شمس محمود - خاص ترك برس

بالرغم من مرور منطقتنا بكل هذه الأحداث وكل هذه الأزمات، إلا أننا ما نزال نسمع ونرى فريقا يجلس خلف الشاشات ليعطينا دروسا في المقبول وغير المقبول في سياسة تركيا الداخلية والخارجية، أو عن علمانية أردوغان الخطيرة، أو عن تعاون أردوغان مع الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية. وكيف أنه براجماتي يستغل الدين.

ثم يخبرونا بالمقروء والمنظور والمسموع عن كيفية تخليه عن إخواننا فى سوريا، أو غنائه فى حفل عام أو تركه المثليين أحرارا، وبائعات الهوى يسقين الخمر فى المواخير. أو أنه لا يفرق كثيرا فى باب الحريات عن السيسي فى مصر وبن سلمان فى السعودية.

وهذا خطاب ربما يؤثر فى الذين اتخذوا أردوغان نبيا أو سلطانا معصوما، أو يؤثر فيمن يرون الحدث بعيون غيرهم لمجرد التتابع والتنسيق في طرح رؤيتهم وعرضها، أو لمجرد التوافق الأيدولوجي، حتى لو كان طرحهم بائسا أو مُستغرقا فى الخيال والمثالية، أولائك الذين ينتصرون فى المعارك من فوق الأسرة والأرائك. أو الكارهين لأردوغان ولو كان نبيا مرسلا.

والاستهجان ليس في قيادتهم هذه المعارك من خلف الشاشات، ولا في معارضة أردوغان في بعض أفعاله. بل الإستهجان يكمن في غياب الرؤية "والبديل الواقعي" فيما يطرحون ويريدون، وفي مطالبتهم الأتراك وغيرهم بخوض معاركهم التي فشلوا هم في خوضها بأنفسهم، ومطالبة الإدارة التركية بعدم الخشية من الغرب أو الشرق طالما يقودوا المعركة نصرةً للمظلوم، في الحين الذي هم فيه هائمون في شوارع المهجر (ومنها تركيا) التي فروا إليها من بطش أنظمتهم، ليشربوا الشاي ويأكلوا الكيك، أو ليباشروا أعمالهم وحياتهم بهدوء أو بصخب معقول!!

وأصحاب هذا الطرح لا يقدمون بديلا - منذ عقود - سوى الكلمات الحماسية والشعارات النارية والاستشهادات الفضفاضة، كمثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق. دون تعريف لمعنى أو مقصود التقوى التي جاءت في سياق مختلف عن السياق الذي يطرحه هؤلاء. ودون الإجابة عن سؤال مفادة: هل التقوى المقصودة هنا تخالف أحكام الإضطرار أو الإجبار التي تفيض بها الشريعة قولا وعملا أو لا تعتبرها؟؟

وهل مراد التقوى هنا هو ترك الأسباب وعدم اعتبار المنظور والمعروف والمتوقع بمقدماته التترى، كالقدرة والمتاح والممكن وموقف العدو وقدراته مثلا، للمأمول والمظنون الذي لا دليل على قربه أو إمكانية حدوثه قريبا؟

وهل أمر الله المؤمنين بالجهاد على تلك القاعدة التي قعدتموها، أم جعلها معلقة على القدرة والإطاقة، رغم أن الرب هو المالك الحقيقي للقدرة والتغيير، وفريق المؤمنين هو الذي يخوض المعركة باسمه؟

وهؤلاء يستشهد الواحد منهم بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ليخبر الجماهير الجاهلة أو المطيعة، بأننا مطالبون بإعداد ما نستطيعه من قوة فقط حتى ولو كانت حجارة، وأننا إن فعلنا سينصرنا الله لا محالة، لأنها وإن كانت قليلة مقارنة بالعدو، لكنها قليلة مباركة؟!!

وهذا تفسير مردود، يردد بين الجماهير منذ عقود، سمعته من كبار وصغار فى الحركة الإسلامية وغيرها.

وهذا التفسير يعني أنه حين تقوم معركة بين أهل الحق وأهل الباطل، استطاع فيها أهل الحق أن يجمعوا "النبل" في مقابل "صواريخ أهل الباطل"، فهذا موجب للجهاد عليهم، وموجب للنصر والتمكين لهم، لأنهم قد أعدوا القوة التي ملكوا واستطاعوا؟!!

وهؤلاء قطَّعوا القرآن جملا وآيات، ففصلوها عن بعضها وسياقها، حتى قدمت مشوهة للجماهير التي تعلقت بهذا المشوه، لكنها فى المعارك الحقيقية لم تجد ذلك الأثر الذي وعدها به المشوِهون. فراحوا يبحثون عن أسباب الهزيمة وترك الله لهم فى المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، رغم أن الله لم يأمرهم بهذا، ولم يوجبه عليهم.

لأن الله قال فى ذات الآية عن القوة {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} فمقصود القوة ومرادها هنا أن ترهب العدو. فإن لم تكن القوة التي يمتلكها أهل الحق ترهب العدو فلا تسمى قوة ولا توجب الجهاد ولا النصر ولا التمكين، حتى لو كان الجهاد جهاد دفع - على تفصيل ليس هذا مكانه - من غير استسلام أو تسليم، فالمطلوب هو الإعداد الجيد وليس تقديم القتلى قرابين، ولا الجبن وترك الجهاد بالكلية كما تفعل السلطة الفلسطينية مثلا.

ودون الخلط بين الجهاد القتالي وشروطه، وإنكار المنكر الموقوف على الإستطاعة غير المشروطة.

فدخول العدو إلى بلادنا - دخول تمكين - أو ظهور الفاسق علينا بقوته، يسقط شروط الجهاد التي منها إعداد القوة المرهبة للعدو، واعتبار العدد فى المواجهة، ويبرز مكانه إنكار المنكر (المقدر بالإستطاعة غير المشروطة) بشروط الإنكار المقررة. فاحتلال العدو أو وجوده على أرضنا، وكذا تمكن الفاسق الجائر أو الفاجر المنتهك للحقوق، أو الحاكم الذي يتعدى فجوره أو فسقه للناس أو تَغَلُّبِهِ، لا يوجب الطاعة، بل هو منكر يوجب المقاومة، والتي هي إنكار للمنكر الذي يفسد معه وبه دين الناس أو دنياهم - على تفصيل طويل فى الإنكار أوعسكرة الإنكار طوعا أو كرها، لا يمكن شرحه هنا -.

وجاء فى الحديبية: فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ قَدْ لُجَّتْ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخَذَ بِتَلْابِيبِهِ قَالَ: وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟!!

قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا/ إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ.

فهل النبي صلى الله عليه وسلم حينما قبل بشروط قريش المجحفة فى صلح الحديبية والتي منها رد من جاءه من المؤمنين إلى المشركين وفيه من الفتنة ما فيه، لم يكن يتقي الله أم كان يتقيه؟؟

ستعجب لما تعلم أن بعضهم قال: لقد أخطأ رسول الله حينما قبل بهذا الشرط!!

وهؤلاء ليس لهم مشروع ولا طرح يفيد في قيام دولة ولا تجربة ناجحة، إلا مجرد الصراخ والسب واللعن والشعارات الكبيرة واستدعاء أقوال الفقهاء أو رص الأحكام التي ربما لا يفهمون كثيرا من معانيها أو مرادها، والقص والنسخ من هنا وهناك، دون النظر إلى الواقع ومتطلباته أو ما يفرضه علينا.

أما الذين يحاولون قراءة المشهد فيرون فى الرجل مسلما لا يعادي دينه، لم يسمى نفسه سلطان المسلمين ولا خليفتهم، له مشروع ناجح منذ ستة عشر عاما، يتعامل مع الأحداث بما يملكه وما يستطيعه، له إنجازات على أرض الواقع حققها لبلاده وانتفع منها بعض من المسلمين المستضعفين حول العالم. لا يتحمل وحده الخطأ فيما آلت إليه الثورة السورية، فهو كان مقيدا نوعا ما في فترة ما قبل الانقلاب، وجاء الانقلاب ليؤكد بعض القيود والأمور التي كان يخشاها، بل تتحمل معه المسؤولية، تلك المعارضة التي وثقت كثيرا فى الوعود الغربية والعربية، والتي لم تجهز لنفسها بدائل تستطيع بها الاستمرار إن وقع عليها حظر أو مُورس فوقها ضغط، والتي لم تأخذ حيطتها أو تتوقع الغدر من خصوم الأمس، تلك التي تناطحت مع بعضها البعض على ما لم يؤكد الربح فيه بعد. وتتحمل المسؤولية معها، تلك الجماهير التي وثق بعضها في داعش ودعمها قبل أن تذبحهم وتعذبهم وتسلمهم للنظام تسليما. أولائك الذين انقسموا ولم يتوحدوا تحت راية معلومة بدواع شتى، الذين كان يسب بعضهم فلان فى الصباح ويتبعه فى الليل، الذين يلومون الجميع اليوم كما يلومهم الجميع. دون الإغفال عن الإرادة الدولية التي تأرجح خيارها بين تدجين الربيع العربي أو إحراقه.

وليس أردوغان علمانيا كالعلمانية الأتاتوركية أو العلمانية الفرنسية أو علمانية ستالين وماو وجمهوريات آسيا الوسطى، أو كالعلمانية العربية التي نعيش فيها منذ قرن تقريبا. لكن الرجل علماني بمفهوم العلمانية المقبولة (التي تُسَوَق عالميا ولا تطبق). والتي هى ضرب قريب من العلمانية الجزئية التي تحدث عنها الراحل عبد الوهاب المسيري.

ويجب الحكم على العلمانية الأردوغانية "المطبقة" دون الإغفال عن الواقع والوضع السياسي الذي استلم فيه أردوغان ورفاقه السلطة، أو الأسس التي قبلوا عليها تداول السلطة والمنافسة على مقعد التوجيه والإدارة داخل الدولة التركية. أومعنى العلمانية التي يسير بها ويطبق عليها خططه ويرسمها.

لأنك تجد فى المقابل أن علمانيي تركيا يتهمون حزب العدالة والتنمية بتطبيق ما سموه: الخطة السرية لأسلمة البلاد.

وفي ال30 من تموز/ يوليو 2008 حكمت المحكمة الدستورية في تركيا بأغلبية ضئيلة برفض دعوى تطالب بإغلاق حزب العدالة والتنمية بتهمة قيادة البلاد بعيدا عن نظامها العلماني نحو أسلمة المجتمع، لكن المحكمة رغم قرارها، فرضت عقوبات مالية كبيرة على الحزب، عبر حرمانه من نصف ما يحصل عليه من التمويل من الخزانة العامة التركية، ليصرح أردوغان، رئيس الحزب ورئيس الوزراء وقتها: بأن حزبه سيواصل السير على طريق حماية القيم الجمهورية ومن بينها العلمانية.

لكن هؤلاء الذين يأبون إلا الصراع في كل شيء، والذين إن لم يجدوا صراعا أوجد لهم الشيطان بابا للصراع، لا يقبلون أردوغان إلا على هواهم، رغم أن هواهم لم يقُدنا لشيء صالح لليوم، فتراهم يؤولون كلامه وفق أدبياتهم هم، بل وينسبون الرجل - ونجاحاته - لأنفسهم، رغم أنه خرج على إخوانهم هناك، حتى قال الأستاذ أربكان: إن من يصوت لهذا الحزب سيكون قد قطع تذكرة دخول إلى جهنم". بل وسماه "الحزب المنشق العميل الذي يتحرك بأوامر من واشنطن وتل أبيب"!!

ولما يقال لهم: لقد جُربتم. يردوا بأنهم لم يجربوا ولم نَرَ أثرهم بعد!!. رغم أن كلا المنهجين - المكفر والمسلطن لأردوغان - جُرب وكانت نكساته ووكساته في مصر وأفغانستان ظاهرة واضحة، فلم يسعوا إلى تأسيس دولة، بل إلى تغليب مذهب وطريقة، مرة بإخلاص متشدد تحميه بندقية، وأخرى بفجور وغباء تحميه جماهير جاهلة بأبجديات الطاعة وأصول الحكم، وقيادة لا تحب أن تسمع إلا صوت الطاعة، ولو كانت تقود الناس للعبور على جسر معلوم مسبقا أنه مفخخ وجاهز للتفجير.

وربما من لم يفهم أهمية أمتلاك أدوات المحافظة على التوازن حتى مع من تبغض، وفهم تحركات الخصم والعدو، يفهمه اليوم الموقف التركي أمام الهجمة الأمريكية الاقتصادية التي افتعلها ترامب، والتي عرت "حلف إيفانكا" العربي. أولائك الذين دفعوا المليارات إرضاء للسيد الأبيض وتقوية موقفه، والكثير من أموالهم وأوقاتهم لوأد حلم شعوب المنطقة فى النهوض والحرية، أولائك الذين يشبهون "زنجي المنزل" الذي يخبر السيد الأبيض عن حراك "زنجي الحقل"، من أجل تحسين ظروف العبودية التي يعشقون ويريدون تعميمها، فالعاهرات كم تود أن يصبح نساء الكون كلهن زواني.

وموقف تركيا في معركة إدلب.

فتركيا التي تحاول وقف النفوذ الإيراني فى سوريا والعراق لاعتبارت عدة من ضمنها وقف التمدد الكردي المدعوم غربيا. وتركيا العضو فى حلف الناتو والتي شاركت الثوار - بشكل محدود أو مشروط - في مواجهة روسيا وإيران عسكريا بشكل غير مباشر. لم تتردد لحظة في مد يدها إلى طهران وموسكو وتوسيع التعاون التجاري والعسكري، من أجل تقوية موقفها أمام الموقف الأمريكي، ولو كان بشرائها صفقة صواريخ روسية تبغض الولايات المتحدة أمامها. ذلك لأن "حليف" تركيا "المفترض" يلعب اليوم بخسة واضحة دور "العميل". وكذلك من أجل إيجاد فعالية حقيقية لدورها فى إدارة الصراع داخل سوريا، الذي يتجه لصالح حلفاء الأسد هذه الأيام. والذي كان أحد أهم أسبابه التشرذم داخل صفوف المعارضة، والتردد التركي. وذلك بامتلاك أوراق لعب أكثر مع جميع الفاعلين والمؤثرين هناك.

وما كان هذا ليُقبل من أردوغان لو أنه تبنى موقفا ثابتا وواضحا تجاه روسيا أو إيران كما فعل فى مصر، ولكن قُبِلَ هذا منه: لأنه كان دائما واضحا فى خطابه لهذه الدول، في أن المصلحة هى التي تغلب على طبيعة التعامل بين تركيا والدول الفاعلة والمؤثرة حول العالم وعليها، وليست الشعارات الكبيرة غير القابلة للتنفيذ.

ففي علم الإدارة: امتلك ورقة الضغط، فاوض بها، احصل على جزء مقبول من مرادك، ثم حدث الناس بموقفك الثابت. أما أن تحدثهم عن موقفك الثابت، وأنت لا تملك لتحقيقه أدوات، فهذا يجلب عليك ضغطا شديدا، ويحطم صورتك عند الخسارة، بل ويجعلك على الدوام فى خسران مستمر، أو في حالة مقامرة مستمرة.

 ولكن أيما ما تكون المقاربة التي ستتوصل إليها تركيا مع الروس، فليست هذه نهاية المطاف، وليست هي اللحظة التي يتنفس بعدها الجميع الصعداء، لأن الروس سيبدؤوان في البحث من بعد أي اتفاق يجرونه مع الأتراك عن ثغرات يمكنهم من خلالها إحكام الضغط أكثر على الثوار في إدلب وباقي المناطق التي لم يسيطر النظام عليها بعد، وعلى الأتراك كذلك.

ويجب أن يعلم الثوار أن تركيا تقف اليوم منفردة، لا يدعمها سوى قطر ومخاوف الأوروبيين من موجات نزوح لا يمكنهم احتواؤها ولا صدها إلا بالرصاص الذي سيؤثر سلبا على المزاج الانتخابي، لأن الأوروبيين "الرسميين" قد باعوا حقوق الإنسان منذ زمن بعيد، لأنهم لم يكونوا مؤمنين بها، بل مستغلين لها.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس