، بل كانت أيضا المصدر الذي ينتشر منه السم والفساد والمكائد إلى أوروبا طولا وعرضا...". وشجب لورد كرزون في ورقة وزعها على الحكومة البريطانية في كانون الثاني/ يناير 1919 "الكواليس الملوثة للقسطنطينية"، على الرغم من أن (التجار والمجرمين المتمتعين بالحماية البريطانية كانوا من أكثر ملوثي المدينة نشاطا)، كان يقول: "لقد تهيأت فرصة لم تتوافر على مدرا قرون لاستئصال هذه البقعة الطاعون والتخلص منها إلى الأبد".

كرزون الذي عمل نائباً للملكة في الهند كانت تقاريره تؤكد دائما على أن: "الهنود لا يكنون أي تقديس أو تبجيل خاص للقسطنطينية"، لكن الواقع لم يكن كذلك قط، فقد كان صدى الخلافة والجامعة الإسلامية يتردد في كل بلاد المسلمين، وفي الهند كانت هناك حركة إسلامية قوية موالية للخلافة العثمانية، وكان من بين أهدافها تقديم العون لتركيا والإبقاء على إسطنبول إسلامية، كانت هذه الحركة على وشك أن تكتسح الهند، حتى لورد كرزون عاد ليغالط نفسه قائلا: "الخطر الحقيقي والكامن الوحيد لحكمنا في الهند هو من جانب المسلمين". كان رأي كرزون الحاسم أن: "الهيبة البريطانية في الهند تتقوى من خلال إضعاف الوجود الإسلامي في القسطنطينية".

إسطنبول تحت الاحتلال

كان هذا في الثالث عشر من تشرين الثاني/ أكتوبر عام 1918 حينما دخل مضيق البوسفور طابور من بوارج الحلفاء تغلب عليها القطع البريطانية، ومعها بوارج فرنسية وإيطالية ويونانية.

وفي محاكاة انتقامية لدخول محمد الفاتح المدينة عام 1453، تقدم القائد "المسيحي" إلى السفارة الفرنسية، على حصان أبيض قدمه له أحد اليونانيين، واصطفت على جانب شارع بيرا الكبير (سمي لاحقا بشارع الاستقلال)، أعلام الحلفاء وقواتهم، ويونانيون وأرمن مهللون. وبعد زيارته للفنار استقبل فيها على أصوات أجراس الكنائس.

وعلى مدار السنوات الأربع التالية تمتع ممثلو الحلفاء الثلاثة ويعرف كل منهم باسم (المندوب السامي) بسلطة أكبر من السلطان نفسه، وبدا واضحا أن سلطتهم جاءت تتويجا للصعود الثابت في سلطة السفراء وامتيازاتهم منذ القرن السابع عشر. وسُيِّرت دوريات في بعض الشوارع، وكانت تتكون من أربعة شرطيين: تركي وبريطاني وفرنسي وإيطالي، وفي القوة التي أسموها (الكونستانت) كان البريطانيون وفقا لشهادة بعض الباقين منهم على قيد الحياة (الأكثر عددا والأسوأ سلوكا) فكان الجنود البريطانيون يترنحون سكارى خلال شوارع بيرا. وأقام ضباطهم في فندق بيرا بالاس أو فندق غراند هوتيل دي لوندري أو تم إيواؤهم بأوامر رسمية  في بيوت المسلمين التي كانت لا تزال حرما منيعا (حاولت سيدة تركية ساخطة قتل الضابط الضيف الذي فرض عليها قبل أن يهرب عبر البسفور).

كان مخططا للمدينة أن تصبح "كوزموبوليس" أي مدينة دولية للعالم الشرقي، لكن عهد الدولة - المدينة قد ولى، وانتهى زمن التعدد والتعايش، وبات الجميع من الأتراك واليونانيين والأرمن أكثر من أي وقت مضى يريد كل منهم دولته الخاصة، وليس مدينة أو دولة مشتركة. وهذا بالضبط ما جاءت لهم به أوروبا وقواتها الحليفة.

ظن اليونانيون أن فكرتهم الكبرى على وشك التحقق بفضل انتصار الحلفاء، وقال رئيس الوزراء إليوثيريوس فينزيلوس: "سنأخذ المدينة"، أي القسطنطينية. ومنذ اللحظة الأولى للهزيمة العثمانية أسقط أكثر يونانيي القسطنطينية قناعهم العثماني وتصرفوا وكأنهم فاتحون.

في روايته "ليونيس - يوناني من القسطنطينية" يتذكر جورج ثيوتوكاس "الاحتلال بصفته حفلة أبدية"، و"رفع العلم اليوناني الأزرق والأبيض فوق البطريركية والبيوت اليونانية، ونصبت لوحة ضخمة لفينزيلوس في ميدان تقسيم. وأنهى المجلس البطريركي أي تعاون أو اتصال مع الحكومة العثمانية، وطالب اليونانيين بألا يصوتوا في الانتخابات العثمانية وألا يعلّموا في مدارسهم اللغة التركية، ويستقيلوا من أعمالهم في الإدارة العثمانية، وعلى مدار السنوات الثلاثة التالية وبموافقة من الحلفاء "كانت البطريركية اليونانية والأرمنية تصدر جوازات سفر لرعاياهما بدلا من جوازات السفر العثمانية".

في القسطنطينية استيقظت بفضل الحلفاء كل المشاعر السيئة، وتجلى كل شيء من الأحقاد والضغائن الدفينة، نبذ كثير من المسيحيين الطربوش واشتروا بدلا منه القبعات، بل إن بعضهم كان ينتزع الطرابيش عن رؤوس إخوتهم ويمزقها، تذكر الكاتب التركي الهزلي العظيم "عزيز نيسين" كيف رمى صاحب دكان يوناني الطربوش وظل يقفز فوقه لدهسه في الطين وهو يهتف: "يعيش فينزيلوس! يعيش فينزيلوس!". وعلقت والدة نيسين بالقول: "من كان يظن ذلك؟ لقد كان رجلا طيبا". لكن بعض اليونانيين ومنهم والدة نيسين تذكروا الصلات والتفاهمات العثمانية، ولم يرموا طرابيشهم، بل لفوها في ورق ووضعوها في أحد الأدراج، إذ ربما يحتاجون إليها في المستقبل".

وبينما عمت البهجة بين اليونانيين، أحس الأتراك أنهم غرباء في مدينتهم، كتبت خالدة أديب: "إننا لم نعد أمة بناة الإمبراطورية الذين لم تصبهم عقدة العظمة، كما كنا حتى عهد قريب... بل أصبحنا شعبا يعاني عقدة العظمة لبناة إمبراطوريات آخرين".

عمى القومية أصاب الجميع فما عادوا يرون الأفق العثماني للقباب والمآذن، والزوار المسلمين إلى أيوب، والقصور التي تصطف حول البوسفور، ولم يعودوا يرون سوى دخول الجيش اليوناني المظفر من "الباب الذهبي"، و "آيا صوفيا" مجرداً من المآذن، وخروج الكاهن ليستأنف القداس الذي انقطع منذ عام 1453.

صاحب هذا الصراع السياسي صراع مالي واقتصادي، فعمدت البنوك اليونانية إلى تضخيم قيمة الدراخما أمام الليرة التركية، بغرض مساعدة اليونانيين في شراء الممتلكات في إسطنبول. وضغطوا على اليهود لدعمهم.

بالإجمال فقد بات مصير المدينة العظيمة معلقا في حالة من التوازن الدقيق.

جاء الروس ولكن؟؟

في عام 1920 تعزز هذا الجو الكرنفالي باحتلال "سلمي" جاء من الشمال، في الفصل الختامي للقسطنطينية كعاصمة. أُجبر الجنرال رانغل القائد الأخير والألمع للقوات "البيضاء" (وهم الطرف الذي دعمه الحلفاء في الحرب الأهلية الروسية)، على الفرار من القرم، لتشهد القسطنطينية وصول طابور من مئة وست وعشرين سفينة تحمل قرابة مئة وخمسة وأربعين ألفا من الروس، ولسوء حظهم فلم يأت هؤلاء "فاتحين" لتعليق درع روسيا إلى الأبد على باب تساريغراد، على النحو الذي تمناه كثير من الروس سابقا، بل جاؤوا لاجئين قطعوا الرحلة إلى المدينة في حالة لا توصف من القذارة. وصل بعضهم جوعى وعطشى جدا، إلى درجة أنهم أنزلوا خواتم زواجهم على الحبال إلى أصحاب الدكاكين اليونانيين والأرمن مقابل الخبز والماء. كان عدد الجنود الروس الفارين في المدينة كبيرا جدا حتى بدوا كأنهم جيش احتلال آخر. وأخيرا جرى إيواؤهم في معسكرات الجيش الفرنسي في ليمنوس وتشاتالجا والدردنيل (في مقابل حصول الأسطول الفرنسي على السفن الروسية)، وفي كل يوم أحد بعد الخروج من الكنيسة كان فناء السفارة الروسية في شارع بيرا الكبير يزدحم بالروس الذين يتبادلون أخبار وطنهم، وأماكن وجود أقاربهم، وكذلك الأماكن التي يجدون فيها السعر الأفضل لجواهرهم.

في خلال بضعة أشهر أقام كثير من الروس علاقات مع أعدائهم القدامى الأتراك أفضل من علاقتهم مع إخوتهم المسيحيين الذين كانوا حتى وقت قريب متلهفين إلى "تحريرهم" (أي تحرير الروس لإخوتهم الأرمن واليونانيين من أسر العثمانيين).

لاحقا تذكر بارون سيرجي تورنو الكلولونيل الشاب في فوج بريوبراجينسكي "أن الأتراك عاملوه هو وأصدقاؤه بمنتهى الشفقة... أفضل كثيرا من اليونانيين". أما بالنسبة للأمير فولكونسكي فقد كان "اليونانيون جميعا غشاشين لأقصى حد. وكان لدينا دائما الانطباع بأن الأتراك هم أفضل من في المدينة". غصت شوارع القسطنطينية بضباط روس عليهم سيماء الجوع واللجوء، يقودون سيارات أجرة أو يبيعون الجرائد أو أربطة أحذية أو عرائس خشبية. وعمل أستاذ رياضيات جامعي صرافا في مطعم روسي، وعمل الفيلسوف غورجيف بائع كافيار، وعاد نقولاي تشاريكوف الذي كان سفيرا لروسيا في الأعوام 1909 -1912 إلى المدينة لاجئا، وعاش حياة بسيطة في بيبك التي كان يتسوق فيها بنفسه، وكانت زوجته تعطي دروسا في اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

فتح الروس مطاعم بأسماء لامعة، لم تستطع المطاعم التركية أن تنافسها، كانت بعض النادلات من عائلات نبيلة (كان النادلات في مطعم "موسكوفيت" يعرفن باسم "الدوقات") نال سموهن وأناقتهم إعجاب الروائي الفرنسي بول موراند الذي قالت له آنا فالنتينوفنا: "أنظر إلى القسطنطينية: إن الفقر منتشر إلى حد لا يصدق، والإسراف جنوني أكثر من أي وقت مضى، والناس يشربون ويحتالون ويغيظ بعضهم بعضا، ويموتون ويصنعون صفقات بخداع وغش يذهلان بيرا نفسها".

جلب الروس معهم الكثير والكثير من مظاهر الفساد ومن بينها الاستحمام المختلط على البحر. وإذا كانت القسطنطينية قد بعثت في الأتراك واليونانيين الطموح الإمبراطوري إلى أقصاه فإنها دفعت بالروس إلى حضيض الفسوق والانحطاط.

ونظرا إلى أن الروس كانوا يحتاجون المال لشراء التأشيرات إلى أوربا الغربية, فإنهم كانوا مستعدين لفعل اي شيء. "لقد أحدثت النساء الروسيات في عامين دمارا أكثر مما فعلته الجيوش الروسية في قرون".

إسطنبول على وقع الاحتلال

على أن القسطنطينية نجت من بعض الأهوال، ولم ترق فيها الدماء، لكن المذكرات التركية تكشف عن كرامة جريحة أكثر مما تكشف عن معاناة مادية، إذ اشتكى الأتراك من "السخريات التي لا تطاق" من جانب اليونانين والأرمن. ومن التصرفات "الذميمة" على العبارات وفي عربات الترام، فكانوا يتهمون بجرائم من نوع ركوب درجة أولى بتذاكر درجة ثانية، أو أن يعطي كومسارية الترام المقاعد للآخرين بينما يطردون المسلمين.

وإذا ما غضضنا الطرف عن الفقر والسخط في شوارعها الجانبية فقد انتشرت في القسطنطينية مظاهر الفساد والشرب والرقص وتراجع الروابط الأسرية، كانت القسطنطينية مليئة بالجنود والبحارة الأجانب الذين لديهم الكثير من المال لإنفاقه. في مسرحيته "الجبانة الصغيرة" كتب ضياء مفتي زاده بيه الذي كان ابن واحد من آخر وزراء الخارجية العثمانيين: "كان هناك الكثير من التحرش من الذكور والإناث، حتى إن الرجل الذي يحترم نفسه لم يكن يذهب ثانية إلى هذا المكان".

كل هذا ترك آثارا لا يستهان بها في البيئة التركية المحافظة، وبدأت النساء يظهرن في الشوارع سافرات، وأصبح الأمر مقبولا باستثناء بعض المناطق المحافظة مثل بايزيد، وأقبلت النساء على العمل في الأماكن العامة بدافع الفقر والحاجة، ككناسات للشوارع وعاملات في الدكاكين، أو في مكتب البريد، وصرن يشاركن في الاجتماعات السياسية. أما النساء الأكثر ثراء فيقمن حفلات الرقص المختلطة ويذهبن إلى الفنادق الكبرى.

يتجلى الوهم الكوزموبوليتاني لإسطنبول المحتلة التي شبهها ثيوتوكاس بـ"باليه من المجانين"، في هذه المقتطفات من محادثة سجلها الكاتب الأمريكي جون دوس باسيس:

"آه يا سيد لقد مررنا بأيام عصيبة"

"أعاد الله علينا أيام عبد الحميد الجيدة"

"يجب أن يجمع كل البلوش (البلاشفة) من المدينة ويسحبوا إلى البحر الأسود في سفن مخرمة ويتركوا هناك"

"هراء! اليونانيون هم السبب، والبريطانيون والفرنسيون والبلغاريون وعصبة الأمم والأتراك. أقترح أن يجعلوها مدينة محايدة ويعطوها لسويسرا، إنه الحل الوحيد."

نهاية الاحتلال

بين عامي 1918 و1924 باتت القسطنطينية ساحة للعبتين كبيرتين: لعبة الأمم بين الإمبراطورية العثمانية واليونانيين والغرب، مثلما هي ساحة بين سلطة الخلافة العثمانية ورعاياها المسلمين، في محاولات مستميتة لإنقاذ عاصمتهم العظيمة.

في واقع الأمر لم تكن القسطنطينية ساحة حرب بين الوطنيين والبريطانيين وحلفائهم وحسب، بل كانت ساحة حرب أخرى وتنافس شديد بين الحلفاء بعضهم وبعض، يقودها البحث عن توازنات القوة التي طالما لعب فيها العثمانيون الدور الأكبر على مدى قرون. وهكذا فقد "كانت السياسة الواقعية إلى جانب العقلية الإمبريالية هي التي توجه السياسة البريطانية، كانوا يرون أن اليونان القوة الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط هي الأنسب لحماية الطريق البريطاني إلى الهند، فقد كانت "قوية بما يكفي لتجنيبنا النفقات في زمن السلم، وضعيفة بما يكفي لكي تكون خانعة لنا تماما في زمن الحرب". على نحو ما كتب أحد موظفي كرزون وهو هارولد نيكلسون (الذي لم ينس أن يعبر عن كراهيته للعثمانيين التي كونها خلال عمله الدبلوماسي في إسطنبول في العامين 1912-1913، في روايته "المياه الحلوة" التي نشرت في عام 1923).

في شباط/ فبراير 1920 قررالمجلس الأعلى للحلفاء في اجتماعه بباريس وعلى الرغم من معارضة كرزون ولويد جورج أن القسطنطينية لن تصبح دولية ولا يونانية، ذلك أن الدين والعائلة العثمانية والجغرافية كلها تصر على أنها تركية.

وكانت الحقيقة التي صدمت الجميع هي أن إسطنبول كانت "مهمة أوسع وأخطر" من أن تحكمها دولة بعينها، حتى لو كانت بريطانيا العظمى، وهي في أوج مجدها.

في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 1923 أقيمت مراسم جلاء قوات الحلفاء عن إسطنبول. دام احتلال الحلفاء لإسطنبول أربع سنوات وأحد عشر شهرا أي أطول بسبعة أشهر من الحرب العالمية الأولى نفسها، نجت إسطنبول ودمرت الإمبراطورية، ودمر معها التعايش بين الجاليات، وخلف تحالف الأقليات المعلن مع المحتلين في نفوس كثير من الأتراك تصميما على التخلص منهم، فضلا عن الشعور بالاشمئزاز من الحضارة الغربية.

من عاصمة إلى رمز للأمة

في الجانب الآخر أصبحت أنقرة معقلا للوطنيين، وتستعد لتكون العاصمة المقبلة.

عندما اشتدت ضراوة القتال في أواخر يوليو/ تموز عام 1922 طلب الجيش اليوناني من الحلفاء الإذن بدخول إسطنبول، لكن الحلفاء رفضوا وعززوا مواقعهم على طول تشاتالجا، وهكذا وأيا كانت الأسباب، أو حتى الحظ نفسه، ومهما كانت أهوال احتلال الحلفاء فإنهم أنقذوا إسطنبول من احتلال اليوانانيين لها.

"يظهر واحد من أوائل الأفلام للإسطنبول تم تصويره في نوفمير 1922ضفاف القرن الذهبي والبوسفور ومياههما تعج بالسفن من كل صنف، بوارج حربية وسفن بخارية وزوارق شراعية وسفن تجديف. كانت هناك أوامر من الحلفاء بتدمير كل السفن، طاعة الأوامر حينها كانت تعني تدمير الحياة في إسطنبول، ومرة أخرى ساعد توازن القوة في الحفاظ على المدينة وحمايتها من التدمير.

وفي التاسع من أيلول/ سبتمبر وعندما صل مصطفى كمال بقواته إلى إزمير التي ترزح تحت احتلال اليونانيين، أشعلت النيران في "باريس المشرق"، وفرّ اليونانيون بالسفن وأسر قائدهم العسكري، تريكوبي سليل عائلة مافرو كورداتو، وكانت بداية نهاية الاحتلال.

قبل سنوات عند وصول أخبار الانتصارات اليونانية كانت شوارع القسطنطينية تمتلئ بشاحنات محملة عن آخرها بجنود يونانيين يغنون الأغاني الوطنية اليونانية، ويلوحون بالأعلام اليونانية الزرقاء والبيضاء، لكن هذه المرة جابت السيارات شوارع إسطنبول مملوءة بالزهور وصور مصطفى كمال، وأغاني الأتراك الذين يصدحون له "ألف يعيش".

وفي شوارع إسطنبول تبادل الأتراك نظرات النصر والبهجة، واكتظ آيا صوفيا، رمز الانتصار العثماني، بالمصلين، إلى درجة أنهم اضطروا إلى فتح صالات مقتنياته أمامهم.

لقد شاركت في صنع تاريخ القسطنطينية عوامل كثيرة وشخصيات عظيمة، بيد أنه لم يؤثر في المدينة أحد منذ محمد الفاتح نفسه مثلما أثر فيها مصطفى كمال. ففي الثالث عشر من أكتوبر وبعد جلاء الحلفاء صادق المجلس الوطني الكبير على تعديل للدستور نصه: "أنقرة هي مقر الحكومة التركية". وفي ليلة التاسع والعشرين على الثلاثين من أكتوبر استيقظ سكان إسطنبول على أصوات مائة مدفع ومدفع واحد تحية لإعلان الجمهورية. وأصبحت المدينة التي ظلت عاصمة إمبراطورية لألف وخمسمائة وثلاث وتسعين عاما أي أطول من أي مدينة أخرى في العالم المدينة الثانية في الجمهورية.

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس