محمد شيخ ابراهيم - خاص ترك برس

بعد فشل كل أنواع الحروب السياسية والعسكرية والاقتصادية المعلنة وغير المعلنة على تركيا سعت بعض الدول لدفع تركيا لمدِّ يدها للاقتراض من صندوق النقد الدولي بزعم أن تركيا تتعرض لأزمة مالية واقتصادية، ولكن لماذا صندوق النقد الدولي بالذات!؟

لقد أصبح واضحاً للعيان أن ما تعرضت له الليرة التركية في الآونة الأخيرة من انخفاض وتذبذب في سعر الصرف تفوح منه رائحة مؤامرة سياسية خارجية كبرى يمكن تسميتها بالحرب الاقتصادية المفتوحة على تركيا، وقد ترافق ذلك مع تجييش إعلامي كبير وتعبئة دعائية كاذبة تتبناها وتشرف عليها جهات خارجية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الإقليمية التي أصبحت بمثابة الجهة المنفذة لأجندة خارجية مشبوهة ولو كان ذلك على حساب شعوبها ومصالحها الوطنية أو شعوب ومصالح دول الإقليم.

رغم كل محاولات النيل من الاقتصاد التركي من خلال التأثير السلبي على سعر صرف الليرة التركية إلا أن قوة الاقتصاد التركي وتماسكه وتنوعه جعلته منيعاً ضد جميع المؤامرات، ولو تعرضت أي دولة أخرى مهما كان حجمها وقوتها لما تعرضت له تركيا من هجمة شرسة لكان مصير هذه الدولة الإفلاس والانهيار على كافة الأصعدة، إلا أن القدرة العالية للحكومة التركية على إدارة الأزمة المفتعلة وقوة الاقتصاد التركي الذي ما زال يشهد نهضة تنموية كبيرة بدأت منذ بدايات العام 2002 وما زال يحافظ على هذه الوتيرة التصاعدية وبشكل مطّرد حتى الآن رغم كل الدعايات المغرضة مما مكن تركيا من الصمود والتصدي لهذه المؤامرة الكبيرة، والمحافظة على استقلالية قرارها السياسي الذي لم ولن يروق للكثيرين على المستوى الإقليمي أو على المستوى الدولي.

إن القوة الاقتصادية لتركيا ودخولها نادي الدول العشرين الأكثر غنى في العالم، عزز قوتها ومكانتها السياسية وانعكس ذلك على استقلاليتها باتخاذ مواقف وقرارات سياسية واستراتيجية مهمة وأخص بالذكر قضايا جد حساسة كالقضية الفلسطينية ومحاولة تصفيتها بشكل نهائي من خلال ما سمي بصفقة القرن التي تشترك بها بعض الأطراف العربية كالإمارات والسعودية ومصر مما قد أثار حفيظة المتربصين بتركيا الدولة والشعب.

وقد تصدت تركيا لمشروع صفقة القرن بكل قوة وضراوة مستقلة جميع إمكانياتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية حيث تفيد مراكز الدراسات الإسرائيلية والأمريكية أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تقوِّض المشاريع والأطماع الإسرائيلية وربما الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط مما أغضب كلا من إسرائيل وأمريكا وحلفاءهم الغربيين من جهة، والأنظمة العربية المتورِّطة بمشروع صفقة القرن من جهة أخرى، ونتيجة لصلابة الموقف التركي ودفاعه المستميت عن القضية الفلسطينية أُجْبِرَ البعض من هذه الأنظمة على مراجعة مواقفها اتجاه القضية الفلسطينية بشكل عام وصفقة القرن بشكل خاص.

إن المواقف التركية المستقلة والمستمدة من مسؤولياتها الوطنية والدينية الإقليمية منها والدولية اتجاه القضية الفلسطينية، والموقف التركي الحازم من قضايا ملحة أخرى كالقضية السورية، وموقفها من محاصرة قطر أثارحفيظة بعض الدول واتخاذها موقف عدائي معلن وغير معلن يستهدف تركيا الدولة والشعب بشن هذه الحرب الاقتصادية المفظوحة والتهويل الإعلامي الهائل لبث دعاية أن الاقتصاد التركي منهار ويعاني من أزمات مالية ثم الدفع بتركيا لمد يدها للاستدانة من صندوق النقد الدولي والذي تخلصت تركيا من ديونه سنة 2013 تلك الديون التي كانت قد اقترضتها من البنك سنة 2002 خلال أزمتها الاقتصادية التي مرت بها آنذاك، حيث تبنت حكومة العدالة والتنمية حينها برنامجا متكاملا للإصلاح الاقتصادي، يتناسب مع الظروف الخاصة لتركيا وطبيعتها مما ساعد تركيا في تسديد كافة ديونها من الصندوق النقد الدولي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يريدون لتركيا الاستدانة من هذه المؤسسة المالية الدولية؟ وبدورنا نسأل لماذا يجب على تركيا أن لا تفعل مثلها مثل أي دولة تمر بأزمة اقتصادية وتستعين بالصندوق؟

في الحقيقة رغم أن صندوق النقد الدولي مؤسسة مالية أو نقدية دولية إلا أن له أجندة قد تخدم بشكل أو بآخر توجهات الدول الممولة له لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر مساهم في تمويل الصندوق، إذ أن جميع قروض صندوق النقد الدولي للدول تكون مشروطة باتباع سياسات مالية واجتماعية وربما سياسية محددة، كما أن القروض تصرف على فترات قد تقصر لتصل إلى ستة شهور أو تطول لتصل إلى أربع سنوات، وتتراوح فترة السداد بين 3 إلى 5 سنوات وغالبا مايكون السداد بالدولار الأمريكي كوحدة نقدية معتمدة لسداد ديون ومستحقات الصندوق، وفي هذا الصدد سبق للصندوق أن فرض على الحكومة التركية في قرض 2002 على تطبیق نظام سعر صرف الليرة ليكون مرتبط بالدولار وهو الذي تسعى تركيا إلى التخلص منه بشكل تدريجي ليكون الذهب محدداً لسعر صرف الليرة التركية بدلا من الدولار.

كما أن تجارب الدول والممارسة العملية أثبتت في غالب الأحيان أن قروض صندوق النقد الدولي يصعب إيفاؤها مما دفع بكثير من الدول لإعلان إفلاسها وعدم قدرتها على الوفاء بديونها، وقد بلغ عدد الدول العاجزة والمفلسة قرابة 28 دولة حول العالم منها اليونان التي بلغت نسبة دیونها للناتج المحلي نحو 175% خلال عام 2015 وذلك نتيجة تراكم الديون وفوائدها العالية مما أدى لإغراق اقتصاديات اليونان وتلك الدول بالديون ثم الاستسلام لفرض شروط جدیدة أكثر تشددا وتقشفا من جانب الصندوق مما يرسم صورة سلبية لدى الدول الأخرى والمستثمرين الأجانب والمحليين للإحجام عن الاستثمار فيها، وهو أحد الأهداف المباشرة لمن يريد دفع تركيا للاستدانة من صندوق النقد الدولي وذلك لضرب عصب الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية الهائلة المتدفقة للعمل والاستثمار في تركيا مما قد يؤثر بشكل سلبي على الدور الاستراتيجي والمواقف السياسية التركية اتجاه الكثير من القضايا العادلة.

كما أن صندوق النقد الدولي يفرض على الدول المدينة له بإعطاء أولوية لسداد قروضه كديون ممتازة، فيتدخل في كل أنشطة الدولة كالبنوك المركزية، وسياساتها النقدية، وسياساتها في أسعار الصرف، وحتى في سياساتها الإحصائية والضريبية، ويجبر هذه الدول على اتخاذ مجموعة من إجراءات الخصخصة والتقشف، ليتسنى لها تحقيق فائض الإيرادات عن النفقات مخصوما منها الفوائد المستحقة على الديون.

ومن الجدير بالذكر أن النهضة الاقتصادية التركية وزيادة مستوى دخل الفرد وطموحات الحكومة التركية الكبيرة في رفع مستوى دخل الفرد التركي ليوازي دخل الفرد في الدول الصناعية المتقدمة سيتأثر سلبا أيضا بفرض سياسات تقشفية مريعة قد يفرضها صندوق النقد الدولي على الحكومة التركية - بغض النظر عن التنمية واحترام حقوق الإنسان – مما قد يؤدي لتقلص أسواق العمل، وزيادة نسبة البطالة واتساع دائرة الفقر، وانكفاء الدولة وتخليها عن مسؤولياتها اتجاه المواطن وتراجعها عن تقديم دعم السلع الأساسية والدعم الصحي للمواطن حيث إن لتركيا باعا طويلة في تقديم مستوى صحي عالي ومجاني لكل المواطنين والمقيمين بما في ذلك ملايين اللاجئين حيث تم تدشين مستشفى "بيلكنت" الجديد في أنقرة الذي يعتبر الأكبرعلى المستوى الأوروبي على أقل تقدير.

إن القروض غالبا ما تدمر الاقتصاد الوطني لأي دولة وإن معظم الدول التي تمد يدها للاستدانة من صندوق النقد الدولي لا يمكنها إعادة اقتصادها إلى الحالة التي كان عليها من قبل، وسوف يؤدي إلى عجز الدولة عن تحقيق أي نهضة اقتصادية أو تنموية لمواطنيها مما قد يتسبب لارتفاع نسبة البطالة وتآكل الطبقة الوسطى وتحويلها لطبقة فقيرة، وخلق حالة من تردَّي الحالة الصحية والغذائية، وتردي جودة التعليم وانعدام البحث العلمي في الدولة، وتتقوقع الدولة على نفسها لتركز على تلافي الخلل الاقتصادي وما قد يتفاقم عنه من معضلات اجتماعية معقدة، وسيكون هم الدولة الأول والأخير هو تسديد الديون والفوائد المستحقة على تلك الديون، مما يسبب إجبار الدولة على التراجع عن تنفيذ الكثير من مشاريعها التنموية والخدمية لمواطنيها وقد يطلب منها تقديم الكثير من التنازلات في بعض قضاياها الاستراتيجية الوطنية والعابرة للحدود ومصادرة قرار السياسي المستقل وهو المراد من تركيا تحقيقه.

خلاصة القول إن تركيا لن تتراجع قيد أنملة عما حققته من إنجازات داخلية وخارجية كبيرة مهما تربص بها المتربصون وكاد لها الكائدون، فتركيا أصبحت أمل الأمة وصمام أمانها في كل قضاياها المصيرية، وما يبعث إلى التفاؤل ويبشر بمستقل مشرق أن تركيا حقيقة لا تمر بأوضاع مالية واقتصادية سيئة، ولا تعاني من انخفاض في معدلات النمو ولا في انخفاض الاحتياطي الأجنبي، بالإضافة إلى الآداء العالي للقطاعات الاقتصادية كافة وزيادة كبيرة في الاستثمارات الوافدة إلى تركيا.

عن الكاتب

محمد شيخ ابراهيم

كاتب في مجال البحث السياسي في منطقة الشرق الأوسط واوربا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس