د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

انخفاض سعر الليرة التركية المفاجئ وبوتيرة سريعة، هو حديث الساعة اليوم، ومحط اهتمام جميع المواطنيين الأتراك والمقيمين العرب بتركيا، وقلق واهتمام كثير من المراكز والقنوات الصديقة، وتلهف وفرحة كثير من المحطات والجهات المتربصة بتركيا.

لكن الكل يسأل: لماذا هذا التدهور للعملة التركية الذي لم تعهده خلال حكم العدالة والتنمية التركي على مدى الخمسة عشر سنة الماضية...!!؟؟

هل هناك أسباب اقتصادية تستدعي هذا التدهور!!؟؟

أم أن هناك مؤامرة خارجية وأيادي خفية تريد تحقيق ما لم تستطع تحقيقه خلال الانقلاب العسكري الفاشل...!!؟؟

أم أن البنية الاقتصادية التركية والمؤسساتية، والنظام الاقتصادي التركي أصبح عاجزاً أمام صد هذه الضربات الاقتصادية..!!؟؟

الجواب يقول بأن كل وجهات النظر السابقة لها نصيب من الحقيقة والسببية، لكنها ليست السبب الوحيد وراء هذا الانخفاض المباشر...

فهناك عوامل خارحية وهناك عوامل داخلية...

وهناك عوامل اقتصادية وعوامل سياسية..

1- نظرية المؤامرة والثقافة السياسية: أولاً يجب التذكير بأنه من الخطأ الشديد اختزال كل ما يحدث من انخفاض للعملة التركية بأنه نتيجة مؤامرة خارجية ضد تركيا، التي لا يُراد بها التقدم والازدهار، وأن يكون لها دوراً وموقفاً بالمنطقة.

خطورة هذا التفكير الاختزالي، هو أنه يصرف النظر ويغض الطرف عن كل التقصير، وربما الأخطاء والخلل بالبنية الاقتصادية الموجودة من ناحية، ومن ناحية أخرى يَخلق نوعاً من زعزعة الثقة بتركيا، وإخافة المستثمر وجعله يشعر بأن تركيا محاربة سياسياً واقتصادياً، وأنه لن تقوم لها قائمة، فينقلب ضد تركيا ويضرها من حيث لا يشعر، حتى وإن حقق هذا التفكير نوعاً نت التضامن والتآزر والتكاتف.

كما أن اختزال الامر بالايادي الخارجية لا يتفق ايضاً مع قواعد الاستثمار والاقتصاد وقوانيين التجارة.

فالقاعدة الذهبية الأولى بالاستثمار تقول إن "رأس المال جبان" والثانية تقول: "المستثمر لا يعرف العواطف الاحاسيس وهمه الربح والأمان".

فالمؤامرة والأيادي الخارجية كانت موجودة،وهي اليوم موجودة أيضًا، وستظل موجودة على مدى التاريخ، وليس المهم هو وجودها من عدمه، المهم هو هل تملك أنت الحصانة والمناعة والوقاية الكافية لتحاشي ضربات ومخالب وهجمات هذه المراكز الخارجية..!!؟؟

فالمؤامرة والأيادي الخارجية كانت موجودة،وهي اليوم موجودة أيضًا، وستظل موجودة على مدى التاريخ، وليس المهم هو وجودها من عدمه، المهم هو هل تملك أنت الحصانة والمناعة والوقاية الكافية لتحاشي ضربات ومخالب وهجمات هذه المراكز الخارجية..!!؟؟

استطلاعات الرأي تقول إن 40% من المواطنيين يرون بأن وراء تدهور الليرة التركية وارتفاع الدولار، مؤامرة خارجية على تركيا، هذه النسبة ترتفع الى 58.3% بين أنصار العدالة والتنمية. وهذا مؤشر ليس بالقليل... ودليل على انتشار هذا النمط من التفكير..

نعم هناك عوامل خارجية متعددة وراء ارتفاع سعر العملة الصعبة - وخاصة الدولار - أمام الليرة التركية، من أهمها تلميح البنك المركزي الأمريكي برفع الفائدة وهذا يجعل كثير من المستثمرين ينسحبون من أسواق الدول النامية - ومنها تركيا - والتوجه للموطن الاصلي للدولار حيث المرابح الأعلى، كما أن العقوبات الأمريكية ومقاطعة بعض الشركات ورفع الضريبة على الواردات من بعض الدول ومنها تركيا هي عوامل اقتصادية وراء هذا الانخفاض لليرة التركية.

أيضاً دور شركات التصنيف الائتماني التي لم تنصف الاقتصاد التركي - على الأقل - في مواقف كثيرة سابقة، وتوقيت - وربما -استعجالها نشر تقيماتها للاقتصاد التركي مع بدايات الحملات الانتخابية، لا يمكن النظر له أيضاً ببراءة وحسن ظن...

2- كل الدول النامية والأحزاب الحاكمة تسعى لأن تكون نسبة النمو في بلادها مرتفعة، ونسبة التضخم منخفضة، لأن هذا يحقق لها الفوز بالانتخابات، والاستقرار والنمو، وهذا أمر جيد ومرغوب لكل الدول، لكن المشكلة عندما لا يكون هناك نمو يعتمد على التصنيع الذي يستطيع جلب العملة الصعبة، ففي هذه الحالة تصبح الحاجة للعملة الصعبة كبيرة بدل تأمينها وجلبها من الخارج.

3- الاقتصاد التركي ورغم نسبة النمو التي وصلت 7.4% العام الماضي لكنه يعاني من صعوبات وجمود منذ العام 2014 لأسباب عديدة رغم محاولات الحكومة التركية تنويع الأسواق والمصادر، وفتح أسواق تصدير جديدة، في قارات عديدة وتشجيع للاستثمار لكنها تعاني من انسحاب رؤوس أموال خلال هذه الفترة الماضية، فهناك تقديرات تقول بأنه خلال الست سنيين الماضية خرج من تركيا 18 ألف مليونير أجنبي وتركي، ونقل استثمارته خارج تركيا. وهذا له أسباب عديدة اقتصادية وسياسية...

3- تصريحات رئيس الجمهورية مع مؤسسات اقتصادية خلال الزيارة الأخيرة لبريطانيا والحديث عن العلاقة بين البنك المركزي والحكومة السياسية، فُهم منها توجه الرئاسة بعد الانتخابات للتدخل باستقلاقية البنك المركزي التي تشدد عليها الدول الغربية والمؤسسات الاقتصادية والمستثمرين بحساسية زائدة ومغرضة أحياناً، متناسين أوضاع كثير من البنوك المركزية في دول العالم وخاصة أمريكا. لقد تم استخدام هذا الفهم المغرض للتشكيك بمستقبل تركيا الاستثماري والاستقرار الاقتصادي.

4- سعي الحكومة التركية لتخفيض الفائدة بالبنوك التركية، ومحاربة الرئيس أردوغان العلنية للفائدة التي يعتبرها هي أكبر ضرر على الاقتصاد التركي، تخفيض الفائدة يجعل المواطن يتجه للاستثمار وفتح فرص عمل جديدة وتنشيط للاقتصاد وتحريك للأموال والشراء وهذا ما تريده الحكومة، لكن هذا يصطدم بقوانين السوق والاقتصاد والمستثمر والسوق الحر، وهذا يؤدي لزيادة السيولة التي قد تتجه نحو العملة الصعبة مما يزيد الطلب عليها فترتفع قيمة الأخيرة على حساب الليرة.

بينما رفع سعر الفائدة يجعل الموطن يتجه نحو العملة المحلية والتخلي عن الدولار، مما يرفع قيمة الليرة ويسحب السيولة من السوق، فترتفع قيمة الليرة.

لكن هذا يضر بالاستثمار المحلي والإنتاج وفرص العمل ويزيد البطالة...

فالفائدة سلاح ذو حدين... والأهم هو معرفة متى وكيف ولماذا وكم ولمتى يُستخدم هذا السلاح...

وهنا يتبادر السؤال الطبيعي...

هل تأخر البنك المركزي باستخدام هذا السلاح..؟؟وتسبب بهذا التدهور السريع لليرة...!!؟؟

ضمن المعطيات السابقة والمواقف المعلنة والأهداف المرسومة يجب تقييم هذا التأخر والتلكؤ...

وهذا ما جعل وزير الاقتصاد التركي يطالب بأن يكون هناك تدخلاً "معتدلاً" لكي يفيد هذا السلاح، بدون أن يجرح، وهذا ما حصل بعد التدخل الذي استطاع حصار الحريق وإن لم يُطفئه حتى الآن...

5- العجز التجاري، والمديونية التركية الخارجية والداخلية، وقصر زمن المديونية، بسبب تعمد شركات التصنيف الائتماني جعل تصنيف تركيا غير مؤهلة للاستثمار والقروض طويلة الأمد.

6- الاسباب السياسية: تركيا تخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية ستغير ملامح الإدارة القادمة، وبنية النظام كله، ومن الطبيعي أن يكون لهذا النظام الجديد انعكاسًا مباشراً على السياسة الخارجية والاقتصادية، وربما هذا يقلق كثير من الدول المتربصة بتركيا، وخاصة أن تركيا اليوم لها خلافات كبيرة مع أمريكا واسرائيل على كثير من الملفات الحساسة وخلافات مع ألمانيا وايران.

والخلاصة أن كل هذه العوامل لها دور في هذا التراجع لليرة التركية، ولا يمكن ربط الأمر بعامل واحد سياسياً كان أو اقتصادياً... فالسياسة والاقتصاد أمران متلازمان لايمكن الفصل بينهما بسهولة.

صحيح أن التوقعات تقول باستمرار هذا التذبذب حتى نهاية الحملة الانتخابية وربما تكون هناك تدخلات جديدة للبنك المركزي...

لكن أيضا، الاقتصاد التركي اليوم يختلف عما كان عليه بالعام 2001 عندما انهارت الليرة التركية بشكل كبير، يومها كانت تركيا مدينة للبنك الدولي، وتعاني من عدم الاستقرار السياسي.

اليوم تركيا لديها مخزون بنكي كبير، وغير مدينة، ولا تعاني من فراغ سياسي أو حكومي. 

أيضا تركيا استطاعت الخروج بأقل الأضرار من الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت العالم بالعام 2008م.

لذلك هي اليوم أيضا قادرة على الخروج من هذه الأزمة بأقل الأضرار وبأسرع وقت، إن هي وضعت التشخيص العلمي الصحيح للأزمة لا العاطفي التعبوي، واتخذت الإصلاحات والإجراءات الداخلية والخارجية لاستعادة ثقة المستمر وعودة الأموال من جديد.

ونتائج 24 حزيران هي من ستقرر ذلك...

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس