أنس سليم زين الدين - مدونات الجزيرة

شهدت تركيا في الأعوام الأخيرة تأسيس عدد مهول من الشركات على أراضيها من قبل العرب بمختلف جنسياتهم. هذه الشركات تعتمد بشكل أساسي في توثيق التعامل فيما بينها على عقود تتم صياغتها باللغة العربية. أما العلاقات بين هذه الشركات والشركات المؤسسة من قبل المواطنين الأتراك فقد اعتاد الكثير من رجال الأعمال العرب في تركيا على صياغة وتوثيق هذه العلاقات بعقود باللغة الإنجليزية، كونها لغة مشتركة بين الطرفين. فهل هذه العقود التي تمت صياغتها بلغة غير اللغة التركية هي عقود صحيحة أم باطلة وفق القوانين التركية؟ وهل تلزم هذه القوانين الشركات بصياغة كل عقودها باللغة التركية؟ وما هي الأثار القانونية المترتبة على صياغة هذه العقود بأي لغة أجنبية أخرى؟ هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذه التدوينة في إطار القوانين التركية ذات العلاقة والقرارات الأخيرة للمحاكم التركية العليا.

صدر عام 1926 القانون رقم ٨٠٥ المتعلق بإلزامية استخدام اللغة التركية في المؤسسات التجارية، وهو مازال مطبقا وساري المفعول في المحاكم التركية. يلزم هذا القانون كل الشركات التركية بكتابة كافة عقودها باللغة التركية. حيث تنص المادة الأولى من هذا القانون على التالي: " تعتبر كل أنواع المؤسسات والشركات التجارية التركية ملزمة باستخدام اللغة التركية في عقودها وكل أنواع تعاملاتها واتصالاتها وسجلاتها داخل تركيا".

بالتأكيد تعتبر كل الشركات المؤسسة من قبل الأجانب في تركيا وفق القوانين التركية شركات تركية. وبناء عليه تكون هذه الشركات ملزمة كما الشركات المؤسسة من قبل الأتراك باستخدام اللغة التركية في العقود التي توقعها مع الجهات الأخرى. لكن هذه المادة تعفي الشركات التركية من استخدام اللغة التركية في تعاملاتها وعقودها المبرمة خارج الأراضي التركية.

وقد صدر عن المحكمة العليا في تركيا بتاريخ 22/02/2018 قرار له علاقة بتطبيق هذه المادة. وفق هذا القرار الذي يحمل الرقم 2018/1344، قضت المحكمة العليا بإبطال قرار المحكمة التجارية، كونها لم تأخذ في قرارها بعين الاعتبار المادة الأولى من قانون إلزامية استخدام اللغة التركية في المؤسسات التجارية وقضت بعدم الأخذ بأحكام العقد لمصلحة المدعى عليه، كونه قد صيغ باللغة الإنجليزية.

لكن القانون التركي سابق الذكر يخفف هذا الإلزام بشكل كبير، إذا كان أحد أطراف العقد أو المعاملة عبارة عن شركة أجنبية تم تأسيسها خارج الأراضي التركية. حيث تنص المادة الثانية من هذا القانون على التالي: "بخصوص الشركات والمؤسسات الأجنبية، ينحصر هذا الإلزام فقط في معاملاتهم واتصالاتهم مع الشركات والمؤسسات التركية أو مع المواطنين الأتراك أو مع الدوائر الرسمية للدولة التركية". وبناء عليه إذا كان الحديث عن معاملة داخل الأراضي التركية بين طرفين كلاهما من الشركات الأجنبية، ففي هذه الحالة لا يجب عليهم التعامل باللغة التركية. لكن في حال كان الحديث عن معاملة بين شركة تركية وشركة أجنبية، فهنا يلزم الطرفين التعامل فيما بينهم باللغة التركية.

عدم استخدام المشرع التركي في نص المادة الثانية سابقة الذكر لفظ "عقود" واستخدامه للفظ "معاملة" فقط، جعلت الحقوقيين الأتراك ينقسمون إلى فريقين. فريق منهم يعتبر أن "العقود" تدخل ضمن لفظ "معاملة"، وبالتالي يجب وفق هذا الفريق، صياغة العقود باللغة التركية إذا كان أحد الطرفين شركة أجنبية والطرف الأخر شركة تركية. وفريق أخر يعتبر عدم وجود لفظ "العقود" بحد ذاته في هذه المادة، دليلا على عدم رغبة المشرع التركي بإلزام الشركات الأجنبية بصياغة عقودها مع الشركات التركية باللغة التركية.

من وجهة نظري فإن رأي الفريق الثاني هو الرأي الأجدر بالأخذ به، لأن ذكر المشرع التركي للفظ "العقود" في المادة الأولى وعدم ذكره له في المادة الثانية يدل على رغبته الواضحة بعدم إلزام الشركات الأجنبية بصياغة عقودها مع الشركات التركية باللغة التركية. ولكن على صعيد الشركات التركية المؤسسة في تركيا من قبل الأجانب فأرى الأولى والأحوط لهم، صياغة عقودهم مع الشركات الأجنبية أيضا باللغة التركية. كذلك يمكن كتابة العقد بلغة أجنبية بجانب اللغة التركية، ولكن النص الذي سيؤخذ به في المحاكم التركية هو النص التركي للعقد دون أدنى شك.

أما بخصوص الأثار القانونية المترتبة على عدم الالتزام بصياغة العقود باللغة التركية، فيمكن تلخيصها فيما يلي: الأثر الأول هو أن الأحكام المقررة لمصلحة أحد الأطراف في هذا العقد، لن يؤخذ بها بعين الاعتبار في المحاكم التركية. وبالطبع فإن لهذا ضياعا لكثير من المصالح والحقوق للشركات التي تبرم عقود بمبالغ عالية، دون الانتباه للالتزامات الملقاة على عاتقها في هذا القانون لجهلها به والجهل بالقانون ليس بعذر. بسبب هذا الأثر القانوني لم تقبل المحكمة العليا في قرارها رقم 5292/ 2009 الصادر بتاريخ 04/05/2009، الأخذ بأحكام عقد قامت أحد البنوك التركية بإبرامه باللغة الإنجليزية مع أحد عملائها الأجانب من دولة البحرين وبالتالي خسر البنك الدعوة القضائية بسبب صياغته للعقد باللغة الإنجليزية. أما الأثر الثاني فهو تغريم المتعاقدين بعقد مصاغ بلغة أجنبية بغرامة مالية لا تقل عن 100 يوم. وتتراوح غرامة كل يوم بين 20 إلى 100 ليرة تركية ويتم تحديدها من قبل القاضي بناء على الحالة المالية والاجتماعية للمغرم. 

بناء على ما سبق ووفق العديد من القرارات الأخيرة الصادرة عن المحاكم التركية العليا، ستفقد العديد من الشركات التركية سواء المؤسسة من قبل الأجانب أو المؤسسة من قبل الأتراك أو المجنسين الجدد الكثير من مصالحها وحقوقها المالية، عند حدوث خلاف بينها وبين الشركة المتعاقدة معها ونقل هذا الخلاف لإحدى المحاكم التركية. لذا وجب على هذه الشركات تنفيذ كافة الالتزامات المنصوص عليها في القانون رقم 805 والتي من أهمها صياغة كافة عقودها باللغة التركية. 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس