د. نزار الحرباوي - ترك برس

ينشط في البيئة التركية الحضور العربي في الساحة الإعلامية، حضور ناجم عن ظروف سياسية واقتصادية وتعليمية ألجأت عدداً من الزملاء الإعلاميين إلى التوجه للجمهورية التركية للدراسة، وآخرون للعمل، وغير هؤلاء وهؤلاء ألجأتهم الظروف القاهرة التي تعيشها الدول العربية والإسلامية من أزمات فيما تلا مرحلة الثورات العربية للانتقال هم وأسرهم للعيش في بيئة جديدة عنهم بالمطلق .

 حديثي هنا ليس عن جوانب التلاقي والتنافر بين الثقافة التركية والعربية، بل عن هؤلاء النخب الذين بدؤوا بمواجهة الواقع التركي وطبيعته ومتطلباته، وانتشر بعضهم في مؤسسات إعلامية احتضنتهم في غربتهم، في حين أن بعضهم خاض تجارب قاسية في مجال التوظيف في التعامل مع المؤسسات الإعلامية العربية والتركية على حد سواء، ولا زال بعضهم منذ مدة ليست بالهينة يبحث عن عمل نتيجة قلة الفرص وزيادة العروض بعد وجود الكوادر الإعلامية العربية بوفرة في الساحة الإعلامية التركية.

 كل هذه التجارب إضافة إلى التجارب السابقة جعلت هذا التراكم الكبير في أعداد الزملاء من الإعلاميين من مختلف المشارب والأقطار العربية يشكلون حشداً بشرياً لا يستهان به على أرض الواقع ، من مصر إلى سوريا إلى فلسطين إلى اليمن، كل منهم حاول جهده بفتح مؤسسته الخاصة أو عمله الذاتي أو برنامجه التخصصي أو البحث عن عمل في مجال اختصاصه منذ وطئت قدماه أرض الجمهورية التركية .

هناك مشكلتان كبيرتان في هذا الحضور العربي الإعلامي في تركيا ؛ الأولى عشوائية الوجود وتنافر المصالح بين الأفراد، والثانية هي غياب الرعاية التركية العقلانية لهم في بلدهم الجديد تركيا، وعدم تمكنها من تفعيل علاقاتها معهم كما ينبغي للرقي بواقعهم وعلاج مشكلاتهم والتفاعل مع قضاياهم وتطوير قدراتهم ومستوياتهم المعرفية والتطبيقية والتشاركية التفاعلية .

دعونا أيها السادة نتحدث عن المسالة الأولى، وهي وجود المئات – بلا تهويل – من الإعلاميين العرب في تركيا عراقيين وسوريين ويمنيين وفلسطينيين ومصريين وليبيين وتونسيين وجزائريين ونحوهم ، وهؤلاء قد اتخذوا أشكالاً مختلفة من التفاعل مع بعضهم، ما بين منزوٍ هاجر للإعلاميين، إلى متفاعل في صفحات التعامل الاجتماعي، إلى محاولات لتأطير الحضور الإعلامي العربي لكل دولة في مجموعات عمل حقيقية – مؤسساتية رسمية – أو من خلال مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي العصرية، وما بين أخذ وردّ ، لم ينجح أي اتحاد أو ملتقى أو هيئة جمعية عربية بإبراز دورها على الساحة الإعلامية كرقم صعب في المعادلة بشكل عملي بعيداً عن التنظير والشعارات الرنانة .

هذا النمط من الإعلاميين العرب ، وهم في كثير من الأحيان كفاءات حقيقية ومتخصصون في مجال التقديم أو التنفيذ أو الإعداد أو الإنتاج أو الجوانب التقنية ، لجؤوا تحت ضغط الواقع للبحث عن لقمة العيش لهم ولأسرهم في ظل ظروف قاسية عاصفة في بلدانهم، وفي ظل مصروفاتهم العالية في تركيا ، فانشغلوا عن تنظيم صفوفهم بشكل عملي مؤسسي نقابي يؤمن للإعلاميين الحماية والرعاية ويفتح أمامهم فرص العمل والمناورة بقوة في بيئة تركية يحتل الإعلام فيها مكانة مرموقة وفاعلة ومؤثرة، بل بتنا أمام -دكاكين انتخابية أو حزبية أو مناطقية إن جاز التعبير – لم تحمل أملاً ولم ترفع ألماً!

ووسط هذا الانشغال من السادة الإعلاميين العرب بظروفهم ولقمة عيشهم وإثبات ذواتهم برغم قسوة الظروف وحجم الضغوط ،عاشت تركيا حالة من التجاهل التام لهم، تجاهل لحضورهم وعددهم وقدراتهم ونفوذهم وقدراتهم التأثيرية والتوجيهية، فبات كل يغني على ليلاه ، أنا أعرف فلاناً في وزارة كذا أتفاعل معه، وفلان يعرف فلاناً فيتصرف بناء على علاقاته وتوجهاته الشخصية، وبات ضغط الحياة وسوء تخطيط التواصل حالة عامة تشمل الأغلب الأعم من مؤسسات الإعلام وشخوص الإعلاميين بكل أسف.

في السنوات الأخيرة؛ ومع اشتداد حملات الملاحقة للمعارضين في البيئات العربية، واستمرار النزاعات المسلحة والاقتصادية، وإغلاق عدد من القنوات الفضائية العربية التي كانت تبث من اسطنبول، تزايدت حالات البحث عن العمل، وحالات التفكير تحت الضغط لإيجاد أسماء بلا قدرة ولا توجه ولا رؤية لتحقيق أهداف معينة تراها ، وهو ما أوجد حالة قطيعة صامتة بين البيئة الإعلامية وقواعد السلوك والإبداع الإعلامي.

إن وجود هذا الكم الكبير بل والهائل من الإعلاميين العرب في الجمهورية التركية يعتبر فرصة سانحة كبرى ، فرصة للإعلاميين العرب ، وفرصة أمام الإعلاميين الأتراك، فعلى العرب المسارعة لإيجاد منظومات تبادل المعلومات وقواعد البيانات وأشكال العمل الإعلامي بين النجاح والإخفاق، وترسيم سياسة إعلامية مستقبلية أكثر عمقاً وتأثيراً، وعلى صناعة حواضن عمل إعلامي جامع ومؤثر وتراكمي؛ يعزز من قدرات الإعلاميين في تركيا ويفتح أمامهم مجالات التأهيل وتطوير الذات وتنمية المهارات وبناء المؤسسات والمشروعات الإعلامية الريادية على حد سواء.

أما تركيا ، فهي مطالبة على مستوى الدولة ومؤسساتها ذات العلاقة – نظراً لعدم وجود وزارة إعلام مستقلة في تركيا – أن تبادر بما تبقى من وقت لاستدراك ما فاتها من خير عميم؛ بالتواصل الفاعل مع هذه العقليات الإعلامية الأكاديمية والتقنية والعالمية ونشطاء التواصل الاجتماعي ، وهي مسؤولية الأوقاف التركية والمؤسسات الأهلية غير الحكومية كذلك من نقابات واتحادات؛ بإنشاء جسور من التواصل الفاعل مع مئات الإعلاميين المؤثرين الذين يمكن لهم أن يصوغوا شكل المستقبل وهويته ، وقولبة العلاقات التركية العربية بصورة جديدة عصرية فاعلة.

عن الكاتب

د. نزار الحرباوي

مستشار إداري وإعلامي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس