د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

خلال السنوات الماضية تكررت إساءات عدد من الكتاب والفنانين الأوربيين للإسلام والمسلمين بزعم أن ذلك يدخل ضمن حرية التعبير، ورغم احتجاج جماهير المسلمين تمادت بعض الصحف في الإساءة إلى مقام النبي عليه الصلاة والسلام برسوم مسيئة لا تمت إلى الفن بصلة وغاية هدفها هو استفزاز مشاعر المسلمين ودفعهم إلى اتخاذ مواقف عنيفة لتنفيذ أجندات سياسية خفية أو ظاهرة.

هذه الإساءات جعلتنا نعود إلى تاريخنا لنبحث في مواقف أحد الحكام المسلمين الغيورين على دين الإسلام وعلى مقام نبي الإسلام. هذه الحاكم هو السلطان عبد الحميد الثاني الذي كانت له مواقف قوية وحازمة في رده على خبر المسرحيات المسيئة التي كانت بعض الجهات تعتزم تقديمها في مسارح فرنسا وأوروبا، فكيف كان موقفه، وكيف حال دون عرض هذه المسرحية في أكثر من بلد أوروبي؟

في عام 1890م ألف ماركي دو بونييه من أعضاء الأكاديمية الفرنسية دراما بعنوان محمد وسلمها إلى الكوميديا الفرنسية، ثم نقلت الصحف خبرا عن الشروع في إجراء التدريبات اللازمة لتقديم المسرحية، وأن ممثلا سوف يؤدي دور نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وتحتوي المسرحية على إساءة ونيل من الشخصية المعنوية لمقام النبي عليه الصلاة والسلام.

لم يتأخر موقف السلطان عبد الحميد، وعقد العزم على وضع حد لهذا التصرف بالطرق التي يراها مناسبة. أرسل على الفور خطابا إلى رئيس الجمهورية الفرنسية سادي كارنوت عن طريق السفير العثماني في باريس صالح منير باشا. وذكر أحمد أوجار في مقال له بمجلة "التاريخ والحضارة" بعنوان "تدخل عبد الحميد الثاني في الساحة الأوروبية" أن مطلع الخطاب الذي أرسل إلى الرئيس الفرنسي بهذا الخصوص كان على النحو التالي: "حول التحضيرات المسرحية باسم حضرة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام". وهذا المطلع يفيد بأن المسرحية تتجاوز بعدها الفني إلى لعبة صراع حقيقية. كما قام عبد الحميد الثاني بتوجيه تحذير شديد اللهجة عن طريق السفير الفرنسي في إسطنبول كونت مونبيللا، بل ووصل الأمر إلى التهديد بقطع العلاقات الفرنسية العثمانية في حالة ما إذا سمح بعرض المسرحية في فرنسا.

وبالفعل كانت نتيجة هذه التحذيرات الجدية والصارمة أن تم التراجع عن عرض المسرحية. غير أن الكاتب كان مصرّا على عرضها فتوجه إلى خارج فرنسا وتحديدا إلى إنكلترا التي كانت في مقام الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، والتمس عرضها هناك معتقدا أن ضغوط عبد الحميد لن تجدي نفعها هناك. بيد أن جهود عبد الحميد أفلحت في إلغاء عرض المسرحية. وتمكن عبد الحميد بفضل العلاقة الجيدة التي كانت تجمعه مع وزير الخارجية الإنكليزي اللورد ساليسبوري من استصدار قرار يمنع عرض المسرحية في جميع الأراضي الإنكليزية.

ولم ييأس مؤلف المسرحية، وزادت آماله خاصة بعد أن غادر اللورد ساليسبوري وزارة الخارجية وحل محله روزربري، وكان أكثر جفاء للإسلام من سلفه، واتفق صاحب المسرحية مع أحد المسارح في لندن لعرض المسرحية لكنه فشل في مساعيه وتمكن عبد الحميد مرة أخرى من منع عرضها. ثم كان عرض هذه المسرحية في باريس بعد أن تم تغيير اسمها من محمد إلى بارادايز وتغيير محتواها نزولا عند طلب السلطان.

كان السّلطان عبد الحميد متوقد الإيمان شديد الغيرة على كل ما يتعلق بالإسلام ورجال الإسلام وتاريخ الإسلام. وعندما بلغه خبر من ألمانيا يفيد بقرب عرض مسرحية في المسارح الألمانية تحتوي على إساءات كبيرة للسلطان محمد الفاتح تأثر تأثرا شديدا واستعان بالإمبراطور الألماني ويلهالم الثاني لمنع المسرحية ونجح في ذلك. وقد نشرت الصحيفة الإيطالية كابيتان فاراكاسّا خبرا بتاريخ 15 نيسان/ أبريل 1890م تقول فيه: "عندما بلغ السلطان عبد الحميد نبأ عرض المسرحية، كانت ردود أفعاله كأنما تلقى خبرًا بتحرّك الأسطول الرّوسي في مياه المضيق".

هذه بعض مواقف هذا السلطان الذي يرفض أي ازدراء أو انتقاص من مقام النبي عليه الصلاة والسلام، أو الإسلام أو المسلمين ولو كان الثمن مجابهة دول كبرى في وقت عصيب تكالب فيه الشرق والغرب ضد دولة المسلمين لإسقاطها. ونتيجة جهوده سادت حساسية كبيرة في كافة الدول الأوروبية بخصوص اختيار المسرحيات، بحيث لا تحتوي على إساءات للإسلام والمسلمين. ونقلت الصحافة الأوروبية تحذيرات الساسة في أوروبا وضرورة مراعاة مشاعر المسلمين وضرورة احترام عقيدتهم في ما يعرض من أعمال فنية وأدبية.

لكن بعد عزل السلطان عبد الحميد وانتقال الحكم إلى جماعة الاتحاد والترقي تراجع الاهتمام بهذه المسائل، وضعفت الحمية الدينية وخبت جذوة الحساسية تجاه المسلمين وتاريخهم، وتراجعت مكانة الدولة في المحافل الدولية وظهرت أعمال تتطاول على مقدسات المسلمين ولا توليهم أي اعتبار حتى إن الصدر الأعظم طلعت باشا عبّر عن أسفه بعد وفاة السلطان عبد الحميد في شباط سنة 1918م وهو يقول: " لقد مات في الوقت الذي كنا نريد فيه الاستفادة من نفوذه في العائلة العثمانية، ومن علاقاته بحكام أوروبا".

واليوم تتكرر الإساءات لمقدسات المسلمين في أوروبا، ويُطبق صمتُ القُبور على مواقف حكام المسلمين، بينما المسلمون اليوم بيدهم سلاح النفط الذي يمكن أن يفرض على العالم احترام مقدساتهم لو كانت لديهم الإرادة الصادقة. ويحتج أصحاب هذه الأعمال المسيئة بأن ذلك يدخل ضمن حرية التعبير وحرية الإبداع. لكن مزاعم الحرية والإبداع تختفي تماما عندما يتعلق الأمر بغير المسلمين، فهل يجرؤ اليوم أحد في أوروبا أو أي مكان من العالم على التطاول على اليهود، أو حتى التشكيك في قصص المذابح التي يقال إنها لحقت بهم في أوروبا وخصوصا في ألمانيا في العهد النازي؟!!

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس