إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

فيما يطلق عليه عصر المعلومات الذي نعيش فيه، فقدنا معنى أهم وجوه النشاط الإنساني، ألا وهو التفكير، حيث إننا نخلط المعلومات بالمعرفة ونظن على نحو مضلل أن التفكير هو معالجة المعلومات.

إن التفكير ليس جمع المعلومات، أو تحليل البيانات، وليس مجرد ربط الأشياء بالمفاهيم، أو عقد روابط منطقية بين المفاهيم، لكنه ينطوي على أكثر من عملية عقلية.

التفكير هو بحث دائم للإجابة عن السؤال النهائي عن سبب وجود شيء وليس عدم وجود شيء. وحيث إن لا شيء خارج عن الوجود، ولا يوجد شيء خارج السلسلة العظيمة للوجود، فإن التفكير كله تمرين في الوجود وطرائقه اللانهائية. وسواء كنا نجري تجربة علمية أو نكتب قصيدة جميلة عن نسيم الصباح أو نحلل المدن الحديثة، فإننا نتعامل مع مختلف مظاهر الوجود وتجلياته.

يجب أن يرتكز كل تفكير على الوجود؛ وإلا فلن نتمكن أبدا من التغلب على فخ الأنوية. ومن هذا المنطلق فإن التفكير لا يتكون من العمل الداخلي في الذهن. ولا تبرز الثنائية الديكارتية للعقل والعالم عندما يكون التفكير متجذرًا في الوجود. ولذلك رفض الفلاسفة الكلاسيكيون الذاتية والتشكيك الفلسفي على هذا الأساس.

ليس الوجود مفهوما مجردا، لكنه الواقع الأكثر تجسيدا والأكثر شمولا. قد نصور الوجود بوصفه فكرة أو مفهوما في أذهاننا،  لكن واقع الوجود دائمًا أكثر من أشكاله الذهنية، فهو مثل الفرق بين المشهد وصورته. ذلك أننا عندما نلتقط صورة، فإننا نثبت تلك اللحظة، ونخرجها من حالة التدفق الطبيعي وننظر إليها كلحظة مجمدة. وفي هذه الحالة فإن ما ننظر إليه ليس أمرا غير واقعي، لأن الصورة ليست شيئًا وهميًا، لكنها ليست الحقيقة نفسها بل هي صورة لها. ومثلما يحدث في كل الأفكار التجريدية يفصل المشهد الموجود في الصورة عن الوجود المتدفق الذي توجد فيه. ولا يمكننا أن نعامل هذه اللحظة المجمدة على أنها حقيقة في حد ذاتها؛ لأن الواقع لا يتوقف عن التدفق أبدًا.

التفكير هو تمرين في الوجود؛ لأن كل حكم عقلي أو اتصال منطقي نقوم به يرتبط بالوجود. وقد تم التأكيد على هذه النقطة الأساسية بالتفرقة بين الوجود والموجود، ذلك أن الأشياء الموجودة مثل الشجرة أو السماء أو المنزل الموجود في أول الشارع، لكل منها خصائصه الفريدة، وهي تتختلف عن بعضها بعضا، وكل منها موجود  بطريقته الخاصة، لكنها تشترك في شيء واحد: فعل الوجود، أو بالصيغة الفلسفية الكلاسيكية لصدر الدين الشيرازي "فهي جميعا تشترك في الوجود". وليس الأمر هو أن الأشياء الموجودة تشكل ما نسميه الوجود، ولكن على العكس فإن الوجود هو ما ينتج كائنات خاصة موجودة بطرقها الفريدة. إنه وجود يتدفق عبر كل ما نراه ونختبره على أنه العالم: الجبال والحيوانات والبشر والرياح والأمطار والمدن وكل الأشياء التي نخلقها نحن البشر بأيدينا. يظهر الوجود في طرائق لا تعد ولا تحصى وبألوان لا نهائية، وهو أكثر من جميع الموجودات.

ومثلما تشترك الأشياء (المواد) في الوجود، نشارك نحن البشر أيضًا في الوجود. هذه المشاركة تقيم علاقة خاصة بيننا وبين الوجود؛ لأننا نتفكر في معنى هذه العلاقة الخاصة.

عندما نفكر في شيء ما أو لحظة أو وضع أو علاقة، فإننا نفكر في الوجود ومظاهره التي لا حصر لها. ولا يعني هذا أن عالم الوجود هو كائن سلبي لا معنى له نمنحه نحن المعاني، بل على العكس، فإن الأشياء مفعمة بالمعنى وبالغرض والنسبة والأهمية المستقلة عن البشر. وقد جعل المنعطف الموضوعي في الفلسفة الغربية العالمَ موضوعا خاليا من المعنى، وجعل البشر موضوعًا أقل عالمية، وما زلنا محاصرين في هذه المتاهة. ذلك أننا نظن أن الكون ليس له معنى بدوننا، ونؤكد بكل جهل وغرور أحمق أن الوجود ليس له غرض آخر إلا خدمتنا. لكن الحقيقة على عكس ذلك تماما، فالعالم له معنى سواء فهمناه أم لم نفهمه، ونحن مجرد جزء من واقع أكبر منا.

يعرّف الفلاسفة المسلمون الفلسفة بأنها القدرة على "إدراك حقيقة الأشياء كما هي، إلى أقصى حد ممكن لبني البشر". ويكشف هذا التعريف الكثير عن حقيقة الوجود وعلاقتنا به، فالأشياء لها واقعها الخاص بها المستقل عنا، ويمكننا محاولة فهمه بأفضل ما لدينا من قدراتنا. نحن لا نملك العالم، ولا يمكننا معاملة الوجود على أنه عبد، ولا يمكننا سوى حمايته وتغذيته لتحقيق إمكاناتنا الخاصة. لا يمكن أن تكون علاقتنا بعالم الوجود علاقة الهيمنة والاستغلال.

يستلزم التفكير تطوير القدرات الفكرية والمنطقية والعاطفية لفهم الواقع المعقد والديناميكي الذي نسميه الوجود. إن تقليص عالم الوجود بحيث يقتصر على البنية العقلية للبشر هوأفدح الأخطاء الفلسفية التي يمكن أن نرتكبها. ومن خلال تطبيق رؤى إدراكية مختلفة لواقع الوجود المتعدد الطبقات، يمكننا فقط أن نبدأ في فهم حقيقته وفهم الحقيقة الخاصة بنا. وهذا يعني تجاوز المعرفة والتفكير العقل الحسابي والتحليل الاستطرادي.

علينا أن نستخدم عقولنا وقلوبنا أيضا من أجل فهم صحيح للعالم. إن الفلسفة والمنطق مهمان، ولكن الفن والشعر والدين مهمة أيضا. ولا يكون التفكير هادفا إلا إذا كان يؤدي إلى الحكمة ويظهر الطرق التي يكشف بها الوجود عن نفسه. ولن يكون التفكير مثريا لنا إلا عندما ندرك أننا لسنا سادة العالم بل يمكن أن نكون حماته وحراسه.

عن الكاتب

إبراهيم كالن

الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس