محمد زكريا المقداد – خاص ترك برس

تحمل الحضاراتُ في طياتها بذورَ نقضها كما بيَّن ذلك ابنُ خلدون رحمه الله، وفوبيا الإسلام في الغرب اليوم يدرك هذه الحقيقة وصار يخشى من عودة الدورة الحضارية إلى أيدي المسلمين، وإن حركة الشعوب العربية اليوم لهي خطوة في هذا السياق وفق سنن الاستخلاف والتمكين في الأرض،

وكل من يتابع الحراك العربي يجد ثمراته بعيداً عن حجم المأساة التي تغطي هذه الثمرات، والغربُ قارئ جيد ويدرك معنى هذا التغيير الحاصل في العالم العربي وله تجارب سابقة في رفض الظلم والاضطهاد، فقد مارس ذلك في تاريخه ووصل إلى ما وصل إليه من العلم والحضارة، بل وصار يدعي الخشية من تدمير ما وصل إليه في زمن بات فيه عاجزاً عن تقديم حل أو رؤية حضارية تبعث الأمل من جديد في النفس الإنسانية بل باتت رؤيته لهذه الإنسانية قاصرة وفي مهب الريح؛ حيث قامت على المادة فقط وتجاهلت ركنها الآخر وهو الغيب وأهميته في البناء المتكامل للحضارة الإنسانية، كما وفشلت نظرياته في قراءة الكون والحياة والإنسان وخلقه ودوره،

وتمحضت هذه الحضارة الغربية في النظرة المادية التي تجاهلت كل السنن الحضارية والكونية بل وتطورها كان جراء ثورتها الصناعية وافتخرت بها وبات الإنسان رقماً أو ورقة أو ملفاً وكلها تحوم حول الآلة مما ضاق ذرعاً بالإنسان وحسه وشعوره وأخلاقه ودينه.

كان الأوربيون غارقين في الجهل والظلام حتى جاءت الحروب الصليبية فتأثروا كثيراً بالحضارة العربية والإسلامية وحملوا معهم المعارف الطبية والمعمارية والعلمية والفلكية والجغرافية وشهدت أوروبا حراكاً علمياً كبيراً، فترجموا علوم  المسلمين ونقلوا مخطوطاته وتمرسوا في أدوات بحثه العلمي، إلى أن جاء فتح القسطنطينية (1453م) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية وتوغل الفتح الإسلامي في أوروبا واهتز عرش هذه القارة وشعر ملوكها بالخزي والعار وبدؤوا يتتبعون هذه الخطوات ويستفزون بعضهم البعض بالاجتماعات والندوات والمؤتمرات وصار بمثابة صحوة لأوروبا فاستفاقت أوروبا على هذا الفتح

وبدأت تعد للانتقام من المسلمين والتفكير بطرق لمحاصرة العالم الإسلامي، وبعد أن أتقنوا استخدام الأداوت التي اخترعها العلماء المسلمون كالبوصلة والاصطرلاب، واطلعوا على الخرائط العربية وتعلموا علم الفلك وعلم المحيطات والبحار كل ذلك مهد لاكتشاف رأس الرجاء الصالح الذي يعد نقطة تحول في العلاقة بين المسلمين والأوروبيين وكانت العوامل الكامنة التي تكلم عنها ابن خلدون في سقوط حضارة ونهوض أخرى ليس ذلك فحسب بل وأضح فقد قام ساعد العالمُ المسلمُ أحمد بن ماجد الرحالة فاسكو دي جاما على مسيرته في طريقه إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح (1498م) عندها قال فاسكو دي جاما: الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبقَ إلا جذب الحبل فيختنق.

ومنذ بداية الحرب الأمريكية على الإرهاب المتمثل في القاعدة في أفغانستان والعراق تبين أنها حرب فكرية بامتياز وذلك من خلال نظرة فاحصة في الإمكانات العسكرية وحضارة كل من الطرفين "القاعدة وأمريكا" فالأولى تعيش في الجبال والكهوف والصحاري والغابات وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة ولا تملك من العتاد ما يمكن مقارنته بتلك، والثانية أبدعت كل وسائل العيش المادي والعسكري والاقتصادي واستخدمتها في حرب غير متكافئة، لكنها لا تحمل خططاً استراتيجية بل وكان من نتائجها أنها وظَّفتْ الإرهابَ وعمَّقتْ جذورَه فمنذ الحادي عشر من أيلول عام 2001 تزايد عدد التنظيمات الإرهابية، بل وتوجت أمريكا فشلها بصعود تنظيم داعش المتطرف مما ينبئ عن خلل في الرؤية والسياسة واعوجاج في التصورات،

والأهم من ذلك هو حالة الاستعداء التي ظهرت في تصريحاتهم ومراكزهم البحثية، وهنا يأتي التشابه بين فتح القسطنطينية والحرب على الإرهاب تلك كانت بمثابة صحوة للقارة الأوروبية، وأما حربهم على الإرهاب فقد مهَّدت أيضاً إلى صحوة فكرية إسلامية ويقظة جهادية، وقرأ المسلمون هذه الحملة على أنها عداء حقيقي للإسلام الوسطي المعتدل، ومع ذلك فهم قادرون على استيعاب هذه الحرب بل وعلى التماهي معها ومن ثم الانتصار عليها؛

فدورة التاريخ وسقوط الحضارات يؤكد صدق ما ذهب إليه ابن خلدون فالحضارة تحمل في طياتها بذور نقضها، واليوم بات المسلمون ضالعين بالثقافة الغربية وما أنتجته هذه الحضارة من أدوات وما طورته من علوم وتكنولوجيا، ولكن هذه المرة في بلاد الغرب ودون شن حروب عليهم، أو سرقة لأدواتهم كما فعل الأوربيون في حروبهم الصليبية، وبكل شرعية يفعل المسلمون ذلك وقوانين الغرب تمكن المسلمون من الاندماج الحضاري فيها بعد أن هاجروا إليها وتواجدوا فيها فأتقنوا استخدامها جيداً ونقلوا منها ما استطاعوا إلى بلادهم رغم أن الغرب منع توريدها إلى بلاد المسلمين، وفرض عليها قيدواً كبيرةً خشيةً انتقالها إلى أيديهم وعودتها عليهم بالنقيض،

فالحضارة الإسلامية قدمت النموذج الراقي في التعامل مع غيرها وقدمت للإنسانية ما عجزت عنه حضارات العالم مجتمعة، فشلت الحروب الصليبية في السيطرة على القدس وخسروا فيها مع ذلك حملوا معهم بذور نهضتهم وعوامل تطورهم من بلاد المسلمين، ولم يبخل عليهم المسلمون بعلم ولا بكتاب، فالحضارة الإسلامية إنسانية من شأنها نشر العلم والمعرفة، لكنهم يبخلون علينا بكل شيء، واحتكروا العلم في بلادهم، بل وحملت حربهم على الإرهاب اليوم الوباءَ والجهلَ والأمراضَ إلى عالمنا بعد أن تحررنا منها وبدأنا نسير على الطريق الصحيح ولكنهم أبوا ذلك واستمتعوا ببقاء هذه البلاد تئن تحت وطأة الاستبداد والجهل والظلام ولم يرق لهم أننا نحاول التخلص والنهوض من جديد، ولكن المسلمين قادرون على ذلك رغم كل الظروف انطلاقاً من إيمانهم بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،

وهذا متوقف على عوامل عدة أهملها المراجعة الذاتية للبنية الداخلية فهي أساس التغيير في حياة الأمم، والسعي في تحقيق مقاصد البشرية، وتحرير النيات الصادقة، وسلامة الاعتقادات، كل ذلك له الأثر الأكبر في توجيه حياة الشعوب وهذا ما يمتلكه المسلمون جيداً ويبتعد عنه العالم الغربي، وخسر الكثير ليس بانحطاط المسلمين فحسب بل بالعداء لهم ولدينهم. 

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس