عبد الحافظ الصاوي - المعهد المصري للدراسات

ساهم البعض في وجود حالة من الهلع فيما يخص أزمة الليرة التركية، من خلال عدم إدراك عدة أمور، أولها أن تركيا دولة تأخذ بقواعد النظام الرأسمالي بشكل كبير، ومن طبيعة النظام الرأسمالي وجود أزمات بشكل متكرر وعلى فترات مختلفة، إما بسبب عوامل داخلية أو خارجية، ويبقى دور السياسات الاقتصادية كيف تتعامل مع تلك الأزمات.

ووجود هذه الأزمات في بنية النظام الرأسمالي هو ما دعى دول رأسمالية عتيقة إلى مخالفة ما تم اعتباره كمسلمات في الفكر الرأسمالي، كما فعل كينز في عام 1929 وذهبه إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، كمخرج من أزمة الركود الكبير، التي ضربت الاقتصاد العالمي في ذلك التاريخ.

ولقد أخذت كل الدول الرأسمالية في ذلك الوقت برأي كينز، وأصبح ما ذهب إليه كينز نظرية اقتصادية تدرس في الجامعات والمدارس الاقتصادية، ولكن اعتبر اجتهاد كينز على أنه مساهمة في إطار النظام والنظرية الرأسمالية، وليس بديلًا عنها، أو انحيازًا إلى دور الدولة في النظام الاشتراكي.

وأمريكا إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، قامت بشراء قرابة كامل رأسمال شركة تأمين كبرى، من أجل انقاذ نحو 300 بنك ترتبط بشركة التأمين هذه، كما قامت البنوك المركزية في أوروبا بضخ قروض لصالح البنوك التجارية من أجل الحفاظ عليها من الانهيار، وكل هذه التدخلات ضد مسلمات الرأسمالية، التي تدعو إلى ترك تلك المؤسسات تسقط، بدعوى أن السوق يصحح نفسه، وأن هناك يد خفية تصلح السوق من خلال بحث المستثمرين والأفراد من مصالحهم، فيتركون المجالات الخاسرة إلى مجالات أخرى جديدة تحقق لهم الربح وتنهض بالاقتصاد.

وبالتالي فوجود أزمة في اقتصاد تركيا، لم يكن مؤشر على سقوط الاقتصاد التركي، أو وجود هذه الهالة الضخمة من الهلع، وذهاب البعض لأقوال خاطئة، مثل أن تلك الأزمة قد تذهب بالنظام السياسي الحالي، وأن الشعب التركي سوف يثور على حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب الطيب أردوغان.

فالخوف وارد لدى المستثمرين أو المدخرين أو الأفراد العاديين في حالة وجود مشكلة أو أزمة اقتصادية في أي بلد ما، وبخاصة أن القاعدة الفعالة “رأس المال جبان”، وساعد على ذلك البيانات التي كانت تصدر من السوق الدولية حول التداول على الليرة التركية، في الأسواق التي تسبق تركيا في وقت العمل، بحكم فروق التوقيت، وقد ساعدت تلك الأسواق في بث الخوف في السوق الداخلية، وأدت إلى وجود مضاربات حقيقية ساهمت في المزيد من التراجع في قيمة الليرة التركية أمام العملات الأجنبية الأخرى.

ولكن الملاحظ أن ثمة كتابات تم تسويقها بشكل كبير في ظل ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات، وهذه الكتابات لم يكن لديها حظ من العمق والدراية بإمكانيات الاقتصاد التركي، وركزت على المشهد الأخير للعديد من المؤشرات الكلية للجوانب النقدية للاقتصاد التركي، وبخاصة ما يتعلق بالعجز الجاري أو قيمة الدين العام الخارجي.

ولم تأخذ هذه الكتابات بآلية المقارنة بين أداء تلك المؤشرات ودلالتها، فمثلًا وصول العجز بالميزان الجاري لتركيا إلى نحو 50 مليار دولار، لم يكن شيئًا جديديًا، ففي عام 2011 وصل هذا العجز إلى نحو 74 مليار دولار 1، كما أن الدين الخارجي يوزع بين الحكومة والقطاع الخاص بنحو 30% و70% على التوالي -وليس كما أدعت بعض الكتابات بأن نصيب الحكومة التركية من الدين الخارجي يقترب من 50%-، كما أن هذا الدين ليس كله في الأجل القصير، وليس كل تمويل بالدين كارثة، وهناك مديونية داخل دين القطاع الخاص تتمثل في مديونية البنوك التجارية التركية والتي تصل إلى نحو 181 مليار دولار2 .

فالأمور تحتاج إلى تحليل وسياقات تأخذ بالنظرة الكلية وليس في إطار جزئي لأداء بعض المؤشرات.

مشاركة إيجابية في العولمة

أثبتت أزمة الليرة التركية خلال شهر أغسطس 2018، أن مشاركة تركيا في منظومة العولمة الاقتصادية، ليست في إطار مجرد الحضور غير المؤثر، شأن العديد من الدول النامية، أو حتى الصاعدة، ولكن الأزمة أوضحت أن مشاركة تركيا من خلال حضورها الفاعل، حيث تأثرت الأسواق الأوروبية والأمريكية والأسيوية بالتداعيات السلبية للأزمة، فهناك استثمارات أجنبية مباشرة لهذه الدول في تركيا، وكذلك ديون مستحقة لمؤسسات مالية أوروبية بمبالغ ليست قليلة، أدت إلى تحسب هذه البلدان من أن تسقط التجربة التركية، عبر مضاربات في الأسوق الدولية لحساب بعض القوى الدولية، أو دول إقليمية3 .

وفي نفس الوقت انطلق صانع السياسية التركية إلى استخدام أوراق ضغط تناسب أداء أمريكا، وتعظم من مساحات التحرك التركي على الساحة الدولية، مثل زيادة الرسوم الجمركية على المنتجات الأمريكية، والإعلان عن مقاطعة المنتجات الالكترونية الأمريكية، وكذلك دراسة تسوية المعاملات الخاصة بالتجارة الدولية بالعملات المحلية مع كل من روسيا والصين. وهذه رسالة يتحسب منها الأمريكان بشكل كبير لارتباطها بالحرب على تنحية الدولار عن عرش التسويات الدولية في الجوانب المالية والتجارية منذ عام 1947. وكانت الصين قد طالبت مع دول أخرى إبان الأزمة المالية العالمية، بالبحث عن عملة دولية أخرى بديلة للدولار لتسوية المعاملات المالية والتجارية الدولية، والبعد عن المشكلات التي تسببت فيها العملة الأمريكية، إلا أن أمريكا حاربت هذا المقترح بقوة في اجتماعات مجموعة العشرين آنذاك.

وبرهنت الأزمة كذلك على أن عضوية تركيا بمجموعة العشرين ليست وليدو صدفة، أو عوائد ريعية من صناعات استخراجية، أو عوامل خارجية هشة، أو لمجرد بلوغ ناتجها المحلي الإجمالي أكثر من 800 مليار دولار، ولكن من خلال اقتصاد يمتلك بنية قوية، وإن كان ينقصها إحداث نقلة على صعيد الصادرات ذات القيمة التكنولوجيا العالية.

الحفاظ على الاحتياطي

وجود احتياطي من النقد الأجنبي وصل لقرابة 120 مليار دولار، كان مستهدفًا منذ فترة، من خلال التذبذبات التي مرت بها الليرة التركية خلال العام الماضي بالكامل، وكان المنتظر أن يتدخل البنك المركزي التركي لاتباع حماية سعر الصرف من خلال استنزاف الاحتياطي وضخ كميات من الدولارات لحماية سعر الليرة. ولكن البنك المركزي التركي لم ينزلق لهذا المخطط.

فتم ترك الليرة التركية تشهد بعض الانخفاضات ثم تعود لمعدلات توازن، وإن كانت لا تعود عند مستوى الأسعار التي بدأت بها بعض مراحل تذبذبها، ونجد أن سياسة الحفاظ على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي ثابتة، وأن لديها أدوات أخرى للتدخل، دون المساس بحرية سعر الصرف، وقد تجلت هذه السياسة من خلال حزمة الإجراءات التي تم اتخاذها يوم الأحد الموافق 12 أغسطس، حيث تم تخفيض احتياطي بعض البنود لدى البنوك، بما يسمح لها بسيولة تواجه بها الطلب على العملة المحلية، أو الدولار الأمريكي، أو الذهب.. وهذه السياسة تعكس دراية كبيرة بالتجارب السلبية، التي حاولت أن تحمي عملتها من خلال الاحتياطي، فخسرت عملتها وخسرت الاحتياطي.

ولكن سياسة الحفاظ على الاحتياطي واللجوء لأدوات أخرى، لا يعني هذا أن الأمر متروك للسياسة النقدية وحدها لتحقيق حالة نجاح، ولكن لابد من تفاعل باقي السياسات الأخرى، مثل سياسات الإنتاج والتصدير، لتزيد من قدرتها من حيث الكم والنوع، لتكون أحد عوامل تدفق النقد الأجنبي للبلاد، وكذلك قطاع الخدمات وبخاصة السياحة، لابد أن تحافظ على معدلات أدائها العالية في تركيا، وجذب المزيد من السياح.

تحديات تفرضها الأزمة

بشكل عام يعتبر أداء العملة أحد مظاهر قوة أو ضعف الاقتصاد لدول ما، وكما ذكرنا فالعملة التركية تواجه حالة من التذبذب منذ العام الماضي، إن لم يكن قبل ذلك، وكانت التحليلات تذهب إلى الأسباب سياسية بشكل كبير، من خلال الواقع السياسي الداخلي والإقليمي، وإن كانت هذه الأسباب لازالت قائمة بنسبة ما، ولكن هناك أسباب اقتصادية ساهمت في المشكلة الأخيرة لليرة في أغسطس 2018، فضلًا عن الصراع السياسي مع أمريكا حول مجموعة من الملفات المعروفة، سواء صفقة الصواريخ أس 400 الروسية، أو قضية القس الأمريكي، أو ملف مسئول بنك خلق، وكذلك الرسوم الجمركية على المنتجات التركية المصدرة لأمريكا. وهنا نركز على الاعتبارات الاقتصادية وما يفرضه الواقع من تحديات لابد من مواجهتها من قبل صانع السياسة الاقتصادية في تركيا خلال الفترة القادمة، حتى يمكن الخروج من تلك الأزمة بشكل أفضل، وعدم تكررها، أو التكريس لأن تكون أحد أوراق الضغط على الاقتصاد أو السياسة في تركيا.. وهذه التحديات هي :

زيادة صادرات التكنولوجيا المتقدمة: أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي تظهر لنا نقطة ضعف لابد من معالجتها، وهي ضعف حصة صادرات التكنولوجيا المتقدمة لتركيا، ففي عام 2003 كانت حصة تركيا من صادرات التكنولوجيا المتقدمة نحو 763 مليون دولار وارتفعت في عام 2016 لتصل إلى 2.18 مليار دولار فقط4 . في حين أن صادرات تركيا ارتفعت من 47.2 مليار دولار في عام 2003 إلى 156.9 مليار دولار بنهاية عام 20175 .

ولقد طالت الفترة الزمنية التي أمضتها تركيا في إنتاج السلع التقليدية، ويتحتم عليها نقلة نوعية بعد مضي نحو عقد ونصف من الزمن، فعلى تركيا أن تأخذ بمقترحات من شأنها تشجيع الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا المتقدمة مثل الحوافز الضريبية، أو مساهمة الأوقاف في تخصيص أوقاف للتطوير التكنولوجي.

مكافحة التضخم: يعد التضخم العدو اللدود للمجتمعات والأفراد، حيث تنتج عنه آثار اقتصادية شديدة السلبية، ويربك صانع السياسة الاقتصادية، وبالرجوع إلى أرقام البنك المركزي التركي، نجد أن معدل التضخم يتخذ منحى تصاعدي منذ أبريل 2018، حيث وصل إلى 10.8% على أساس سنوي، ومع اتساع حركة المضاربات على الليرة، صعد معدل التضخم خلال مايو ويونيو ويوليو بشكل ملحوظ، حيث وصل إلى 12.1% و15.3% و15.8% على التوالي6 ، ويتوقع أن يشهد ارتفاعات أخرى في أغسطس بسبب الانخفاض الذي شهدتها الليرة.

تخفيض سعر الفائدة: في ظل اقتصاد رأسمالي، من الطبيعي أن يكون هناك دور مهم لسعر الفائدة، واعتباره أحد الأدوات المهمة للسياستين النقدية والمالية، وحسب احصاءات البنك المركزي التركي، نجد أن سعر الفائدة قد شهد تطور كبير منذ مايو 2013، حيث كان سعر الفائدة 4.5%، ثم صعد للضعف في يناير 2014 عند سعر 10%، ثم عاود الانخفاض ليدور في فلك ما بين 8% و9%، إلا أن أول يونيو 2018 شهد تصاعد كبير لسعر الفائدة حيث وصل إلى 16.5%، ثم بعد أسبوع واحد من مطلع يونيو 2018 وصل سعر الفائدة إلى 17.75%7 .

وكانت الزيادات الملحوظة في يونيو 2018، لمواجهة المضاربات على الليرة التركية، وهو إجراء ارتأه البنك المركزي لمواجهة ظاهرة الدولرة، وقد أتى بالفعل نتائج إيجابية في حينه. ولكن نلاحظ أن هذه القضية شغلت الرأي العام التركي، وبخاصة المعنيين بالنشاط الاقتصادي، حيث حاول الإعلام المعارض للرئيس أردوجان في الداخل والخارج، تصويره بأنه يتدخل في إدارة السياسة النقدية للبنك المركزي. وهو أمر على خلاف الحقيقة، فكثير من السياسيين يعرضون رؤاهم الاقتصادية أو برامجهم، ويحددون موقفهم من قضايا كثيرة ومن بينها سعر الفائدة، وقد كان موقف أردوجان أن سعر الفائدة هو “مصدر الشرور”

والتحدي الذي يواجه صانع السياسة الاقتصادية هنا، هو تخفيض سعر الفائدة، ليحقق أكثر من ميزة، الأولى يشجع على الاستثمار، والثانية يساعد على تخفيض معدل التضخم، لأن ارتفاع سعر الفائدة ينقل عبء التضخم إلى جانب العرض المتمثل في ارتفاع تكاليف الإنتاج، ويمكن أن يؤثر ذلك على الصادرات في الأجل الطويل.

توفير الطاقة الرخيصة: حسب أرقام معهد الإحصاء التركي، فقد بلغت واردات الوقود عام 2017 نحو 37.2 مليار دولار، وهو أكبر بند من حيث القيمة بين مختلف بنود الواردات التركية لنفس العام، وتمثل واردات الوقود 16% تقريبًا من إجمالي الواردات لنفس العام والبالغة 233 مليار دولار8 . والجدير بالذكر أن فاتورة واردات الطاقة لتركيا في 2017 تزيد بنحو 10 مليارات دولار عما كانت عليه في 2016.

وتعتمد تركيا على احتياجاتها من النفط بشكل رئيس من إيران وبما يغطي نحو 44% من وارداتها النفطية، كما تعتمد تركيا على روسيا في استهلاكها من الغاز الطبيعي، وتذهب التقديرات إلى أن روسيا تمد تركيا بنحو 53% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.

وخلال المرحلة المقبلة، يتوقع أن ترتفع فاتورة واردات الطاقة خلال عام 2018، نظرًا لتحرك أسعار النفط نحو الارتفاع مقارنة بما كانت عليه في 2017، فبرميل النفط خام برنت وصل إلى 77 دولار في المتوسط، ووصل الخام الأمريكي لنحو 74 دولار. وقد تحد الحرب التجارية التي انطلقت شرارتها مؤخرًا بفرض رسوم جمركية متبادلة بين أمريكا والصين، وأمريكا ودول أخرى، من الطلب على النفط، وهو ما يذهب بالتوقعات إلى بقاء أسعار النفط على ما هي عليه أو على الأقل لا تشهد مزيد من الارتفاع، وفي هذه الحالة سيكون الأمر في صالح تركيا من جهة، ولكن قد لا يكون في صالحها من جهة أخرى إذا أدت الحرب التجارية إلى تأثير سلبي على حركة التجارة الدولية، حيث تعتبر تركيا دولة مصدرة.

والجانب اللآخر من أزمة الطاقة خلال الفترة المقبلة بالنسبة لتركيا ما يتعلق بتعاملاتها مع كل من إيران وروسيا في ظل فرض العقوبات الاقتصادية عليهما من قبل أمريكا، وبخاصة أن أمريكا اتهمت تركيا خلال عام 2017 بإجراء تعاملات مالية لصالح إيران بالمخالفة للعقوبات الاقتصادية، عبر بنك خلق التركي، ولا تزال القضية منظورة أمام القضاء الأمريكي، وتذهب تركيا إلى سلامة تعاملاتها المالية. إلا أن وزير الاقتصاد التركي السابق نهاد زيبكجي صرح بأن بلاده غير ملتزمة بالعقوبات الأمريكية طالما أنها أحادية الجانب وغير مفروضة من مجلس الأمن9 .

إدارة رشيدة للدين الخارجي: ملف الدين الخارجي لتركيا، من الملفات التي استخدمت بشكل كبير في تشويه التجربة التركية، ومؤخرًا استخدم الملف في التهويل من أزمة الليرة بشكل كبير، وبخاصة أولئك الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء الاطلاع على بيانات الحكومة التركية، وتركوا أنفسهم فريسة لكتابات بعض الصحافيين الغربيين.
وبلا شك أن التمويل بالديون يحتاج إدارة ومتابعة دقيقتين، وبخاصة ما يتعلق منها بالدول الخارجية، ولكن علينا أن ننظر لأداء ذلك الدين لنعرف هل الأمر بهذا الحجم من التهويل الذي ساقه البعض، فأرقام تقرير صادر عن وزارة الخزانة التركية في أبريل 2018، تشير إلى بلوغ الدين الخارجي 453.2 مليار دولار، منها 136.2 مليار دولار دين يخص الحكومة وبنسبة تصل إلى 30% من إجمالي الدين، بينما القطاع الخاص بلغ نصيبه 316.4 مليار دولار، وبنسبة تصل إلى 70% من إجمالي الدين10 .

وإذا ما نظرنا إلى تقسيم الدين الخارجي إلى البعد الزمني نجد أن الدين طويل الأجل بلغ 335.5 مليار دولار، وبما يمثل 74%، بينما الدين قصير الأجل بلغ 117.7 مليار دولار، وبنسبة تصل إلى 26% من إجمالي الدين الخارجي.

ومن الضروري أن نبين وضع القطاع الخاص من حيث الديون القصيرة وطويلة الأجل، لأنها كانت من أكبر الفزاعات التي استخدمت في أزمة الليرة، فأرقام نفس التقرير تشير إلى أن الديون قصيرة الأجل للقطاع الخاص بلغت 95 مليار دولار، بنسبة تصل إلى 30% من إجمالي مديونية القطاع الخاص البالغة 316.2 مليار دولار، بينما الديون طويلة الأجل للقطاع الخاص بلغت 220 مليار دولار وبنسبة تصل إلى 70% من إجمالي الدين الخارجي للقطاع الخاص.

ومن الضروري أن نضع التحليل في سياقه الزمني، حتى لا يكون وصفنا لاستخدام الدين الخارجي لقطاع الخاص كنوع من الفزاعة ضرب من التهوين، فالبيانات توضح أن دين القطاع الخاص في تركيا عام 2010 بلغ 191 مليار دولار، وكانت الديون قصيرة الأجل منه نحو 71 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 37%، بينما كان الدين طويل الأجل 119 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 63% من إجمالي الدين الخارجي للقطاع الخاص.

وبعد هذه المقارنة، نجد أن وضع دين القطاع الخاص من حيث الالتزامات الزمنية، في عام 2017 أفضل منه في عام 2010، وإن كانت معدلات 2017 أعلى.
ومع ذلك نرى أن الأفضل أن نراقب الحكومة والبنك المركزي ديون القطاع الخاص، وتفعل الرقابة المحاسبية عليها، حتى لا تمثل مشكلة فيما بعد، ولا تستخدم كورقة ضغط على تركيا في أزمات أخرى مثل أزمة الليرة.

وهنا نجد أنه من المناسب القول بضرورة توجه تركيا للتمويل بالمشاركة، والتخلي عن التمويل بالديون بالتدريج، وبما يسمح بإمكانياتها وطبيعة التحول، سواء على مستوى القطاع الخاص أو الحكومة.

مواجهة تداعيات الحرب التجارية: في إطار العلاقات التجارية بين أمريكا وتركيا تظهر أرقام معهد الإحصاء التركي أن قيمة التبادل التجاري بين البلدين بلغ 20.5 مليار دولار في 2017، وكان الميزان التجاري في صالح أمريكا بنحو 3.3 مليار دولار. فقد بلغت الواردات التركية من أمريكا في نفس العام 11.9 مليار دولار، بينما الصادرات التركية لأمريكا بلغت 8.6 مليار دولار. وإجمالًا تمثل التجارة بين البلدين نسبة 5.2% من إجمالي التجارة الخارجية لتركيا في عام 2017، والبالغة 390 مليار دولار. ومن السلع التركية التي ستضرر من الرسوم الجمركية الأمريكية صادرات الصلب. وقد وجدت تركيا نفسها في مواجهة الحرب التجارية المفروضة عليها من قبل أمريكا، وبخاصة أنه تم تفعيل الرسوم الجمركية وزيادة على منتجات الصلب والألومنيوم التركي في ضوء التصعيد السياسي على خلفية اعتقال قس أمريكي في تركيا، وليس على خلفيات اقتصادية. وإن كانت القرارات الأمريكية أدت إلى آثار سلبية عل أداء الليرة التركية، وساعدت على تخفيضها بمعدلات ملموسة.

مقترحات لخروج أمن من الأزمة

ضرورة إعادة النظر في هيكل احتياطي النقد الأجنبي لتركيا، بحيث يكون شاملًا لأكثر من عملة، وليس الدولار فقط، وبخاصة أن الشريك التجاري الأول لتركيا هو الاتحاد الأوروبي، ويفضل أن يكون هيكل الاحتياطي مقسم ما بين الدولار بنسبة تمثل شراكة أمريكا في تجارة تركيا الخارجية، ثم النصيب الأكبر لليورو، يليه اليوان الصيني، ويمكن الين الياباني.. والجدير بالذكر أن يتم استبعاد الروبل الروسي بسبب أنه عملة غير دولية، على الرغم من أعلان روسيا لدراستها لمقترح تركيا يتوسيط العملات المحلية في التسويات التجارة البينية مع تركيا.

من الأهمية بمكان أن يلزم البنك المركزي المصدرين الأتراك بضرورة توريد كامل حصيلة التصدير لداخل البلاد، ولا يحتفظ بها بالخارج، ولا تتم عمليات مقاصة مع الشركاء الخارجيين، على أن يوفر الجهاز المصرفي للمصدرين احتياجاتهم من النقد الأجنبي عند احتياجهم.

مراقبة حركة التعاملات بالبورصة، وخروج الأموال الأجنبية في الأجل القصير، وفرض ضرائب على تلك الأموال، لوقف نشاط الأموال الساخنة التي تضر بالاقتصاديات في مثل حالة تركيا.

مراقبة أداء شركات الصرافة، وضمان عدم تعامله خارج النظام المعمول به، لأن التجارب في دول كثيرة، تدلل على أن شركات الصرافة تنشط بشكل كبير في مثل هذه الأزمات في التعاملات غير الرسمية، ولا تورد حصيلة تعاملاتها للجهاز المصرفي أو البنك المركزي، وللأسف في تجارب كثيرة ساهمت تعاملات شركات الصرافة في وقت الأزمات في تمويل الاقتصاد الأسود.

إلزام كافة المؤسسات المحلية والأجنبية بالتعامل بالعملات المحلية داخل تركيا، حيث تلجأ بعض المؤسسات في مشكلات تراجع العملة المحلية إلى التعامل بالعملات الأجنبية، مما يوجد طلب غير حقيقي على العملات الأجنبية.

مراقبة أداء الواردات لتعبر عن واقع حقيقي، ولا تستخدم الواردات في تهريب النقد الأجنبي للخارج، عبر صفقات وهمية، أو المغالاة في أسعار الواردات.

ختامًا:

نجد أنه من الضروري ألا نغفل ما تتعرض له تركيا من صراع إقليمي ودولي، وأن أزمة الليرة لم تخلو من مؤامرة، ولو نسبيًا، كما أن المضاربات كان واضحة ولا تحتاج لدليل، فتراجع أسعار الليرة كان يتم بشكل سريع.

وهنا نستحضر ما كتبه رئيس وزراء ماليزيا الحالي د محاضير محمد، عندما مرت بلاده بأزمتها الاقتصادية في نهاية تسعينيات القرن العشرين، وعبثت بها المضاربات، وسجلت له الأدبيات الاقتصادية مقولته لوصف دور هؤلاء المضاربين في هدم الاقتصاديات الناشئة وهي”لقد بذلنا على مدى ثلاثين أو أربعين عامًا، قصارى جهدنا لتمكين بلداننا من إحراز تقدم، والآن يأتي إلينا أحدهم مختالًا.. متغطرسًا، معه بضعة مليارات من الدولارات.. ليهدم في غضون أسبوعين كل ما أنجزنا”.

وضع تركيا ودورها الذي تسعى إليه في المحيطين الإقليمي والدولي، يتسم بالسعي للاستقلالية الكاملة والخروج من عباءة التبعية، وهو ما كلفها وسيكلفها الكثير خلال الفترة المقبلة، وما تم في أزمة الليرة، يأتي جزء منه -لا يستهان به- في هذا الإطار.

لذلك على تركيا أن تحافظ على مكتسباتها الاقتصادية والتنموية، وقد تكون من النتائج الإيجابية لأزمة الليرة، أنها كشفت عن أن هناك أدوار يمكن أن تمارسها تركيا على الصعيد الدولي لتحقيق مصالحها، ولتثبت مكانتها الدولية، في ظل الخلافات الحالية، والصراعات التي أوجدتها أمريكا مؤخرًا مع العديد من الدول

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس