سعيد الحاج - إضاءات

بهذه الكلمات غزيرة الدلالات عقّب الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين على عملية جهاز الاستخبارات التركي التي أحضر فيها المتهم بالتدبير لتفجير الريحانية في 2013 يوسف نازك قبل أيام.

وهو تقييم لا يخلو من تقدير وفخر وثقة يبدو أن الجهاز حازهم مؤخرًا من خلال جهوده وإنجازاته، في مقابل سهام النقد الحادة التي وجهت له قبل فترة ليست بالبعيدة.

محاولة الانقلاب

في الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016، فشلت محاولة انقلابية قامت بها مجموعة داخل الجيش التركي نفذها «الكيان الموازي»، الاسم الاصطلاحي للقيادة المتنفذة في جماعة «الخدمة» التي يتزعمها فتح الله كولن.

في الساعات الأولى لفشل المحاولة الانقلابية، امتدِحَ دور جهاز الاستخبارات التركي ورئيسه حاقان فيدان، باعتبار أن أفراد الجهاز شاركوا ميدانيًا ضد القوات الانقلابية، فضلاً عن بعض التفاصيل الأخرى التي انتشرت في وسائل الإعلام حول إخبار الرئيس التركي وبالتالي انتقاله من مكان إقامته في أحد فنادق مرمريس قبل وصول القوة التي استهدفت اعتقاله و/أو اغتياله بدقائق.

بيد أن الأيام اللاحقة حملت تقييمات معاكسة تمامًا، حين ظهرت تفاصيل مهمة مثل «وصول معلومة ما» لرئاسة الجهاز عصر يوم الانقلاب الفاشل، وهي المعلومة التي ذهب فيدان بنفسه إلى مقر أركان القوات المسلحة للتحقق منها والنقاش مع رئاسة الأركان حولها. سادت في حينها تقييمات ركزت على فشل جهاز الاستخبارات في توقع الانقلاب وكشفه قبل موعده وبالتالي إفشاله قبل ساعة الصفر، بما كان سيمنع الخسائر البشرية والسياسية والاقتصادية للانقلاب.

في الأيام التالية، فجر الرئيس أردوغان مفاجأة من العيار الثقيل حين قال في أحد اللقاءات التلفزية إنه «عرف عن المحاولة الانقلابية الفاشلة من شقيق زوجته»، كما ذكر رئيس الوزراء في حينها بن علي يلدرم أنه «لم يستطع الوصول لرئيس جهاز الاستخبارات» حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً (بعد بدء المحاولة بحوالي ساعتين)، وهي تصريحات فُسِّرت على نحو واسع كتعريض بدور رئيس جهاز الاستخبارات الذي يفترض أن يكون مصدر معلومات الرئيس ورئيس الوزراء.

أكثر من ذلك، تحدث الرئيس التركي بعيد المحاولة الانقلابية بشكل واضح عن أن عمل جهاز الاستخبارات بحاجة لمراجعة وتصويب وتطوير، وأنه ينوي القيام بإعادة هيكلة للجهاز تشمل فصله إلى جهازين أحدهما للداخل والآخر للخارج كما في النموذج الأمريكي. بينما تحدثت بعض المقالات والتقارير عن احتمالية إقالة الرئيس لفيدان من منصبه، سريعًا أو خلال عملية إعادة الهيكلة، وهو ما لم يحصل بطبيعة الحال.

بين المؤسسة والشخص

من الصعوبة بمكان الفصل التام بين الحديث عن جهاز الاستخبارات التركي ورئيسه حاقان فيدان، الذي يقوده منذ 2010 ونقله منذ ذلك الحين نقلة نوعية، فضلاً عن الأدوار المهمة التي لعبها الرجل وما زال.

حاقان فيدان، عسكري سابق من مواليد 1968، وأب لثلاثة أبناء، عمل ضابطًا في المؤسسة العسكرية بين 1986 و 2001، ترك المؤسسة العسكرية واختار دراسة الإدارة والعلوم السياسية في الولايات المتحدة، ثم أنهى الماجستير في جامعة «بيلكنت» المرموقة في تركيا وكانت رسالته حول «دور الاستخبارات في السياسة الخارجية»، كما أنهى من نفس الجامعة دراسة الدكتوراه عام 2006 عن أطروحة بعنوان «الدبلوماسية في عصر المعلوماتية: استخدام تقنيات المعلومات في التحقق من الاتفاقيات».

بعدما تنقل في المناصب بين عدد من المنظمات الدولية من بينها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبعد فترة من التعليم الأكاديمي، والعمل مستشارًا في سفارة بلاده في أستراليا، ثم رئاسته منظمة التعاون والتنمية التركية (تيكا)، عيّن في 2007 نائبًا لمستشار رئيس الوزراء للسياسة الخارجية والأمن الدولي، قبل أن يعين نائبًا لرئيس جهاز الاستخبارات في 17 نيسان/ أبريل 2009، ويصبح رئيسه إثر تقاعد سلفه إمرة تانر في 25 أيار/ مايو 2010، ليصبح أصغر رئيس جهاز استخبارات في تاريخ الجمهورية التركية بعمر الـ 42.

لا يُعرف عن فيدان الكثير، فهو قليل الكلام وبعيد عن الأضواء والإعلام. إلا أنه من المتفق عليه أنه منضبط في عمله، ومقرب من الرئيس التركي وذو شخصية محافظة. ولعل هذه الصفات وغيرها جعلته في مرمى الاتهامات الإسرائيلية التي رأت فيه خصمًا لها ونوعًا مختلفًا من رؤساء جهاز الاستخبارات الذين عرفتهم.

وقد بدأ هجوم تل أبيب على الرجل بعد 3 أشهر فقط من توليه لمنصبه، في آب/ أغسطس 2010، حين اتهمه وزير دفاع الاحتلال في ذلك الحين إيهود باراك بالقرب من إيران وعبّر عن خشيته من وصول «أسرار إسرائيل إلى طهران» عن طريقه، وهو الأمر الذي كررته تل أبيب للرجل عام 2013 على شكل اتهام بـ «تسليم طهران 10 عملاء موساد إيرانيين»، فضلاً عن تسلمه لمنصبه قبل حادثة سفينة مافي مرمرة بأيام قليلة.

مرت حياة فيدان المهنية بعدد من المحطات الحساسة؛ أهمها استدعاؤه عام 2012 من قبل مدعٍ عام محسوب على جماعة كولن للتحقيق معه كمتهم! في قضية التواصل مع منظمة إرهابية (حزب العمال الكردستاني) والتي يعتقد أن الهدف منها كان إدانة رئيس الوزراء حينئذ أردوغان.

هذه القضية، التي وُثــِّقت في السياسة التركية باسم «حادثة السابع من شباط»، والتي رفض فيها فيدان المثول للتحقيق بقرار من أردوغان قبل أن يُجرى تعديل قانوني لاشتراط إذن رئيس الوزراء قبل التحقيق مع أفراد الجهاز أو آخرين بأي اتهامات متعلقة بمهمات مكلفين بها منه، كانت الأزمة الأولى بين أردوغان وجماعة كولن والتي تلتها أزمات لاحقة وصلت لذروتها في الانقلاب الفاشل عام 2016.

من المحطات المهمة كذلك استقالته عام 2015 من منصبه للترشح في الانتخابات البرلمانية خلال رئاسة داوود أوغلو للحزب والحكومة، وهي الخطوة التي عارضها أردوغان علنًا بسبب الحاجة له في منصبه والثقة به، قبل أن يتراجع عنها فيدان ويعود لرئاسة الاستخبارات بعد لقاء الرجلين، فضلاً طبعًا عن المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016.

عمليات نوعية

عانت تركيا خلال الأعوام القليلة الماضية وخصوصًا عامي 2015 و 2016 من العمليات الإرهابية والانتحارية والتفجيرات، في فترة كانت تواجه فيها عددًا من المنظمات الإرهابية مثل حزب العمال الكردستاني وداعش وغيرهما، بينما تنعم مؤخرًا ومنذ أشهر طويلة بحالة من الأمن والهدوء والاستقرار.

يمكن أن يعزى الفارق الواضح بين الحالتين إلى عدة عوامل مثل أداء وزارة الداخلية، والعمليات العسكرية الاستباقية في سوريا والعراق، وتداعيات الانقلاب الفاشل، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، لكن جهد جهاز الاستخبارات في جمع المعلومات ومنع الهجمات وتنفيذ الضربات الاستباقية أحد أهم هذه العوامل كذلك.

في الخامس من نيسان/ إبريل الفائت، قال الناطق باسم الحكومة التركية في حينها بكير بوزداغ إن جهاز الاستخبارات استطاع منذ الانقلاب الفاشل «جلب 80 مسؤولاً وعنصرًا من جماعة كولن الإرهابية من 18 دولة» موزعة بين أوروبا وأفريقيا وآسيا إلى تركيا. بيد أن إنجازات الجهاز في الأشهر القليلة الأخيرة تجاوزت ذلك الرقم، فضلاً عن إضافة حزب العمال الكردستاني إلى قائمة المستهدفين بعملياته.

فإضافة لتعاون بعض الحكومات مع السلطات التركية وتسليمها لبعض منسوبي أو قياديي جماعة كولن كما فعلت كازاخستان، جلب جهاز الاستخبارات التركي في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 أحد قياديي الأخيرة من باكستان، قبل أن يحضر بعدها بعدة أيام أحد مسؤوليها في إندونيسيا إثر تعاون سلطاتها والتي طلبت منه مغادرة أراضيها.

في تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، أوقف جهاز الاستخبارات التركي بالتعاون مع أجهزة الأمن السودانية رجل الأعمال ممدوح تشيكماز الذي يعرف بـ«خزنة مال الجماعة» وأحضرته لتركيا بعد استجوابه هناك.

في نهاية آذار/ مارس الفائت، أحضرت الاستخبارات التركية 6 من أعضاء الكيان الموازي من كوسوفو بالتعاون مع أجهزة الأمن المحلية وهي العملية التي أدت لأزمة كبيرة بين رئيس وزراء كوسوفا من جهة ووزير الداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات من جهة أخرى، كما أحضرت 3 من مسؤولي الجماعة في الغابون في نيسان/ أبريل الفائت.

في تموز/ يوليو جلبت الاستخبارات قياديًا كان يسمى «خزنة أذربيجان» من باكو، و«إمام» رجل الأعمال التابع للجماعة في مرسين من أوكرانيا، إضافة لأحد خبراء وسائل التواصل الاجتماعي في الكيان الموازي من أوكرانيا أيضًا في عملية منفصلة بعدها بثلاثة أيام.

في آب/ أغسطس الفائت، وفي عملية مشتركة بين جهاز الاستخبارات والقوات المسلحة التركيين، تم «تحييد» عضو المجلس التنفيذي لما يسمى بـ «اتحاد مجتمعات كردستان» (KCK) و«مسئول سنجار» في حزب العمال الكردستاني مام زكي شنجالي بقصف سيارته من الجو.

أما العملية التي حازت الصدى الأكبر فكانت اعتقال مخطط تفجير الريحانية، الذي ذهب ضحيته 53 مواطنًا تركيًا وسوريًا عام 2013، يوسف نازك في اللاذقية وإحضاره إلى تركيا لمحاكمته، وهي عملية حملت دلالات كبيرة ورسائل في عدة اتجاهات؛ أولها باتجاه المنظمات الإرهابية بخصوص يد تركيا التي ستطولهم ولو بعد حين، وثانيها باتجاه النظام السوري الذي اعتقل نازك من منطقة تعتبر إحدى قلاعه.

بعد ذلك بأيام اعتقلت الاستخبارات بالتعاون مع جهاز الدرك 9 من منسوبي وحدات حماية الشعب (YPG) – الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني – شاركوا في قتل ضابطين تركيين خلال عملية غصن الزيتون وأحضرتهم لتركيا، وألقت القبض على اثنين آخرين من الوحدات شاركا في قتل جنود أتراك في سوريا وجلبتهم لتركيا قبل ساعات من كتابة هذه السطور.

ما الذي تغير؟

من جهاز منكفئ على الداخل إلى واحد قادر على إنجاز كل تلك العمليات وغيرها، المعلنة والسرية، خلال سنوات قليلة، استفاد جهاز الاستخبارات التركي من عدة عوامل ساهمت في تطوير عمله، أهمها:

أولًا: التناغم، بين قيادة الجهاز والحكومة المنتخبة، خصوصًا في ظل شخص شاب يقوده ويعتبره أردوغان ذراعه اليمنى و«مستودع أسراره وأسرار الدولة».

ثانيًا: الحافز، فقد كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة شارة بدء إعادة الهيكلة في عدد من مؤسسات الدولة في مقدمتها الجيش والاستخبارات، إضافة لتحدي إثبات الذات وتقديم الإنجازات، فضلاً عما أمنته فترة الطوارئ من غطاء قانوني وإمكانات للعمل والإنجاز.

ثالثًا: التنسيق، فبعد سنوات طويلة من العمل بشكل مستقل ما أدى لغياب التنسيق ولحالة من الفوضى والتعارض أحيانًا وضياع الكثير من الفرص، أسست الاستخبارات عام 2013 تحت بنيتها «مركز التنسيق الاستخباري المشترك» الذي شاركت فيه فروع الاستخبارات في كل من الشرطة والجيش. كما أسِّسَ في 2016 نظام تبادل معلومات عملياتي (OBİPAS) تجتمع فيه معلومات كافة المؤسسات الأمنية والاستخبارية في البلاد مثل الجيش والشرطة والدرك وجهاز الاستخبارات ووزارة الخارجية، ما رفع مستوى التنسيق إلى الذروة.

رابعًا: العمل في الخارج، في نيسان/إبريل 2014 عدل البرلمان قانون جهاز الاستخبارات ونص على صلاحيات إضافية للجهاز منها جمع المعلومات في الخارج وتنفيذ ما يوكله المجلس الوزاري له ويطلبه منه وتطوير هياكله وإمكانات أفراده ليتناسبوا مع المهمات الجديدة، ما اعتبر حينها شارة لبدء الجهاز تنفيذ عمليات خارج البلاد.

خامسًا: الصلاحيات، حيث كان ممنوعًا على جهاز الاستخبارات العمل وجمع المعلومات داخل المؤسسة العسكرية خصوصًا بعد انقلاب 1980 (كان يتم في بعض الفترات سرًا ودون غطاء قانوني)، وهو ما كان أحد أسباب فشل الجهاز في توقع المحاولة الانقلابية ومنعها. المرسوم بقوة القانون رقم 694 الصادر عن الحكومة التركية بتاريخ 25 آب/ أغسطس 2017، والذي ربط رئاسة جهاز الاستخبارات برئاسة الجمهورية مباشرة، منح الجهاز صلاحية العمل وجمع المعلومات داخل المؤسسة العسكرية، وهو ما فتح له آفاقًا جديدة رحبة.

سادسًا: امتلاك الأدوات، ذلك أن الجهاز المنكفئ على نفسه على مدى سنوات طويلة وجد نفسه – مع باقي المؤسسات – غير قادر على التعامل مع المهددات والمخاطر وحتى الفرص الكثيرة المتاحة والتي فرضت نفسها على تركيا بعد الثورات العربية والثورات المضادة، لافتقاده الأدوات الضرورية لذلك.

بعد سنوات من التعامل مع دول الجوار وفي مقدمتها سوريا والعراق، والتواجد العسكري على أراضيها، والعلاقات مع فصائل المعارضة السياسية والعسكرية فضلاً عن الأهالي، يمكن القول إن الاستخبارات التركية باتت ممتلكة للمعلومات الدقيقة وأدوات الفعل والإنجاز والتي من ضمنها تجنيد عناصر محلية وتكليفها بمهمات محددة ساهمت في نجاح العمليات الأخيرة وخصوصًا في سوريا.

وهكذا، يمكن القول إن جهاز الاستخبارات التركي قد انتقل خلال حوالي عامين فقط من الاتهام بالعجز والفشل إبان المحاولة الانقلابية الفاشلة إلى جهاز يشار إليه – وإلى رئيسه – بالبنان، بعد عدد من العمليات النوعية الناجحة، ما رفع سقف التوقعات منه ليكون يد تركيا الضاربة التي يمكن أن تطول أعداءها أينما كانوا ولو بعد حين، وفق ما يرد في تصريحات الساسة الأتراك.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس