سعيد الحاج - عربي 21

ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة في 24 من حزيران/يونيو الثالثةَ التي يخضوها حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه عام 2001، ولكل منها حكاية خاصة ووافرة الدلالات، خصوصاً الأولى عام 2007، بحيث تبدو الجولة المقبلة محطة جديدة مهمة في مسيرة متكاملة، تستحق الرواية والتوثيق.

فقد عانى العدالة والتنمية الأمرّين مع الرئيس أحمد نجدت سيزار منذ تسلمه للحكم عام 2002 وحتى 2007 حين انتهت فترة الأخير الرئاسية، بحيث كان يستخدم الصلاحيات المعطاة له وفق الدستور لرفض وإعادة الكثير من القوانين والقرارات الصادرة عن البرلمان والحكومة، ما ترك أثراً سلبياً بطـَّـأ من عمل الحكومة والحزب الحاكم.

في 2007، كان الاستحقاق الرئاسي فرصة للعدالة والتنمية لتقديم مرشح رئاسي من كوادره، كان فوزه سيعني التناغم التام بين الحكومة والرئاسة وبالتالي سلاسة الأداء وسرعة الإنجاز (وهو ما كان)، فقدَّم اردوغان “أخاه” عبدالله غل وزير الخارجية ومساعد رئيس الوزراء في ذلك الوقت مرشحاً رئاسياً.

بالنسبة للمعارضة والمؤسسة العسكرية والطيف العلماني في الدولة لم يكن عبدالله غل مؤهلاً للفوز وشغل المنصب لسبب واحد، حجاب زوجته الذي يتعارض وفق رأيهم مع علمانية الدولة، بل ويهددها ، ما أثار حالة جدل استمرت لأسابيع.

السابع والعشرون من نيسان/أبريل 2007 لم يكن يوماً عادياً في تركيا، بل سطّر واحدة من أهم الأزمات والعقبات التي واجهت العدالة والتنمية. التأم البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية (رئيس الشعب كما يسمى في الدستور التركي)، وكان مكوناً من حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري فقط، بعدد مقاعد 354 للأول و198 للثاني وإجمالي 550 نائباً.

كان غل يحتاج إلى ثلثي الأصوات (367) لينتخب من الجولة الأولى، ومثلهم في الجولة الثانية، وإلا فيـُنتخب في الجولة الثالثة بالأغلبية البسيطة أي نصف أصوات الحاضرين زائد واحد. قاطع حزب المعارضة الجلسة الأولى للانتخاب، وادعى بأن عملية انتخاب الرئيس ينبغي أن تحظى – النصاب – بحضور ثلثي الأعضاء أي 367 نائباً، وهو ما لم يكن ممكناً للعدالة والتنمية الوصول له دون التوافق معه، المطلب الرئيس – إلى جانب تراجع غل عن ترشحه – الذي قدمه الشعب الجمهوري.

كان الأخير قد بدأ منذ 14 نيسان/أبريل الحشد في الشارع، ما أسماها “مظاهرات الجمهورية” في عدد من المدن الكبرى في مقدمتها إسطنبول وأنقرة وإزمير، بدعوى تهديد علمانية الدولة إحدى الأسس الست للجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال. يوم الانتخاب، في 27 نيسان/أبريل، توجه الشعب الجمهوري للمحكمة الدستورية لإلغاء الجولة الأولى، وهو ما كان في قرار المحكمة في 1 أيار/مايو.

لم ينته الـ27 نيسان/أبريل على هذا، فقد نشرت رئاسة أركان الجيش التركي في ذلك المساء رسالة على موقعها على الانترنت، سميت بالمذكرة الإلكترونية (e muhtıra)، رأت فيها أن العلمانية باتت مؤخراً موضوع جدل كبير في تركيا، وقالت إنها “ترى نفسها طرفاً في هذا الجدل، والحامي الأكيد للعلمانية” وهددت بأنها “ستعلن موقفها وإجراءاتها بشكل واضح حين تدعو الضرورة”. وكان من الطبيعي أن يرى الجميع في هذه الرسالة تهديداً بانقلاب خامس في تركيا، هذه المرة على حكومة العدالة والتنمية.

تراجَعَ عبدالله غل عن ترشحه بعد قرار المحكمة الدستورية، وذهب العدالة والتنمية إلى انتخابات برلمانية مبكرة أجريت في 22 تموز/يوليو 2007 وفاز فيها بنسبة %46.58. حملت هذه الانتخابات حزباً ثالثاً إلى البرلمان هو الحركة القومية، الذي سحب من الشعب الجمهوري إمكانية إفشال نصاب انتخاب الرئيس. ثم شارك الحركة القومية شارك في جلسة الانتخاب بتاريخ 29 آب/أغسطس 2007 رغم مقاطعة الشعب الجمهوري الأمر الذي توِّج بانتخاب غل رئيساً في الجولة الثالثة بـ 339 صوتاً.

لم يمر هذا الأمر، انتخاب رئيس زوجته محجبة (!) رغم معارضة المؤسسة العسكرية مرور الكرام. ففي 14 آذار/مارس 2008 تقدم المدعي العام الجمهوري عبدالرحمن يالتشين كايا للمحكمة الدستورية بدعوى إغلاق وحظر حزب العدالة والتنمية ومنع 71 من قياداته من العمل السياسي لمدة 5 سنوات بتهمة “التحول لبؤرة أفعال مناقضة للعلمانية”. في 30 تموز/يوليو 2008 أصدرت الحكمة الدستورية قرارها، فوافق 6 من أعضائها الـ11 على حظر الحزب، وعارضه 5، إلا أن قضية الحظر رفضت لأنها كانت تحتاج لموافقة ثلثي الأعضاء، فصدر القرار بحرمان الحزب من نصف المساعدات المالية التي تقدمها الدولة له (وفق قانون الأحزاب).

ولعل هذا التاريخ ينبغى أن يوثق على أنه تاريخ تجاوز العدالة والتنمية لعنق الزجاجة، حيث حاز الأغلبية في البرلمان وكان رئيسا الجمهورية والحكومة من قياداته، فضلاً عن تعديل بنية المحكمة الدستورية (وطريق اختيار أعضائها) بزيادة عدد أعضائها من 11 إلى 17 في الاستفتاء الدستوري عام 2010 ثم تخفيضه إلى 15 في استفتاء عام 2017، قبل أن تغلى تماماً فكرة إغلاق الأحزاب السياسية في التعديل الذي اقترحه العدالة والتنمية وأقره البرلمان في آذار/مارس 2015.

لكن العدالة والتنمية كان ينظر للمستقبل ولم يكن يريد لـ”أزمة 367″ أن تتكرر مرة أخرى، فكان الاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2007 على انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب (ومواد أخرى أقل أهمية)، وهو الاستفتاء الذي أقر بنسبة %68.95.

وفي آب/أغسطس 2014، انتخب مرشح حزب العدالة والتنمية ورئيسه في ذلك الوقت رجب طيب اردوغان رئيساً بنسبة %51.79، كأول رئيس يختاره الشعب مباشرة، وهو الذي كان قد أعلن في حملته الانتخابية أنه لن يكون رئيساً عادياً ولا رمزياً ولكنه سيعمل ويكد ولن يتوقف.

واليوم، يرشح العدالة والتنمية – وتحالف الشعب الذي يقوده – اردوغان مرة أخرى للانتخابات الرئاسية، الأولى بعد إقرار النظام الرئاسي في استفتاء نيسان/أبريل 2017 ما يعطي للرئيس ومؤسسة الرئاسة إمكانات وصلاحيات إضافية، فيما تبدو أنها الحلقة الثالثة في مسيرة الحزب مع الانتخابات الرئاسية، التي لا يمكن فهمها بعمق ودقة دون الإلمام بخلفيتها وسيرورتها وأحداثها ونتائجها في الجولتين السابقتين، خصوصاً انتخابات 2007.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس