خاص ترك برس

"ليحيا الإنسان حتى تحيا الدولة"، الشيخ أدبالي.

اتخذت السنوات الاثنتا عشرة الأخيرة في تركيا منحى آخر برز فيه بوضوح دور الدولة في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعمل ضمن إطار المفهوم السليم لعلاقة الدولة بالشعب فالدولة وُجِدَت من أجل الإنسان ومن أجل خدمته، والدولة التي لا تعطي الإنسان قدره وتعمل على التمييز بين مواطنيها وخلق فجوة في التواصل بينها وبين الشعب إنما هي دولة عاجزة عن النمو والتقدم والإزدهار، لذا عملت حكومة حزب العدالة والتنمية خلال السنوات الأخيرة الماضية على إرساء الديمقراطية في تركيا على أرض سليمة ودائمة من أجل تحقيق غاية مختلف القطاعات في الحقوق الأساسية والحريات بأفضل شكل ممكن، إذ أن حكومة حزب العدالة والتنمية استطاعت أن تصغي إلى شعبها ومطالبه بوعي تام وتلبي رغباته التي كان في مقدمتها الحقوق والحريات بسبب النظرة الأمنية والمؤسسات الوصائية، لذا عملت الحكومة على إحداث التوازن بين الأمن والحرية، ووقفت على مسافة متساوية من كافة المواطنين دون النظر إلى إختلافاتهم العرقية والثقافية والدينية والسياسية، وهذا ما أدى إلى تقلص المسافة بين الدولة والمجتمع.

خلال الفترة الماضية استطاعت حكومة حزب العدالة والتنمية أن تضع بصمتها بقوة من خلال الخدمات الكبيرة التي أنجزتها في شتى المجالات، وارتقت بتركيا إلى أعلى المستويات، ولا شك أن الإصلاحات الديمقراطية تميزت بشكل خاص بين تلك الخدمات التي قدمتها الحكومة، حيث بُذِلت جهود ضخمة خلال تلك الفترة لتجاوز أزمة الثقة بين الدولة والشعب، فساهم التحول الديمقراطي بالتأثير على السياسة الخارجية والحياة الإجتماعية مما أدى إلى نمو الدولة وازدهارها بشكل ملحوظ في مختلف المجالات.

إن هذه الخطوات التي بُذلت لتوسيع ساحة الحقوق الأساسية والحريات ولتسهيل الحياة اليومية على المواطنين لم تستهدف قطاعاً واحداً بعينه داخل المجتمع وإنما وضعت في اعتبارها المجتمع كله بتمامه.

جاءت موجة الإنتقال إلى الديمقراطية في تركيا بالتزامن مع الإنتقال إلى السياسة ذات التعددية الحزبية، حيث أن التطورات التي شهدتها الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية كانت أحد أسباب الانتقال إلى التعددية الحزبية، ورغم أن دستوري 1961 و1982 الذين تمت الموافقة عليهما بعد الانتقال إلى الحياة السياسية ذات التعددية الحزبية قد أفسحا مكاناً في المواد الخاصة بطبيعة الجمهورية بمبادئ مثل "حقوق الإنسان ودولة القانون والديمقراطية " إلا أن هذين الدستورين قد تبنيا مقاربة خاصة بهما في هذا الإطار تجاه هذه المبادئ تتناقض مع حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون، ففي دستور 1961 تشكلت المحكمة الدستورية  ومجلس الدولة بغية تحقيق تأثير الرقابة القضائية، إلا أنها أسفرت عن نتائج مختلفة عند التطبيق، وتجلى ذلك في آلية عمل المحكمة الدستورية منذ اليوم الأول الذي باشرت فيه مهامها أضحت قراراتها تصب في بنية الحياة السياسية وحماية الدولة بدلاً من أن تتحرك تجاه حقوق الإنسان والديمقراطية، وذات الإشكاليات تجلت في دستور 1982 الذي قدّم قدسية الدولة على حقوق الإنسان بشكل واضح.

من ناحية أخرى فإن مشكلة الوصاية بقيت عائقاً على طريق التحول الديمقراطي، تجلت في الإنقلابات والإنذارات العسكرية، فالإطاحة بالسلطة المدنية المنتخبة من خلال الإنقلاب العسكري في 27 أيار/ مايو 1960م، والإنقلاب العسكري الذي وقع في 12 أيلول/ سبتمبر 1980م، والإنذارات العسكرية التي استهدفت السلطة المدنية في 28 شباط/ فبراير 1997م كل هذه الأحداث تُبرز قوة العوامل والفواعل الوصائية، فالقوة التي تمتلكها أحضرت معها أيضاً دستوراً يؤكد الفواعل الوصائية ضد السلطة السياسية، ويجب الإشارة أيضاً إلى الأجهزة والفواعل البيروقراطية من خارج القوات المسلحة ضمن إطار الوصاية في تركيا، ويحمل القضاء أهمية خاصة داخل هذه الأجهزة كونه ذو وضعية مختلفة لأنه مرتبط بقراراته التي يصدرها، ولأنه ليس تابع لرقابة أي جهاز آخر، وتأتي إلزامية قراراته في دولة القانون كونها تُصدر استناداً إلى القانون، فلو أن القضاء خرج بقراراته عن نطاق القانون فإن أداء النظام في مثل هذا الوضع سيكون بعيداً تماماً عن مبدأ دولة القانون، وتبرز العديد من الأمثلة التي تحرك فيها القضاء في إتجاه المفهوم الوصائي في بعض قرارت المحكمة الدستورية ومجلس الدولة قديماً.

يكمن مبدأ دولة القانون في التزام الأشخاص والمؤسسات الذين يستخدمون السلطة العامة بالقانون، ويحق للسلطتين التشريعية والتنفيذية في دولة القانون أن تستخدم سلطاتها فقط داخل الحدود المنصوص عليها في القانون، وعندما تتصرف السلطات على نحو لا يتفق مع القانون فإن الرقابة القضائية تتدخل باعتبارها آلية ضرورية، إلا أن القضاء في الفترات التي كان الفاعلون الوصائيون مؤثرين فيها كان يمكنه أن يصدر قرارات في اتجاه مواقف الدولة أكثر من أن تكون في اتجاه القانون والحريات.

مع بداية القرن الحادي والعشرين أصبح التغيير أمراً حتمياً في تركيا بتأثير الديناميات الداخلية والتعهدات القانونية الدولية التي وقّعت عليها تركيا، وعملية الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، والتطورات الإقليمية والعالمية، وينبغي أن نضيف هنا أيضاً إلى تلك التطورات مطالب القطاع الخاص التركي الذي يتمتع بدينامية متطورة تطوراً سريعاً والكتلة السكانية الشابة الضخمة في تركيا، وبتأثير هذه الديناميات تولّدت الحاجة إلى الارتقاء بمعايير حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون على المستوى الدستوري والقانوني.

من منظور الديمقراطية يمكن أن ندرك أن البنية القانونية التي نص عليها دستور 1982 تستوجب القيام بتغيرات جادة، والتغيير كموجة من موجات التحول الديمقراطي لهو أمر يتطلب سلطة سياسية قوية ذات عزيمة لا تلين، ومن ثم كان هناك شعور بالحاجة إلى فترة من الاستقرار حتى يتسنى إجراء إصلاحات بهذه الكيفية. وقد تشكل في تركيا بعد عام 1990م وعي بحقوق الإنسان على نحو متزايد تدريجياً، ونظراً لتأثيرات العولمة، وتنوع وسائل الاتصال الجماهيري، والتطورات الجارية على تقنيات الاتصال والتواصل فقد بدأ الناس يتابعون عن كثب التطورات الجارية سواءاً داخل الدولة أو في الساحة الدولية، وبات الأفراد مدركون لإجراءات حقوق الإنسان في الدول الأخرى وأصبحت لديهم القدرة على مقارنتها بالأوضاع في تركيا فأخذوا يطالبون بالأفضل ويوّجهون المزيد من الانتقادات للدولة. وقد فرض هذا الوضع المزيد من الضغوط على السلطة السياسية من أجل إزالة العوائق أمام حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون.

يمكن النظر إلى الفترة ما بين 2002 – 2014 على وجه الخصوص باعتبارها فترة بالغة الأهمية من حيث ظهور المشكلات، وإجراء الإصلاحات الدستورية والقانونية، وقد جرى تعديلان دستوريان مهمان ضد المقاومة الوصائية التي تواجه السلطة السياسية. التعديل الأول كان عام 2007م وتم الإقرار فيه بأن يكون انتخاب رئيس الجمهورية بالتصويت الشعبي، ومع الإقرار بأن الشعب هو الذي سينتخب رئيس الجمهورية الذي يحتل وضعية شديدة الفاعلية داخل النظام الوصائي الذي نص عليه دستور 1982 سيكون قد تم القضاء على الضغوط والتهديدات ومخالفة القوانين التي كانت تشهدها عملية انتخاب الرئيس في الفترات المختلفة منذ عام 1961.

أما التعديلات الدستورية التي تحققت عام 2010م فقد كانت نقطة انكسار النظام الوصائي من خلال التعديلات على تشكيل المجلس الأعلى للقضاة والنوّاب العامّين، حيث تم كسر وصاية مجلس الدولة ومحكمة القضاء العليا، كما قام البرلمان التركي بعد الانتخابات العامة عام 2011م وبناءاً على طلب الشعب للمرة الأولى في حياة السياسية التركية بتدشين عملية وضع دستور جديد بمبادرة منه ذاته.

على طريق التحول الديمقراطي لا يمكن إغفال تأثير الإتحاد الأوروبي وعملية التوافق مع الاتحاد الأوروبي في تجاوز السياسات التي تسيطر على الدولة المنغلقة على ذاتها والخائفة من شعبها، وفي ترسيخ القبول بالديمقراطية وحقوق الإنسان على المستوى العالمي، كانت قد بدأت رحلة تركيا مع الاتحاد الأوروبي بتوقيع اتفاقية الشراكة مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية عام 1963م، واستمرت من خلال طلبها للعضوية الكاملة عام 1987م، وأضحت الخطوات التي اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002م على وجه الخصوص ذات أهمية كبرى. وفي ظل الإصلاحات التي تحققت في تلك الفترة بدأت تركيا عام 2005م في مفاوضات العضوية مع الاتحاد الأوروبي، وبهذا تكون تركيا قد أحرزت تقدماً كبيراً في اتجاه الحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي حيث انتقلت بهذا من وضعية الدولة المرشحة إلى وضعية الدولة التي تدير مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

في إطار عملية التوافق مع الاتحاد الأوروبي أُجريت في عامي 2004 و2010 تعديلات دستورية شملت نحو ثُلت دستور 1982، وقطعت مسافة مهمة في الارتقاء بمعايير حقوق الإنسان، والديمقراطية المدنية، واقتصاد السوق الحرة بما يتماشى مع معايير "كوبنهاجن" التي يجب تحقيقها بغية الوصول إلى العضوية في الاتحاد الأوروبي، حيث عززت هذه التعديلات حزم التوافق مع الاتحاد الأوروبي، ووفّرت لتركيا مناخاً أكثر حرية وبهذا تكون الحكومة قد وُفِقت إلى تغيير وجه تركيا إلى دولة أكثر ديمقراطية وحرية ورفاهية وأمناً.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس