معاذ السراج - خاص ترك برس

شهد تاريخ سوريا الحديث الكثير من الأحداث والمتغيرات منذ أكثر من قرن مضى، وإذا كان السوريون قد نجوا فيما مضى من الأحداث الدامية والكوارث طالت البشر والحجر كما حدث لشعوب البلقان والقوقاز والأكراد والأتراك والأرمن، لكنهم لم ينجوا من عملية تمزيق، وتقطيع للأوصال، وتفكيك جغرافي واجتماعي وسكاني، واصطناع للحدود والحواجز، والهويات المجتزأة، مما أحال بلادهم إلى لوحة مبعثرة تكاد تبدو وكأنها تفتقر لأدنى عوامل الانسجام والترابط، بعد أن كانت إلى عهد قريب بلدًا أنموذجًا،  يفخر بأرقى القيم الإنسانية والعيش المشترك.

ولعل ما تشهده سوريا اليوم، من عمليات قتل وتدمير وتهجير وتقسيم، وتغييرات ديمغرافية، ربما كانت الأوسع والأكثر بشاعة في العصر الحديث، ليس سوى حلقة أخيرة وليست الآخرة، مما حل بهذه البلاد منذ ما يزيد على قرن من الزمان، حيث يعاد تقسيم المقسّم، وتجزيء المجزأ، على أنقاض البشر والحجر.

وفي سياق البحث عن حلول تنقذ ما تبقى من البلاد وساكنيها، وظل العرف السياسي الذي تواضعت عليه القوى الكبرى، لا يبدو من التشاؤم في شيء توقع أن تذهب الأمور -رغم مأساويتها وفداحتها- أبعد مما هو حاصل اليوم.

سوريا والنموذج البلقاني

في الدراسات الحديثة، وعند تناول السياسات والمواقف التي اتبعتها الدول الغربية تجاه الأوضاع في سوريا منذ أحداث ثورة عام 2011، نجد أننا أمام مقاربة شديدة الشبه بالسياسات التي طبقت في البلقان إبان تسعينيات القرن الفائت بُعَيد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتفكك "يوغسلافية الاتحادية"، تكاد تبدو كـ"صورة نمطية" مستنسخة، باتت تُعَدُّ جزءًا من المعرفة والثقافة السائدة في الغرب، وعنها تفرعت فكرة "البلقنة" و"التبلقن" الذي عدّه باحثون جزءًا من الاستشراق، والذي يهدف في المآل إلى خلق "عالم متخيل"، والانطلاق منه لبناء واقع مفترض يخدم مصالح وسياسات محددة، (كما في البلقان والشرق الأوسط وسوريا على سبيل المثال).

وإذا جاز التشبيه فإن "التردد الأوروبي" (المصطنع) تجاه الصراع الدائر في سوريا منذ عام 2011، يمكن فهمه بوضوح في ضوء "التردد الغربي" -نفسه- تجاه التدخل في حروب  البلقان، 1992-1995 أو ما كان يسمى بـ"الاتحاد اليوغسلافي". ولا تختلف طبيعة الحجج والمبررات التي سيقت في معرض التبرير هنا أو هناك، كما لا يختلف توصيف طبيعة هذه البلاد وطبيعة أهلها, ووسمها بـ"الفوضى" و"العقلية الفوضوية" و"الفراغ"، كما يرد في الأدبيات الغربية، وهي المبررات والذرائع ذاتها التي تساق في معرض تسويغ التدخل الخارجي في هذه البلاد من أجل "إعادة تنظيمها"، و"تسوية أوضاعها"، بطريقة تطال الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء.

من المفارقات الجديرة بالانتباه، كما يقول الدكتور محمد الأرناؤوط، أنه بالمقارنة مع حروب البلقان بين عامي 1912-1913 التي كانت فيها أوروبا منقسمة فكريًا وسياسيًا، وعرضة للعصبيات والبواعث الدينية والقومية، فإن حروب البلقان الجديدة 1991-1995 اندلعت في الوقت الذي كان الغرب فيه يتحول إلى منظمة سياسية وقيمية بعد الحرب الباردة، ومع ذلك كان يتردد في التدخل تحت ذرائع وحجج مختلفة، مما أطال فترة الحروب وتسبّب بمضاعفة أعداد الضحايا. تتأكد الفكرة أكثر عندما نتحول إلى سوريا لنرى كيف يتكرر المشهد ذاته، ويتسبب ولا يزال، في سقوط ضحايا زاد تعدادها على نصف مليون، إضافة لأكثر من سبعة ملايين من المهجرين خارج البلاد، عدا ملايين أخرى داخلها.

وفي السياق نفسه، يذكر الدكتور محمد الأرناؤوط أن مؤسسة كارنيغي التي سارعت في عام 1913 إلى إرسال لجنة لتقصي الحقائق، فإنها في حروب البلقان الجديدة 1991-1995،
اكتفت بإعادة نشر ما أصدرته عن حرب البلقان عام 1914 مع مقدمة جديدة للدبلوماسي الأمريكي المخضرم "جورج كينان"، ترسخ ذات "الصورة النمطية" التي سبق الحديث عنها، والتي لم تتردد في وصف البلقان بأنه ذو طبيعة مختلفة عن بقية الغرب، ولا تجد بدّاً في معرض بحثها عن الحلول من العودة كل مرة إلى فكرة "البلقنة"، وإعادة تطبيقها من جديد لتتحول يوغسلافية إلى سبعة دول أو كيانات بعد أن كانت خمسة في "الفدرالية اليوغسلافية المنحلة".

ولا يبدو في الأمر أية غرابة حين يُعاد تقديم الوصفة ذاتها اليوم من قبل مراكز "كارنيغي" و"ستراتفور" وغيرها، منذ عام  2015، كحل واقعي يتناسب مع المعطيات التي توفرها الحالة السورية. ويكاد يكون المشترك في كل هذه الحالات أنها تنطلق من الخلفية الذهنية ذاتها، المهيمنة على المعرفة الغربية تجاه العديد من المناطق ومن بينها سوريا والشرق الأوسط, والحال نفسه في البلقان وشبيهاتها.

شبه جزيرة البلقان

بقيت شبه جزيرة البلقان تدخل في الخرائط الأوروبية ضمن مصطلح الشرق الأوسط، وتحت اسم "تركيا الأوروبية"، حتى نهاية الوجود العثماني هناك عام 1913. حيث لم يتبق فيها للأتراك سوى جيب صغير ضم عاصمتها البلقانية الأولى أدرنة، بعدما كانت تضم كلاً من بلغاريا وصربيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود وألبانيا وكوسوفا واليونان، وهي مساحة شاسعة تبلغ قرابة نصف مليون كيلومترا مربعا ويسكن فيها اليوم قرابة الخمسين مليون نسمة.

في سياق تفكير الأوروبيين في إعادة تشكيل هذه البلاد، بدأ الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر، عن "فيدرالية بلقانية" بعد التخلص من الحكم العثماني. وهي فكرة أطلقتها روسيا عام 1804، ودعمتها لتكون غطاء لنفوذ القيصر في المنطقة. وحظيت الفكرة بتأييد شخصيات ديمقراطية معروفة من أوروبا الغربية مثل فكتور هيوغو وغاريبالدي وماتزيني وغيرهم، ثم ما لبثت أن تحولت إلى شعار وهدف عملت عليه كل القوى البلقانية طيلة القرنين الأخيرين، وعُقدت الكثير من المؤتمرات والاتفاقيات وخيضت العديد من الحروب لهذا الغرض.

لم يأت عام 1877 حتى استقلت وتوسعت كل من بلغاريا وصربيا والجبل الأسود واليونان، ونمت فيهم "الروح البلقانية" وبدؤوا الاستعداد لجولة حاسمة تقضي نهائيا على الوجود العثماني في البلقان، وتحقيق هدفهم الكبير في ظل تراجع العثمانيين واتجاه دولتهم نحو الأفول والتفكك. وكما هو الحال عام 1804، فقد تدخلت روسيا مجدداً عام  1912، لحض هذه الدول على "تحالف بلقاني" سياسي وعسكري لتحقيق هذا الغرض مستغلة ضعف سياسة الاتحاديين وتخبطها. فاندلعت "حرب البلقان الأولى" في تشرين أول/ أكتوبر عام  1912، التي أدت إلى انتصار سريع لدول "التحالف البلقاني"، لكن هذه الدول ما لبثت أن اختلفت فيما بينها على تقاسم التركة العثمانية، ورسم الحدود فيما بينها، فاندلعت "حرب البلقان الثانية" في كانون الثاني/ يناير عام 1913، وهذه المرة بين دول الحلف نفسها، بلغاريا من جهة وساندتها الدولة العثمانية، وصربيا واليونان من الجهة الأخرى.

دفعت المآسي والفظائع التي واكبت هذه الحرب مؤسسة كارنيغي للسلام والتي كانت قد تأسست لتوها عام 1910 إلى إرسال لجنة لتقصي الحقائق عام 1913، جالت في البلقان ووضعت تقريرا مهماً نشر عام 1914 حين كان العالم مشغولا بالحرب العالمية الأولى، ركز على طبيعة الحرب -المزدوجة- وما اتسمت به من وحشية وبربرية لا توصف. وفي الوقت نفسه أثارت هذه الحرب المزدوجة اهتمام الكتاب والصحفيين بعدما تحولت من حرب "بلقانية - عثمانية" نادت بتحرير "الإخوة الأرثوذكس من النير العثماني" إلى حرب "بلقانية - بلقانية"، ارتكبت فيها المجازر والفظائع بين هؤلاء الإخوة أنفسهم وأدت إلى تقسيم المقسم, والاستعداد لجولة أخرى من الحرب في أول فرصة قادمة.

لم تفلح المؤتمرات والمعاهدات التي وضعت فيها خرائط المنطقة ورسمت حدودها، في تهدئة الخواطر، لأن الدول الكبرى كانت تسعى دائما لتأجيج المشاعر والصراعات والدفع نحو إعادة رسم المنطقة من جديد لتتوافق مع مصالحها، وهي التي طالما سعت لتحريض هؤلاء أنفسهم على التمرد والثورات تحت تاثير الوعود بإنشاء دول وكيانات مستقلة.

في النهاية تشكلت "صورة نمطية" عن البلقان استمرت حتى نهاية القرن العشرين. وبرز في الصحافة العالمية منذ ذلك الحين مصطلح "البلقنة"، والذي كان يقصد منه "الصراع على تقسيم منطقة متنوعة إثنياً وما يصاحب ذلك من مظاهر عنف بين الإثنيات أصبحت تعرف من طبيعة المنطقة".

لاحقا فشلت كذلك محاولات "روسيا الشيوعية" التي عملت منذ عام  1920 على تأسيس "الفيدرالية الشيوعية البلقانية"، ونقل الروح البلقانية من المجال الأيديولوجي إلى المجال السياسي، ودفع ذلك شعوب المنطقة للتقلب في تحالفات ومعاهدت عديدة، حتى ظهور "المارشال تيتو" وتوليه قيادة "الحزب الشيوعي اليوغسلافي"، وعندها جدد فكرة "الفيدرالية البلقانية" بين الأحزاب الشيوعية في المنطقة، لتتأسس "جمهورية يوغسلافية الفيدرالية" عام  1945، وكادت تنضم لها ألبانيا لولا تدخل الاتحاد السوفييتي، نظرا لخشية ستالين الذي رأى في "الفيدرالية البلقانية" نفوذا متزايدا لـ"تيتو"، وهو ما أدى في صيف عام 1948 إلى شن حرب أيديولوجية على "التيتوية"، أدت إلى عزل يوغسلافية عن محيطها البلقاني، حتى وفاة ستالين عام  1953. ولم تدم قترة الاستقرار طويلا، فبعد وفاة تيتو عام 1980، عادت الأوضاع في يوغسلافية للتوتر من جديد، وانتهت إلى انهيار "الاتحاد اليوغسلافي"، واندلاع الحروب البلقانية (1991-1995)، التي صاحبها الكثير من الفظائع والعنف المتبادل، وانتهت إلى تقسيم يوغسلافية من جديد وظهور سبع دول على الخارطة.

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس