د. علي حسين باكير - القبس

دخلت أنقرة، مساء أول من أمس، على خط التوتر الأميركي-الروسي في محاولة لاحتواء التصعيد الخطير بين الدوليتن في سوريا. وفي هذا السياق، كشف رئيس لجنة الدفاع الروسية في الدوما الروسي فلاديمير شمانوف، عن لعب تركيا لدور الوسيط في الازمة الحالية بين البلدين على خلفية استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في مدينة دوما. واستناداً الى ما قاله شمانوف، فإن تركيا أمنت خط اتصال بين المسؤولين العسكريين في البلدين.

وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد صرّح بأنّ بلاده تبحث تحديد الجهة المسؤولة عن قرار استخدام السلاح الكيماوي، وعمّا اذا كان الأسد أو روسيا أو إيران أو جميع هذه الأطراف تتحمل المسؤولية، لكنّه خلص الى نتيجة أمس مفادها أنّ النظام السوري وروسيا هما المسؤولان عمّا جرى، وانه ما كان على روسيا ان تدعم نظام الحيوان كما اسماه. تواصل الرئيس الأميركي بعد ذلك مع نظيره التركي رجيب طيّب أردوغان، حيث ناقش الزعيمان الملف السوري، تلاه اتصال بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.

فسّر البعض سريعاً الجهود التركية المشار إليها أعلاه على أنّها جزء من حملة لحماية نظام الأسد تفرضها متطلبات الحفاظ على المكاسب الميدانية التي حققتها أنقرة مؤخراً في الشمال السوري. وقد عبّر البعض عن مثل هذا التوجّه وإن بشكل مخفف بالقول بأنّ الجهود التركية ستحمي الأسد في نهاية المطاف من عمل عسكري. لكن مثل هذا الافتراض يتناقض مع الوقائع من جهة، وينطوي على عدد من المغالطات من جهة اخرى.

التسليم بوجود ضربة عسكرية أميركية ضد الأسد هو امر غير دقيق في أفضل الأحوال. مثل هذا الانطباع جاء نتيجة لتغريدة ترامب، التي قال فيها «روسيا تتعهد بإسقاط الصواريخ التي سيتم اطلاقها باتجاه سوريا. استعدي روسيا لأن الصواريخ ستأتي وستكون جميلة وذكية. لا ينبغي على روسيا ان تكون شريكة مع حيوان يقتل شعبه ويستمتع بذلك».

لكن التصريحات التي صدرت بعد ذلك عن وزير الدفاع الأميركي أعطت مؤشرات مختلفة تماماً، إذ قال الأخير أنّهم يقيّمون المعلومات الاستخباراتية وأنّهم جاهزون –كوزارة دفاع- لتقديم خيارات عسكرية اذا كانت ملائمة. فُهِم من تصريح ماتيس بأنّ ترامب لم يقم حتى الآن باعطاء تعليمات بتقديم خطط عسكرية، فضلاً عن إعطاء الأوامر باعتمادها او تنفيذها، وهو الامر الذي أكّده ترامب نفسه لاحقاً في تغريدة له قائلاً «لم أقل قط متى سيحدث الهجوم على سوريا. قد يكون قريبا جدا وقد لا يكون بتاتا».

اذاً، من غير المؤكّد في الأصل أنّ هناك ضربة عسكرية ستنفّذ ضد نظام الأسد، وعليه فمن غير المنطقي القول بأنّ الجانب التركي يتوسط بين أميركا وروسيا لإعفاء نظام الأسد من ضربة عسكرية غير موجودة وغير مؤكدة على الأقل حتى حينه. أضف الى ذلك انّ مثل هذا الاتهام يتناقض مع المواقف التركية من نظام الأسد في عدّة مناسبات مؤخراً.

معاقبة الأسد
في ما يتعلق بالمجزرة الكيماوية الأخيرة، دانت تركيا بشدّة استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، وأكّدت استناداً إلى المعلومات الاستخباراتية الواردة إليها فضلاً عن المعلومات التي توافرت من المصادر المفتوحة استخدام مواد كيماوية في الهجوم على دوما. وفي هذا السياق، يؤمن المسؤولون الاتراك بضرورة معاقبة الأسد على ما ارتكبه إضافة الى ضرورة تنحيته عن السلطة، وهو ما أكّده وزير الخارجية بشكل واضح لا يقبل الالتباس في تصريحه يوم الأربعاء الذي قال فيه إنّ الأسد قتل نحو مليون مواطن سوري بواسطة الأسلحة التقليدية والأسلحة الكيميائية، ويجب تنحيته، والانتقال إلى مرحلة الحل السياسي.

لكن قد يجادل البعض بأنّ التصريحات التركية كثيرة، وبعضها متناقض مع بعضه الآخر. مثل هذا الأمر قد يكون صحيحاً في الغالب، إذ إنّ جزءًا من الالتباس في تفسير المواقف التركية يعود بطبيعة الحال الى الساسة الأتراك الذين يعتمدون منذ فترة طويلة على سياسة شعبوية تُخلَط فيها الرسائل الخارجية بنكهة داخلية قبل ان يتم توجيهها الى الجمهور المحلي، متناسين بأنّ هناك جمهوراً خارجياً يتابع هذه التصريحات ويرصدها ويقيّمها ويحاسب على أساسها. لكن ذلك لا يعني أنّ كل التصريحات تصب في الخانة نفسها، وأنّه لا يمكن التمييز بين المواقف الصحيحة وتلك الموجّهة للاستهلاك الداخلي.

على سبيل المثال، قبيل تواصله مع الرئيس الروسي بوتين، أكّد الرئيس التركي وقوفه ضد قيام روسيا بدعم الأسد، وضد قيام الولايات المتّحدة بدعم الميليشيات الكردية، قائلاً «أولئك الذين يدعمون الأسد في سوريا يرتكبون خطأً، وأولئك الذين يدعمون الميليشيات الكردية (واي بي جي) يرتكبون خطأً أيضاً. تركيا ستقف ضد الموقفين». من الممكن القول إنّ هذا الموقف هو الأوضح والأكثر شفافية إزاء الحسابات التركية في سوريا وهو يشكّل تعريفاً مقتضباً للمعيار الذي يحدد المصالح التركية هناك.

موقف مبدئي
بطبيعة الحال، ما يريده الجانب التركي شيء، وما يستطيع فعله شيء آخر يعتمد على موازين القوى والتحالفات والسياسية الإقليمية والدولية، وهو أمر يفشل كثير من المتابعين عن تمييزه، فضلاً عن إدراكه ممّا يؤدي في النهاية الى تقييم خطأ للموقف التركي أو انطباع خطأ لماهية السياسة التركية في هذا الملف.

الموقف المبدئي لتركيا من الأسد لم يتغيّر من رفض الأسد الى قبوله، لكنّ ما تغيّر هو قدرة تركيا على الاطاحة بالأسد بشكل منفرد، وتحوّل سلّم الأولويات مع صعود الميليشيات الكرديّة لتصبح الخطر الأبرز على الأمن القومي التركي داخليا. المعلومات تقول إنّ روسيا وإيران ضغطتا على أنقرة قبيل عملة عفرين لإجراء تواصل مباشر بين الحكومتين التركية والسورية في محاولة لتطبيع علاقات تركيا مع نظام الأسد في وقت كان يبدو فيه انّ الجميع استسلم لهذا الأمر، الاّ انّ الجانب التركي رفض ذلك. عملياً، علينا ألا ننسَ أنّ القوات التركية قصفت مؤخراً مواكب قوات وميليشيات النظام التي تمّ إرسالها باتجاه عفرين، وأعتقد أنّه لا أقوى من هذه الرسالة عندما يتعلّق الأمر بالمواقف العملية.

صدام أميركي – روسي؟
ما يهم تركيا من خلال فتح قنوات اتصال بين الطرفين الأميركي والروسي هو عدم حصول اصطدام مباشر بينهما في سوريا. انقرة تتمتع بعلاقات مع الطرفين، وهي تحتاج إليهما لاستكمال استراتيجيتها في سوريا، والتي تقوم على دفع الميليشيات الكردية بعيدا عن حدودها، وإنشاء منطقة آمنة، وإعادة اللاجئين، والتوصل الى حل سياسي بالاستناد الى مخرجات جنيف والقرارات الدولية.

في هذا السياق، أنقرة حققت تقدماً صعباً ومكلفاً في الملف السوري خلال العامين الماضيين، وهي لا تريد أن ترى الجهود التي بذلتها تذهب سدى. أي صدام أميركي – روسي من وجهة النظر التركية سيؤدي الى تدمير الاستراتيجية التركية، كما أنّه سيضع أنقرة من جديد في موقف صعب للغاية، فضلاً عن الأضرار الهائلة التي ستلحق بما تبقى من سوريا كدولة وكشعب، من دون وجود ضمانة أكيدة بأن يؤدي ذلك الى مكاسب ملموسة كتغيير النظام السوري أو ربما فرضه تسوية سياسية عليه، وهو امر مستبعد اذا ما دخلت واشنطن وموسكو في مواجهة مباشرة.

بغض النظر عمّا اذا كان هذا التقييم التركي صحيحاً أم لا، الا أنّ صانع القرار التركي يعتقد أنّ روسيا أخطأت في دعم الأسد وأنّها تتحمّل جزءا من المسؤولية، لكنّ السؤال يبقى: ما هو الثمن الذي سيتم دفعه لايقاف أي عمل عسكري في حال تمّ اعتماده لاحقاً بالفعل؟ بعض المصادر تشير الى انّ السقف الحالي منخفض جداً، وقد يقتصر على بعض إجراءات تقنيّة تتعلّق بالسماح للجان دولية تحديد المسؤوليات من دون تدخل مباشر في عملها، وحصر استخدام السلاح الكيماوي والتأكد من تقييده، فيما يأمل آخرون أن يرقى الأمر الى مستوى الإطاحة بالأسد كثمن مقبول لجميع الأطراف أو أن يتم استغلال الزخم الحاصل حالياً للدفع باتجاه تسوية سياسية استناداً الى القرارات الدولية.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس