سعيد الحاج - عربي بوست

يس مستغرباً، بل كان متوقعاً، أن يكون للانتخابات الأخيرة في تركيا آثارها وانعكاساتها المباشرة على الحياة السياسية التركية وفي القلب منها الأحزاب المختلفة، لما اكتنفته تلك الانتخابات من أهمية وحساسية وما رافقها من استقطاب وتحالفات وما بني عليها من تغيير في النظام الإداري في البلاد.

حزب الشعب الجمهوري، مؤسس الجمهورية وحزب أتاتورك وأكبر أحزاب المعارضة التركية، يبدو في مقدمة الأحزاب المتأثرة بنتائج الانتخابات التي بدأت مفاعيلها داخل أروقته وأطره القيادية باكراً جداً. ذلك أن الفارق الكبير بين نتيجة مرشح الحزب للرئاسيات محرم إينجه (%30.6) ونتيجة الحزب نفسه في الانتخابات البرلمانية (%22.6) كان الأساس الذي بني عليه الخلاف الداخلي المتفاقم حالياً.

فإينجه، القيادي البارز في الحزب والذي نافس رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو مرتين قبل ذلك وخسرهما، يرى أن نتيجة الحزب السيئة تحسب على رئيسه، بينما استطاع هو كمرشح رئاسي تخطي نسبة %30 لأول مرة منذ 40 عاماً، ما يعني – وفق وجهة نظره – أن قيادة كليتشدار أوغلو هي سبب فشل الحزب المتكرر أمام أردوغان والعدالة والتنمية بينما يملك فرصة أفضل بقيادته هو. ولذلك، فقد أذاع متعمداً مقترحه لرئيس الحزب في اللقاء التقييمي للانتخابات، بتنحيه واكتفائه بمنصب الرئيس الفخري وترك دفة القيادة له، وهو ما رفضه كليتشدار أوغلو بالتأكيد.

يرى الأخير وتياره أنه من الطبيعي جداً أن يحصل المرشح الرئاسي على نسبة أعلى من حزبه، باعتباره مرشحاً لجميع الناخبين ويطلب الأصوات والتأييد من مختلف فئات الشعب وأن تلك النتيجة دليل على صحة اختيار رئيس الحزب له لخوض الانتخابات الرئاسية، وأنه بالتالي ليس هناك مبرر قوي لخوض منافسة داخلية والبلاد على بعد ثمانية أشهر فقط من الانتخابات المحلية/البلدية.

السردية الأهم التي اعتمدها محرم إينجه في معارضته لكليتشدار أوغلو ومنافسته على رئاسة الحزب مرتين أنه يخسر الانتخابات تلو الانتخابات دون مراجعات أو تحمل للمسؤولية أو تنح عن منصب الرئاسة. ولذلك فقد رجَّح البعض – وكاتب هذه السطور منهم – أن الأخير أراد من ترشيحه للرئاسة أن يخسر هو أيضاً أمام أردوغان بحرمانه من هذه الحجة القوية في مواجهته.

ورغم أن ترشيح كليتشدار أوغلو لإينجه وضع الأخير في موقف محرج، بحيث سيظهر وكأنه «ناكر للجميل» إن طالب بمؤتمر استثنائي آخر يترشح فيه أمام رئيسه للمرة الثالثة، ما دفعه للصمت وعدم الدعوة لذلك مباشرة، إلا أن التيار المناصر له في الحزب قد بدأ فعلاً بحشد وتجميع الطلبات الموثقة لعقد مؤتمر استثنائي تحت شعار «مؤتمر التغيير والأمل».

ينص النظام الأساسي لحزب الشعب الجمهوري على أن طلبات موثقة من الأغلبية المطلقة للمناديب أعضاء المؤتمر العام للحزب خلال 15 يوماً من الدعوة لمؤتمر استثنائي للحزب كافية لعقده. وفق هذا المعطى، مطلوب من الداعين للمؤتمر الاستثنائي جمع 625 طلباً، يقولون إنهم جمعوا منها في أول يومين فقط 466 في حين تصر قيادة الحزب أنهم لم يتخطوا حاجز الـ 120 طلباً.

الدعم لهذه الدعوة من قيادات بارزة في الحزب كان لافتاً وسريعاً، فإضافة لعدد كبير من النواب السابقين في الحزب أعلن كل من القياديين البارزين سلين صائك بوكة وإلهان جيهانر عن تأييدهما لعقد المؤتمر، وهما قياديان بارزان (كانت بوكة الناطق باسم الحزب ونائباً لرئيسه قبل أن تستقيل) يتزعمان تياراً معارضاً لقيادة الحزب ورئيسه.

ولئن راهن رئيس الحزب ومؤيدوه على عدم قدرة التيار المعارض على حشد الطلبات الضرورية لعقد المؤتمر الاستثنائي، ورغم تأكيد الأخيرين أنهم سيجمعون أكثر مما هو مطلوب، إلا أن الكثيرين أيضاً يرون أن هذه الموجة الاحتجاجية أقوى بكثير من سابقاتها وأنه لا يمكن لقيادة الحزب تجاهل كل ذلك حتى ولو لم تحصل المعارضة الداخلية على العدد المطلوب، وأنه ينبغي على قيادة الحزب طرح الثقة بها مرة أخرى في مؤتمر استثنائي.

وفق كل ما سبق، يبدو أن مسار المؤتمر الاستثنائي شبه حتمي أمام حزب الشعب الجمهوري، لأن تجاهل كل هذا الحراك لن يفيد وحدة الحزب وتماسكه. وبالتالي، يبدو أن مستقبل الحزب وتحديداً رئاسته مطروح على طاولة النقاش اليوم أكثر من أي يوم مضى.

ينبغي الإشارة أولاً إلى أن الحصول على الرقم المطلوب لعقد المؤتمر لن يعني بالضرورة فوز إينجه برئاسة الحزب، إذ سيحتاج للفوز بالاقتراع الذي لا يبدو مضمون النتائج وفق التجارب السابقة، فضلاً عن احتمالية ترشح آخرين بما يؤدي لتشتيت الأصوات المطالبة بتغيير رئيس الحزب.

أكثر من ذلك، فإن قانون الأحزاب في تركيا يعطي لرئيس الحزب – أيِّ حزب – صلاحيات واسعة في اختيار مسؤولي فروعه في مختلف المدن والمناطق، وهم من يشكلون نسبة هامة من المناديب أعضاء المؤتمر العام، ما يعني أن الرئيس يختار بطريقة أو بأخرى جزءاً مهماً ممن سينتخبون رئيس الحزب، ما يرفع دائماً من فرص الرئيس الحالي لأي حزب بالفوز في المؤتمرات الاستثنائية. إضافة لكل ذلك، فإن تركيبة قيادة الحزب وكوادره وأنصاره قد لا تسمح باستبدال إينجه بكليتشدار أوغلو لاعتبارات أيديولوجية وهوياتية.

ولكن، من جهة أخرى، تبدو حالة الاحتجاج الحالية أكبر كثيراً من سابقاتها، ويبدو أن النتيجة التي حققها إينجه في الانتخابات الرئاسية – رغم خسارته – قد أوقدت «الأمل» فعلاً بالتغيير والفوز بين كوادر الحزب وقياداته، ما يعني أن مهمة الرئيس هذه المرة أصعب من سابقتيها حين فاز بثلثي الأصوات تقريباً مقابل الثلث لإينجه. وهنا، يمكن القول إن رهان كليتشدار أوغلو على ترشيح إينجه وخسارته قد فشل، بينما نجح – حتى الآن على الأقل – رهان إينجه على أدائه خلال الحملة الانتخابية ليعود للمنافسة الداخلية في الحزب أقوى من السابق.

أخيراً، لا ينبغي المبالغة كثيراً في توقع المآلات السلبية للحراك الحالي على الحزب، فتاريخه الطويل وإرث أتاتورك الذي يحمله وحالة الاستقطاب القائمة في تركيا كلها تصب في استمرار تماسكه وقوته، وبالتالي فالأزمة الحالية أزمة قيادة مفتوحة على احتمالات التغيير أكثر من الانشقاق والتشظي. وقد أثبتت تجربة حزب الأناضول الذي انشق عام 2014 عن الشعب الجمهوري بقيادة أمينة أولكر تارهان، القاعدةَ شبه الثابتة في السياسة التركية وهي أن حالات الانشقاق عن الأحزاب الكبيرة – لا سيما المؤدلجة – تبقى هامشية التأثير. فضلاً عن أن التغيير القيادي في رئاسة حزب الشعب الجمهوري، إن حصل، قد يأتي بحيوية ونشاط يفيدان الحزب ولا يضرانه.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس