جمال سلطان - المصريون

 هناك صدام سياسي واقتصادي عنيف حاليا بين تركيا والولايات المتحدة ، استخدم فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اللغة الوحيدة التي يحسنها ، لغة المال والاقتصاد ، ووظف الإمكانيات الهائلة لواشنطن من أجل تركيع تركيا ، على الرغم من أن تركيا حليف تاريخي للولايات المتحدة ، وعضو في حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة ، وتحتضن أراضيها أهم قواعد حلف الناتو في شرق أوربا ، قاعدة "انجرليك" الجوية ، وعلى الرغم من أن تركيا شاركت الولايات المتحدة في أكثر من صراع عسكري طوال النصف قرن الماضي ، في ملفات كوبا وأفغانستان وغيرها ، وعلى الرغم من روح الود الكبير التي أبداها الرئيس التركي لترامب عقب فوزه ، ومبادلة ترامب للرئيس أردوغان بنفس الود ، كما أن ترامب نفسه له استثمارات شخصية في تركيا ، خاصة في سوق العقار .

الصدام السياسي والاقتصادي الحالي عنوانه قضية القس الأمريكي "أندرو برانسون" المحتجز في تركيا على خلفية اتهامه قضائيا بالتورط في دعم الانقلاب العسكري الذي قامت به جماعة "جولن" الدينية ذات النشاط السري واسع النطاق في تركيا وخارجها ، ولكن الحقيقة أن الصدام في جوهره أعمق من قضية القس بكثير ، هو صراع يتصل بالدور الجديد الذي تقوم به تركيا في الشرق وفي أفريقيا وآسيا والخليج ومناطق نفوذ تقليدية للولايات المتحدة ، سياسيا واقتصاديا ، فتركيا الآن تبني شبكة علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية قوية للغاية في أفريقيا وآسيا والخليج العربي ، يدعمها في ذلك بنية اقتصادية وتقنية متطورة ، سمحت لها بأن تنافس أمريكا حتى في تصدير السلاح إلى أكثر من عاصمة كبيرة ، بما فيها باكستان ، التي عقدت صفقات شراء مروحيات قتالية صنعت بالكامل في تركيا ، كما أنها تصدر الدبابات والمدرعات تركية الصنع ، كما أن الجيش التركي أصبح ينتج أكثر من 70% من ذخيرة سلاحه بمختلف القطاعات ، كما أن الشركات التركية تشارك حاليا في تصنيع أحدث الطائرات الحربية الأمريكية "إف 35" ، إضافة إلى تسجيل الاقتصاد التركي معدلات نمو كبيرة وصفت بأنها أفضل من "المعجزة الصينية" خلال السنوات العشر الماضية .

تطور القدرات والنفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري التركي مقلق جدا للولايات المتحدة ، كما أن إقدام تركيا على قرارات سياسية وعسكرية مهمة ومتحدية لواشنطن في سوريا وفي غيرها سبب إزعاجا إضافيا ، ناهيك عن الحصار الأخلاقي الذي فرضته أنقره على واشنطن وكشفها عن دعمها لميليشيات حزب العمال الكردستاني بالسلاح ، رغم أنها ميليشيات مصنفة إرهابيا حسب الإدارة الأمريكية نفسها ، وبروز نجم الزعيم التركي رجب طيب أردوغان كنموذج ملهم في العالم الإسلامي للنجاح الاقتصادي وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة في الوقت نفسه ، كل هذه استحقاقات يبدو أن واشنطن رأت أنه آن أوان وقفها وتصفية الحسابات معها .

الضغط الأمريكي على العملة التركية كان سريا وخفيا طوال الأشهر الماضية ، حيث ظلت الليرة في حالة تراجع بوتيرة غير طبيعية وغير مفهومة طوال العام الأخير ، غير أن "الحرب" الاقتصادية أصبحت معلنة هذا الأسبوع ، عيني عينك ، عندما غرد ترامب مؤكدا أنه قرر "معاقبة" تركيا بمزيد من الضغط عليها من خلال فرض رسوم إضافية كبيرة على واردات الألمونيوم والحديد ، وهي التغريدة التي سببت تراجعا مثيرا في سعر الليرة نهاية الأسبوع ، لكنها كشفت المعركة وجعلتها في العراء أمام العالم ، فلم تعد تخمينا ولا سرا ، ولكنها قرارات معلنة من الرئيس الأمريكي نفسه بإعلان الحرب الاقتصادية على تركيا .

الموقف التركي بدا معاندا لتلك الإجراءات ، وخطب الرئيس التركي أمس متحديا "الحرب" الأمريكية ، ومؤكدا على أن بلاده لن تركع ، وأن الدولة التي هزمت الانقلاب العسكري ستهزم محاولات الانقلاب الاقتصادي ، أردوغان يملك شرعية انتخابية قوية ، لكنه الآن حصل على دعم سياسي واسع النطاق من المعارضة التركية التي أعلنت احتشادها خلف "الدولة" في وجه محاولات فرض إرادة التبعية والتركيع التي تمارسها بفجور مدهش الإدارة الأمريكية ، ومن الواضح أن تركيا ليست بصدد التراجع أو الخضوع للضغط الأمريكي ، حتى مع احتمالات متزايدة بمزيد من الضغط على الليرة ، وكتب أردوغان مقالا في النيويورك تايمز ذكر الولايات المتحدة بأنها ستخسر كثيرا إن مضت في تلك المعركة للنهاية ، وأن تركيا تملك بدائل ، خاصة وأن بعض المحاور الكبرى ـ الصين وروسيا ـ تخوض حربا اقتصادية موازية مع واشنطن في الوقت الراهن .

ما يجري بين تركيا والولايات المتحدة ليس شأنا تركيا خالصا ، بل هو شأن عربي وإسلامي ، بل شأن شرقي بكل أبعاده ، حتى مع اعتبار الخلاف القائم بين تركيا وعدد من العواصم العربية لأسباب عارضة ومرحلية ، لكن على المستوى الاستراتيجي تلك معركة تاريخية مفصلية ، لإنهاء حقبة التبعية والإذلال التي تمارسها الولايات المتحدة على دول المنطقة ، هذه معركة إرادات بالمقام الأول ، وإذا نجحت تركيا في كسر الغطرسة الأمريكية وخرجت منتصرة من هذه المعركة ، أو بأقل الخسائر ، فسيكون ذلك تدشينا لمستقبل جديد للمنطقة العربية والمشرق ، تساعد زعماءه وقادته على امتلاك القدرة على استقلالية القرار والاستفادة من عالم متعدد الأقطاب ، بما يتيح لها حرية الاختيار عند الأزمات والتحديات ، أما إذا كسرت تركيا في تلك المعركة فسيكون ذلك شؤما على المنطقة كلها ، وستكون عواصمها أكثر عرضة للابتزاز الأمريكي مستقبلا بدون أي قدرة تذكر على المقاومة .

تركيا ليست جمهورية موز ، تركيا دولة عريقة ووارثة امبراطورية تاريخية ضخمة ، وتملك بنية مؤسسية قوية ، وبنية اقتصادية قوية أيضا ومتعددة الروافد ، كما أن الاقتصاد التركي متشابك مع اقتصاديات أوربية كثيرة ، كما أن تركيا تمثل عامل توازن عسكري واستراتيجي خطير في تلك المنطقة التي تربط الشرق بالغرب وهو ما جعل الولايات المتحدة تحرص على تحالفها معها طوال أكثر من نصف قرن باعتبارها حدود حلف الناتو في وجه الاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا الجديدة ، باختصار ، تركيا ليست بوارد خسارة تلك المعركة ، أيا كانت تكاليفها ، والضغط على العملة سيكون محدود الأثر على المواطن التركي العادي ، لأنه يحظى فعليا بمظلة تأمين اجتماعي شامل ، في السكن والصحة والتعليم والمواصلات والترفيه ومختلف جوانب الحياة بصورة شبه مجانية ، وخسائر الشركات هناك بدائل لتعويضها بإعفاءات ضريبية وغيرها ، لكن خسائر واشنطن إذا قررت تركيا الانتقال لبدائل عسكرية واستراتيحية واقتصادية سيكون هائلا .

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس