محمود عثمان - الأناضول

أضاف اتفاق سوتشي نجاحا سياسيا آخر إلى سجل العلاقات التركية الروسية التي شهدت في السنوات الأخيرة تطورا لافتا فاق جميع التوقعات.

ويعتبر اتفاق سوتشي بخصوص الأزمة السورية، الذي نجح في تجنيب إدلب كارثة إنسانية كبيرة، تتويجا للنمو المضطرد للعلاقات بين البلدين، وثمرة للثقة المتبادلة بين الرئيسين أردوغان وبوتين.

فقد تنفس الجميع الصعداء، وتوالت رسائل الترحيب والتأييد لهذا الاتفاق، ابتداء من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، وليس انتهاء عند دول الاتحاد الأوربي، حيث كان من المتوقع حدوث موجات نزوح بشري لا يمكن أن تقف في وجهها حدود الجغرافيا.

موجة النزوح هذه فيما لو حدثت، كانت كفيلة بالإطاحة بأكثر من حكومة أوربية، ولربما كانت ستضع الاتحاد الأوربي نفسه على كف عفريت.

ينص الاتفاق الروسي التركي الذي تم التوصل إليه في مدينة سوتشي الروسية على إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومترا على خطوط التماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة عند أطراف إدلب، وأجزاء من ريف حماة الشمالي، وريف حلب الغربي، وريف اللاذقية الشمالي.

وهنا لا بد من التذكير مرة أخرى بأن اتفاق سوتشي جاء بناء على رغبة وإلحاح من أنقرة، فيما كان بالنسبة إلى موسكو حالة شبه اضطرارية، حيث حرمها الفيتو الأمريكي والتركي من فرصة الحسم العسكري في إدلب، وإعلان النصر في عموم سورية.

** تصريحات وزير خارجية نظام الأسد

في لقائه مع قناة روسيا اليوم في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قال وزير خارجية نظام الأسد وليد المعلم: "من حق سوريا أن تستخدم كافة السبل لاستعادة إدلب سواء بالمصالحة أو غيرها.. اتفاق المنطقة العازلة في إدلب بدأ تنفيذه في سوريا، وما زلنا نفضل الحل سلميا... الحل في إدلب ممكن، وتركيا تعرف جيدا هوية المسلحين المتواجدين هناك".

تصريحات المعلم تدل دلالة واضحة بأنه ونظامه لا يعترفان باتفاق سوتشي ولا بمخرجاته. لأن اتفاق سوتشي كان بين طرفين، وليس أحاديا كما يوحي بذلك وليد المعلم. وكون الاتفاق بين طرفين يقتضي حكما أن ينفذ كل طرف بما تعهد به والتزم بتطبيقه. أي أن انسحاب قوات المعارضة الوطنية السورية يجب أن يوازيه ويزامنه انسحاب مماثل لقوات النظام والمليشيات الداعمة لها.

يدعي وليد المعلم أن الاتفاق بدأ تنفيذه، يقصد بذلك بدء انسحاب فصائل الجيش الحر من بعض المناطق المحددة، وسحب السلاح الثقيل منها. لكنه لا يرى نفسه ملزما بتنفيذ الانسحاب من طرفه. فيما ينص الاتفاق على قيام الطرفين بإخلاء تلك المنطقة، على أن تتولى الإشراف عليها وحدات من الجيش التركي، والشرطة العسكرية الروسية.

يرى وليد المعلم أن مدة تنفيذ اتفاق سوتشي لا تتعدى الشهرين، حيث سيكون بعدها عملية تحرير إدلب من الإرهابيين، ويرى أنه من حق الدولة، يقصد بها نظامه، استعادتها.

من الواضح أن المعلم يراهن على تمرد بعض عناصر تنظيم القاعدة الذين وظفهم نظامه أكثر من مرة، لكي يعطوه ذريعة التنصل من تنفيذ بنود اتفاق سوتشي.

ليس خافيا على أحد أن الإيرانيين ومعهم نظام الأسد، يراهنون على فشل تركيا في تفكيك جبهة النصرة، وإخراج عناصرها الأجانب من غير السوريين من إدلب. وبالتالي سوف تبقى ذريعة التدخل العسكري والحسم العسكري قائمة.

ما هو معلوم بالضرورة، أن عملية إخراج المقاتلين الأجانب من إدلب تحتاج نوايا صادقة من الدول المعنية أولا، ثم تعاون تلك الدول بتحملها المسؤولية في إيجاد مخرج لهؤلاء، لأن قضيتهم تمس أمن دول كثيرة بشكل مباشر.

إن إلقاء المسؤولية والحمل كاملا على تركيا، فضلا عن كونه غير أخلاقي، فإنه يقوض الاتفاقات والتفاهمات برمتها.

** انعكاسات حادثة إسقاط الطائرة الروسية على اتفاق سوتشي

القبول / الإجماع الدولي الذي حظي به اتفاق سوتشي ـ حتى إيران ونظام الأسد عبرا عن ترحيبهما بهذا الاتفاق ـ لا يعني أن جميع الأطراف سوف تقوم بما يلزم من أجل إنجاحه. فهناك دول وأطراف، رغم ترحيبها بالاتفاق قولا، فقد سعت إلى تعطيل تطبيقه أو / وتفريغه من مضمونه.

لا يمكن بحال فصل حادثة إسقاط الطائرة الروسية قبالة السواحل السورية عن اتفاق سوتشي. إذ حمل إسقاطها بهذا التوقيت تحديدا، وتزامنا مع الاتفاق تقريبا، رسائل متعددة، سواء باختيار الهدف نفسه، طائرة قيادة واستطلاع، فيها طاقم قيادة عسكري، وليس مجرد طائرة حربية، أو بالطريقة التي تمت بها إسقاط الطائرة.

كان المطلوب / المتوقع من بوتين، ردة فعل غاضبة تقلب الأمور رأسا على عقب. لكن ذلك لم يحدث، لأن خيارات موسكو محدودة إلى حد كبير.

** انعكاس التنافس الأمريكي الروسي في سورية على تطبيق اتفاق سوتشي

ذكرنا سابقا أن الفيتو الذي وضعه الأمريكيون ضد الحسم العسكري في إدلب، والجهود التركية لجهة نزع فتيل الحرب، آتت أكلها على شكل اتفاق سوتشي. لكن هذا الاتفاق وإن كان صناعة تركية روسية مشتركة، فإنه ساهم إلى حد كبير في إعادة الدفء للعلاقات التركية الأمريكية، ما أثار مخاوف موسكو من عودة التحالف الاستراتيجي بين أنقرة وواشنطن.

صحيح أن الرئيس أردوغان نجح إلى حد كبير في انتهاج سياسة التوازنات المبنية على القيم والمصالح بآن واحد، إلا أن حدة الصراع والتنافس تجعل تقاربه من أي طرف مدعاة لشكوك الطرف الآخر.

** موسكو وجها لوجه أمام امتحان المصداقية

لم يكن دخول تركيا على خط مسار أستانا بسبب تطابق الرؤى ووجهات النظر بين أنقرة وموسكو حول طريقة الحل في سورية، ولا لقناعة أنقرة بأن موسكو لديها مفاتيح الحل في سورية. لكن ذلك لم يمنع الطرفين من التنسيق والتعاون في الملفات العسكرية والسياسية على حد سواء. هذا التنسيق والتعاون نتج عنه نجاح كبير بحجم اتفاق سوتشي.

صحيح أن اتفاق سوتشي جاء ثمرة للعلاقات الشخصية الحميمة بين الرئيسين أردوغان وبوتين، والتواصل والتنسيق المستمر بين موسكو وأنقرة، إلا أن تطبيقه على الأرض ما زال يشكل الامتحان الأصعب لكلا الطرفين.

في الفترات السابقة، عودنا الطرف الروسي ومن خلفه نظام الأسد والإيرانيون، على الالتفاف على غالبية ما تم التوصل إليه من تفاهمات واتفاقات في اجتماعات أستانا. تارة من خلال اختلاق تفسيرات مختلفة ومخالفة، عن طريق تحميل النصوص ما لا يمكنها أن تحتمله، وتارة أخرى من خلال إغراق الأطراف بالتفاصيل التي تنسيهم الأصل. كل ذلك من أجل التملص من الوفاء باستحقاقات تلك الاتفاقات.

حتى هذه اللحظة، لا يمكن القول بأن الطرف الروسي أدى دوره ووفى بالتزاماته... خير دليل على ذلك تصريحات وليد المعلم، التي أعلنت المعلوم، وفضحت عدم التزام نظام الأسد ببنود اتفاق سوتشي.

مسؤولية عدم قبول نظام الأسد بمخرجات اتفاق سوتشي، ومحاولاته التملص من تطبيقها، تقع على عاتق الروس بشكل كامل. إذ يجب عليهم القيام بدورهم كضامن لهذا الاتفاق الذي تبناه مجلس الأمن والأمم المتحدة، بإلزام نظام الأسد بتطبيق مخرجات اتفاق سوتشي، وخصوصا فيما يتعلق بالشق العسكري، بالانسحاب من المناطق المتفق عليها... وإلا... فإن ظلال الشك سوف تلاحق جدية موسكو، ومصداقية الرئيس فلاديمير بوتين تحديدا.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس