د. سمير صالحة - العربي الجديد

قرّرت الولايات المتحدة الأميركية رصد ملايين الدولارات مكافأة مالية لمن يرشد إلى أماكن وجود قياداتٍ في حزب العمال الكردستاني في العلن، وهي تحاول التودّد لأنقرة بعد انطلاق عملية المصالحة وتخفيف التوتر بين البلدين، وتسعى إلى أن تكون شريكا داعما في أية عملية عسكرية جديدة تنفذها تركيا ضد مجموعات الحزب. والظاهر أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ستتخلص من خلال تحرّك بهذا الاتجاه من الضغوط والانتقادات الداخلية التي تتعرّض لها بشأن تعريض مصالح الشريك التركي للخطر، وتهديد العلاقات بين البلدين. 

ورسائل التوقيت الأميركي هنا مهمة أيضا، ففي اللحظة التي تحرّكت فيها القوات الأميركية والتركية لبدء الدوريات المشتركة في مدينة منبج السورية، تبيّن أن وحداتٍ أميركية ومجموعاتٍ تابعةٍ لوحدات حماية الشعب (الكردية) كانت تجول معا في مناطق في شرق الفرات وعين عرب (كوباني). وتسلمت أنقرة حتما هذه الرسائل الأميركية، فالرد التركي السريع كان مختصرا، أنه لو كانت واشنطن راغبة حقا في العثور على قيادات حزب العمال لكانت فعلت ذلك بسهولة، ومن دون تخصيص أية جوائز، كان يكفي أن تسأل حليفها الكردي في سورية عن أماكنهم. وهذا يعني أن الأتراك لن يستسلموا للجزرة الأميركية هذه المرة، خصوصا أن المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، يقول إن بلاده لن تتخلى عن علاقاتها بوحدات الحماية الكردية التي بنت على أكتافها سياستها السورية في العامين الأخيرين. بين أهداف مناورة واشنطن هذه أيضا الخروج من الحصار التركي المضروب حولها في موضوع "تدعمون تنظيما إرهابيا يقاتل تركيا"، عبر الفصل بين حزب العمال الكردستاني الذي ترى فيه واشنطن تنظيما إرهابيا وإبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الشريك والحليف لحزب العمال في الفكر والسياسة والممارسة عن هذا التحالف، ودمج كل المسميات التي ابتكرها البنتاغون (وزارة الدفاع) أخيرا لهذه المجموعات، تحت مسمى جديد في إطار إطلاق مشروع حزبي سياسي كردي، يحتل موقع الصدارة في سورية. 

يبدو أن واشنطن وصلت، بعد قمتي إسطنبول ولندن أخيرا، إلى قناعةٍ بأن الطبخة السورية قد استوت، ولا يمكن لها التهرّب من عروض روسية تركية باتجاه الإعلان عن خطة وقف إطلاق نار شامل في سورية مطلع العام المقبل، تمهد لتسريع لقاءات التسوية في البلاد. ولذلك عبر خطوة من هذا النوع باتجاه أنقرة، تريد واشنطن إعطاء الضوء الأخضر أنها جاهزة لإعادة تنظيم بنية (وأهداف) وحدات الحماية التي تنسق معها، إذا ما أبدت الأطراف المحلية والإقليمية استعدادا لتعديل مواقفها هي الأخرى، باتجاه الجلوس والحوار مع هذه القوى، وتغيير نظرتها إليها. المعني الأول والأخير طبعا هنا هو أنقرة المتشدّدة في رفض أي حوار مع تنظيمٍ ترى أنه امتداد لتنظيمٍ إرهابيٍّ، يستهدف أمنها وحدودها. 

تريد واشنطن من أنقرة أن تقبل الحوار مع تشكيل سياسي كردي جديد، بيافطاتٍ وعناوين سياسية دستورية، غير ما قيل حتى الآن، فهل يمكن أن تقبل أنقرة، بعد الآن، بما رفضته سنوات منح حزب الاتحاد الديمقراطي المشروعية المطلوبة بغطاء وضمانات أميركية؟ لا طبعا، فواشنطن تبحث كالعادة عن اصطياد أكثر من عصفور من خلال تحرّكٍ في هذا الاتجاه، من قبيل تعزيز العلاقات المتدهورة مع تركيا، والتي شهدت بعض التحسّن إثر إطلاق سراح القس الأميركي، أندرو برونسون، وإقناع أنقرة بالتخلي عن خطط عملياتها العسكرية في شرق الفرات، وإعطائها بعض ما تريد من دون الدخول في مغامرة عسكرية معقدة. 

المشكلة أن أنقرة التي لدغها الثعبان الأميركي مرتين، ودفعها إلى القيام بعمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" تعلمت الدرس، وهي تريد أكثر من ضمانةٍ أن مشروع واشنطن الحقيقي ليس تشكيل قوات عسكرية كردية، تتحول إلى جيش نظامي صغير، يوفر الحماية اللازمة لمشروع الكونفدرالية السورية لاحقا، فهل تقدّم واشنطن لأنقرة هذه الضمانات؟ وهل ستثق أنقرة بها؟ هنا قد تدخل موسكو على الخط وسيطا وضامنا لهذه التفاهمات التي تحمي مصالح النظام في دمشق أيضا. وتريد أنقرة أيضا أن تسمع رأي واشنطن في حصة الأكراد السوريين الذين ينسقون مع قوى المعارضة السورية، وكيف سترسم خرائط المشاركة السياسية، وإخراج البندقية الأميركية المقدمة للحليف الكردي هناك، بهدف محاربة "داعش"، من معادلة الهيمنة على القرار الكردي في شمال سورية وشرقها. 

وقد تعرّضت العلاقات التركية الأميركية، أخيرا، إلى أكثر من امتحان في قضايا الولاء والوفاء لمتطلبات الشراكة والالتزام بتعهدات التحالف. قررت أنقرة، في الأشهر الأخيرة، أن ما ينبغي مواجهته في سورية ليس "داعش" وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي فقط، بل السياسة الأميركية التي تصرّ على الوصول إلى ما تريده في سورية. ويبرز في المقابل سؤال: هل من المعقول أن تسمح واشنطن بعملية عسكرية تركية في شرق الفرات، مركز ثقلها العسكري والسياسي ومناطق نفوذ حليفها الكردي، وكل المؤشرات والتطورات المتلاحقة على الأرض سياسيا وعسكريا تؤكد تقدم مشروع استعداد واشنطن للكشف عن مفاجأة الموسم الكردية في شمال سورية؟ 

يصف إبراهيم كالين، المستشار الأول للرئيس التركي، الخطوة الأميركية بالمتأخرة جدا، ويقول إن بلاده ستعرف قريبا لماذا فعلت واشنطن ذلك. يردّد الأتراك أنهم بين العامين، 2009 و2015، قدموا للإدارة الأميركية لوائح بأسماء عشرات من كبار قيادات "العمال الكردستاني" الذين ينسقون مباشرة مع الوحدات الكردية في سورية، وأنها رفضت الشق المتعلق بعملية التنسيق، وتجاهلت الشق الثاني، حيث تريد الآن أن تنهي العلاقة بينهما عبر إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني. ومرة أخرى، يتقدم احتمال استعداد واشنطن للكشف عما تحت الغطاء. يذكّر الأتراك واشنطن بأنه، عندما غيرت جبهة النصرة اسمها إلى "فتح الشام"، قال الناطق باسم الرئاسة الأميركية إن اللعبة لن تنطلي علينا. أما اليوم، فيقول قائد القوات الخاصة الأميركية، ريموند توماس: قلنا لهم عليكم تبديل اسمكم، فاختاروا تسمية ذكية، "قوات سورية الديمقراطية"، للقطع مع حزب العمال الكردستاني. 

تدعم واشنطن، مرة أخرى، إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها في مقابل موقف تركي مرن، منفتح على قبول "وحدات" حزب الاتحاد الديمقراطي بلابس سياسي حزبي جديد أكثر اعتدالا، وبعيدا عن الشعارات الماركسية الشوفينية. وعندما تقول واشنطن إنها لن تغادر سورية، قبل القضاء على التنظيمات الإرهابية، وإنهاء النفوذ الإيراني هناك، فهذا يعني أنها لن تغادر أبدا. وهي من هذا المنطلق أقامت حتى الآن 22 قاعدة عسكرية في شمال البلاد وشرقها، وثلاثة مدرجات لاستقبال الطائرات العسكرية. لو كان ترامب عضوا في جمعية محبي تركيا لما أرسل عشرات الأطنان من السلاح إلى "قسد" تحت غطاء محاربة "داعش"، على الرغم من كل تحذيرات أنقرة واعتذاراتها، وعندما تكون بعض هذه القواعد على مقربةٍ من الحدود التركية السورية، حيث لم يعد هناك أي وجود لـ "داعش"، فالهدف هو حماية حلفائها المحليين الأكراد من أي هجوم عسكري تركي كاسح، كما حدث في عفرين. 

لا تعبأ واشنطن بمسار الثورة في سورية ومستقبلها، يهمها أكثر فرض معادلات سياسية كلاسيكية قديمة في المواثيق الأميركية أن نسبة 6% من الشعب، كما هو الحال في سورية مثلا، في مقدورها السيطرة على 25% من الأراضي، ومقدرات الشعب السوري الحيوية. وقد تعطي أميركا لنفسها الحق قريبا بمطالبة أنقرة، بعدما أخرجتها من لائحة الدول المطالبة بتطبيق قرارات العقوبات على إيران، أن يكون الثمن المقابل ليونة وتغييرا في الموقف التركي حيال مشروعها الجديد. 

تعد أميركا لحالة كردية جديدة في سورية، تريد أن تفرضها على اللابين المحليين والإقليميين، فهل يقبل النظام وإيران وروسيا بذلك، قبل أن نأخذ رأي أنقرة؟ وهنا مقاطع أنشودة بعد تعديل تركي طفيف: 

زرعنا جزرة في وسط البستان/ سقتها أميركا فعاشت بأمان 
كبرت الجزرة فتحولت إلى ثعبان/ فرخ الثعبان فحرمنا البستان

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس