علي حسين باكير - العرب

مع دخول العام الجديد، بدأت الحكومة التركية إعادة ضبط أولوياتها تبعا لما ستتطلبه المرحلة القادمة من إجراءات على الصعيد الداخلي والخارجي، وباستطاعتنا أن نرى أنّ التركيز على الشق الداخلي سيحتل الأولوية خلال فترة وجيزة جدا، كما أن السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق الأوسط قد تشهد بعض التعديلات تبعا للأحداث المرتقبة ناهيك عن المبادرات المنتظرة في مناطق خارج هذا الحزام. وفي خلفية هذا المشهد سيكون الاقتصاد كما كان العنصر الأساسي في الاستراتيجية الكبرى للبلاد، فهو الهدف والأداة والوسيلة في الوقت نفسه.

على الصعيد الداخلي، سنشهد مرة أخرى وخلال أشهر قليلة انطلاق الاستعدادت لإجراء الانتخابات العامة المزمع عقدها في يونيو القادم، وهذا يعني أنه وبدءًا من شهر مارس على الأقل ستعود الأولوية بالنسبة إلى صانع القرار التركي إلى الوضع الداخلي، خاصّة أنّ حزب العدالة والتنمية يحاول أن يحقق هدفا في غاية الصعوبة وهو الفوز بـأعلى من %50 من الأصوات، ولا شك أنّ موضوع مشروع الدستور الجديد سيحظى بأولوية أيضا نظرا لارتباطه بشكل النظام السياسي المراد تحقيقه والذي يتمثل في الطموح بالوصول إلى نظام رئاسي أو نصف رئاسي.

ورغم استمرار الحملة الحكومية ضد ما تسميه "التنظيم الموازي"، فإن الملف لم يعد يشكّل تهديدا على الحكومة بالشكل الذي كان عليه سابقا، ولذلك فإن جزءًا من الجهد سيتركز على موضوع عملية السلام الجارية داخليا.

لكنّ هذا التوقيت في الاستحقاق الداخلي يتقاطع مع استحقاقات إقليمية مهمة أبرزها على الإطلاق الملف السوري؛ حيث من المفترض أن يتم البدء عمليا ببرنامج تدريب وتسليح المعارضين السوريين، إضافة إلى استحقاق آخر يرتبط بالمفاوضات الأميركية– الإيرانية حيث سيكون بالإمكان خلال هذه الفترة نفسها توقع إذا ما كانت هذه المفاوضات تتجه إلى اتفاق محقق أو فشل محقق ربما مع ما قد يترتب على أي من السيناريوهين من انعكاسات على طبيعة التحالفات التقليدية في المنطقة أو على الملفات الساخنة المشتعلة فيها.

ففيما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط لا يزال التركيز على المبادئ الأساسيّة للسياسة الخارجية التركية تجاه بعض الدول واضحا، كالحفاظ على وحدة وسيادة العراق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تحقيق الأهداف المشروعة للشعب السوري والمساعدة على إرساء قواعد الديمقراطية في البلاد ومحاربة الإرهاب بعد الإطاحة بالأسد.

أمّا العلاقة مع إسرائيل فستبقى معلّقة على الأرجح كما هي الآن حتى وإن تمّ حل المشاكل الموجودة بين الطرفين خلال هذه الفترة؛ إذ إن إعادة العلاقة مع تل أبيب قبيل فترة وجيزة من الانتخابات العامة قد لا يكون أمرا محبّذا بالتأكيد، ولا حكيما من الناحية السياسية الصرفة في ظل أجواء شعبية غير متقبلة ولاسيَّما وأن لا تغيير جذري في سياسات تل أبيب وبالتالي لا مسوغ مقبول لإعادة وصل ما انقطع إلا إذا حصل تحول إيجابي في هذا الخصوص من الجانب الإسرائيلي لاسيَّما تجاه القضية الفلسطينية.

هناك العديد من المؤشرات على إدراك صانع القرار التركي لصعوبة الموقف التركي في الشرق الأوسط مؤخرا وضرورة فعل شيء حيال ذلك، ويبدو أن الأتراك سيحاولون التخفيف من حدّة نزاعهم مع بعض الدول الإقليمية بحيث يتم الإبقاء على الحد الأدنى من خطوط التواصل للحد من التوتر وللحيلولة دون الوصول إلى مرحلة القطيعة أو العداء وما قد ينجم عنها من تداعيات تقعّد من الأوضاع المعقدّة أصلا في الشرق الأوسط. كما قد يدفعهم هذا الوضع إلى إطلاق مبادرات أو جهود إيجابية في أماكن أخرى، كقبرص أو العلاقة مع أرمينيا أو التركيز على إفريقيا.

وبموازاة هذه المواضيع السياسية محليا وخارجيا، يبقى الاقتصاد هو العنصر الأهم في المعادلة، فهو المحرك الأساسي والرئيسي لأجندة الحزب وهو الدافع وراء حصوله على شعبية جارفة ووراء صعود موقع ودور تركيا إقليميا. في هذا العام ستعقد مجموعة العشرين اجتماعها في مدينة أنطاليا التركية بوصف أنقرة رئيسة لمجموعة الـ (20) الكبرى، وستعقد قمم وزراء المالية ورؤساء البنوك المركزية في العالم في تركيا أيضا، ولذلك فسيكون التركيز على البعد الاقتصادي أيضا في أوجه. وقد يتطلب منها الحفاظ على معدلات نمو مقبولة أو مرتفعة تعديل أو إعادة تموضع سياسي في بعض القضايا السياسية الإقليمية، كما قد يضطرها إلى إعادة انفتاح أوسع على أسواق أوروبا وآسيا الوسطى.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس