أرجون ديلر - صحيفة تقويم - خاص ترك برس

لا يمكن لتركيا البقاء خارج الأحداث الدائرة في المنطقة، لأنها بمثابة القوة الكبرى  والعقل الإداري لمعظم شؤون المنطقة، ومهما حاولت الابتعاد إلا أن طريقة جريان التطورات تجبرها على التدخّل، لأن السيناروهات المكتوبة في الخارج أكبر بكثير من المتوقّع.

بدايةً نذكر أنه لا يمكن لأمريكا أن تكون حليفةً لفرنسا وذلك بسبب اختلاف الأهداف والغايات، إذ تسعى واشنطن وباريس لتشكيل قوة في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، وكذلك حاولت أمريكا خلق المشاكل بين فرنسا وروسيا من خلال مخططات عديدة، ولكنها باءت بالفشل في كل محاولة، كما أن اتفاق أمريكا-فرنسا-بريطانيا خلال الهجمة العسكرية المنفّذة ضد النظام السوري لا يعني أن هذه الدول قد أصبحت ضمن تحالف دائم، لأن هذا الاتفاق لم يكن شاملاً ولا يحمل أي تأثير على السياسات التي تتبعها هذه الدول، أي إن فرنسا لن تلتق بأمريكا وبريطانيا في أي نقطة مشتركة كما هو الحال بالنسبة إلى المئة عام السابقة.

وكذلك عند النظر إلى علاقات العائلات الكبيرة لهذه الدول فإن هذا التحالف شبه المستحيل أيضاً، إذ تم تنفيذ هجمات عديدة ضد الجنود الفرنسيين في أفريقيا، وبالتالي جاء الرد من باريس بالطريقة ذاتها ضد أمريكا، أي إن واشنطن وباريس -التي لم ترضى بتقاسم وحدات الحماية الشعبية في سوريا وأرادت أن تكون القائد الوحيد في المنطقة- قد وصلت إلى حافة الحرب لعدة مرات، لكن اتخذت وزارة الدفاع الأمريكية قراراً تاريخياً في سنة 2014، وبدأت بتنفيذ مخططاتها من أجل خلق حرب جديدة بين روسيا وفرنسا.

وكانت خطوات المخطط الأمريكي على الشكل التالي: بدايةً يجب اغتيال أحد أفراد العائلة الفرنسية في العاصمة الروسية موسكو، وبناء على ذلك تم اختيار مطار "نوكوفا" لتنفيذ عملية الاغتيال، وتم تنفيذ العملية ضمن اتفاق بين وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وحلف الشمال الأطلسي، بدايةً اعتقد الفرنسيون أن العملية مدبرّة من قبل روسيا، وبالتالي جاءت تصريحات متتالية أدت إلى زيادة التوتر بين روسيا وفرنسا.

كان الهدف الرئيس اغتيال أحد أفراد عائلة روتشيلد، وبالتالي خلق صراع جديد بين موسكو وباريس، لكن تمكنّت الاستخبارات الروسية والفرنسية من إثبات أن عملية الاغتيال كانت مدبّرة من الاستخبارات الأمريكية، وفي هذا السياق قام "هوللاند" الرئيس الفرنسي في تلك الفترة بزيارة مطار نوكوفا والاجتماع بنظيره الروسي "فلاديمير بوتين" وبالتالي أوصل لأمريكا رسالةً مفادها أنها قد باءت بالفشل لأن موسكو وباريس  أدركت أن عملية الاغتيال كانت مدبّرة من قبل وكالة الاستخابات المركزية.

إن تصرف هوللاند بخلاف هذا الشكل كان سيدفع روسيا إلى تنفيذ هجمة نووية ضد فرنسا، أي إن وزارة الدفاع الأمريكية قد أجرت جميع حساباتها بشكل دقيق، وسيتم عكل عملية الاغتيال للعالم على أنها مدبّرة من قبل موسكو، لكن استطاعت الاستخبارات الروسية-الفرنسية إنقاذ العالم من هذه الورطة الكبيرة.

في حين أن الهجمات الإرهابية المنفّذة في فرنسا كانت مدبّرة من قبل تنظيم غلاديو، لأن سعي أمريكا لتكون القوة الوحيدة في أفريقيا يضطرها  لإضعاف شوكة فرنسا في المنطقة، وإلا فإن جميع مخططات وزارة الدفاع الأمريكية ستبوء بالفشل، وذلك يشير إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية لطالما كانت مصدر الفوضى في فرنسا.

أما بالنسبة إلى الاحتجاجات والانتفاضات التي تشهدها فرنسا فإنها مدبّرة من قبل جناح غلاديو التابع لحلف الشمال الأطلسي، كما أن الفريق الذي ساهم في خلق حرب دامية في الداخل الفرنسي من خلال احتجاجات 1 أيار/مايو والذي يصل عدده لـ 1200 عنصر كان بمثابة تأشيرة الدخول التي يستخدمها حلف الناتو منذ سنة 1960، ولا يشعر بالحاجة لإخفاء هذه الحقيقة، كما انتقل 600 عنصر من هذا الفريق من بلجيكا إلى فرنسا في 28 نيسان/أبريل، وبذلك يتبيّن أن الاستخبارات الفرنسية قوية جداً، ولكن المؤسسات الأمنية ليست كذلك، وذلك بسبب وجود حروب باردة بين الاستخبارات والمؤسسات الأمنية الفرنسية، والسبب الأكبر في هذه العداوة هو اختلاف وجهات النظر بين الطرفين، إذ تميل الاستخابارات الأمريكية للفكر اليميني في معظم أوقاتها، في حين أن المؤسسات الأمنية تميل للفكر اليساري، وفي هذا السياق عند النظر إلى تصريحات قادات الأحزاب الفرنسيين عقب ملحمة 1 أيار/مايو يمكن رؤية أن جميعهم يلقون اللوم على بعضهم البعض، إذ صرّح زعيم الحزب اليساري المتشدّد "ميلانشون" بأن مصدر ملحمة 1 أيار/مايو هو الأحزاب اليمينية، في حين أفاد زعيم الحزب اليميني "مارين لو بين" بأن منفّذ هذه العملية هي المجموعات اليسارية.

زعيما كلا الحزبين يدركان جيداً أن فرع غلاديو الأمريكي هو المسبب الرئيس لهذه الأحداث، ولكن لا يمكنهم القول إن واشنطن تقف خلف الهجمات المنفذة في فرنسا كما هو الحال بالنسبة إلى جميع الفرنسيين، لأن التصريح بمثل هذا البيان سيدفع الشعب الفرنسي إلى مطالبة حكومتهم بالرد، وفرنسا لا تستطيع مواجهة أمريكا بشكل مباشر.

الآن لننتقل إلى مسألة أرمينيا، زعيم المعارضة الأرمنية "نيكول باشينيان" هو الشخص الذي لعب دوراً رئيساً في عزل "سيرج ساركيسيان" عن منصبه، باشينيان يمثل الجناح الفرنسي في أرمينيا، إذ توجّه فرنسا ردود الأزمات الدخالية لأمريكا وبريطانيا من خلال أرمينيا، حين ترشّح باشينيان لمنصب رئاسة الوزراء أفاد بهذه العبارة: "سيتم انتخابي لمنصب رئاسة الوزراء، وإن عدم نجاحي في الانتخابات سيؤدي إلى دخول أرمينيا في أزمة كبيرة"، وعقبها لم يتم انتخابه لهذا المنصب.

في هذا السياق طالب باشينيان بالاحتجاج وإغلاق المطارات والطرق وإثارة الفوضى في شوارع البلاد، أي إن فرنسا كانت توجه ردودها للاتفاق الأمريكي-البريطاني بهذه الطريقة.

وكذلك هو الوضع بالنسبة إلى مدينة "غامبيا" الأفريقية أيضاً، إذ تُعتبر غامبيا المدينة الأصغر حجماً في القارة الأفريقية، ولكن ازداد التوتر لمرات عديدة بين أمريكا وفرنسا وبريطانيا بسبب هذه المدينة.

أمريكا وبريطانيا هي قوى عظمى، ولكن فرنسا أيضاً تملك قوةً لا يُستهان بها في الشرق الأوسط بسبب وجودها في أفريقيا، وإن خسارة فرنسا لإحدى مراكزها سيؤدي إلى زوال قوتها بشكل تدريجي في المنطقة بأكملها وتبدأ بخسارة أفريقيا والشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط بأكملها، وبالتالي ستبدأ الأزمة الحقيقية بالنسبة لها، في جميع الأحوال يمكننا رؤية تراجع فرنسا في الشمال الأفريقي خلال الفترة الأخيرة، وعند خسارتها لهذه المناطق الثلاث لن تستطيع مقاومة الأزمات الداخلية أيضاً، لأن تنظيم غلاديو يملك قوةً تكفي لإثارة الفوضى في جميع أنحاء أوروبا، وإن قوة الاستخبارات الفرنسية لا يلغ هذا الخطر بشكل نهائي.

نظراً إلى أن باريس لن تتمكّن من إرسال العملاء إلى واشنطن و ولندن يمكننا استبعاد احتمال الرد بالمثل، لكن قد تنشب حرب جديدة في سوريا في هذا الصدد، إذ تُعتبر سوريا المساحة الوحيدة الملائمة لرد فرنسا على مبادرات أمريكا وبريطانيا، لذلك يجب أن لا ننخدع بأن أمريكا وفرنسا وبريطانيا تعمل ضمن اتفاق سياسي، إذ كانت تلك المرحلة عبارة عن اتفاقات يومية تم تنفيذها من أجل السيطرة على مجرى الأحداث فقط.

أفاد ترامب مسبقاً بأنه سيسحب قواته من سوريا، وذكر لاحقاً أنه يجب عليهم تنفيذ عملية عسكرية في الأراضي السورية، واليوم يزعم أن داعش استعادت قوتها في المنطقة، أي عاد ترامب لفتح قضية داعش مرة أخرى، والخلاصة هي أن جميع الدول تحاول ضبط الموازين بما يناسب مصالحها الشخصية، وعند تغيّر الموازين تلجأ إلى تركيا وتحاول الاتفاق معها من أجل تحويل كفة الموازين لطرفها.

مهما اختلفت نقاط النظر نحو المسألة فإن تركيا تظل في مركز التطورات، ولذلك تحاول الأخيرة استخدام هذا التوازن بما يخدم مصالحها القومية.

عن الكاتب

إرغون ديلار

إعلامي وكاتب لدى صحيفة تقويم التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس