د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

هو محمَّد بن حمزة الدِّمشقي الرُّومي، ارتحل مع والده إِلى الرُّوم، وطلب فنون العلوم، وتبحَّر فيها، وأصبح علماً من أعلام الحضارة الإِسلاميَّة في عهدها العثمانيِّ.

وهو معلِّمُ الفاتح، ومربِّيه، يتَّصل نسبه بالخليفة الرَّاشد أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان مولده في دمشق عام (792هـ/1389م) حفظ القرآن الكريم وهو في السَّابعة من عمره، ودرس في أماسيا، ثمَّ في حلب، ثمَّ في أنقرة، وتوفي عام 1459م.

درَّس الشَّيخ آق شمس الدِّين الأمير محمَّد الفاتح العلوم الأساسيَّة في ذلك الزَّمن، وهي: القرآن الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة، والفقه، والعلوم الإِسلاميَّة، واللُّغات (العربيَّة، والفارسيَّة، والتُّركيَّة) وكذلك في مجال العلوم العلميَّة من الرِّياضيَّات، والفلك، والتَّاريخ، والحرب. وكان الشيخ آق ضمن العلماء الَّذين أشرفوا على السُّلطان محمَّد عندما تولَّى إِمارة مغنيسيا ليتدرَّب على إِدارة الولاية، وأصول الحكم.

واستطاع الشيخ آق شمس الدِّين أن يقنع الأمير الصَّغير بأنَّه المقصود بالحديث النَّبويِّ: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش!».

وعندما أصبح الأمير محمَّد سلطاناً على الدَّولة العثمانية، وكان شاباً صغير السِّنِّ وجَّهه شيخه فوراً إِلى التَّحرُّك بجيوشه لتحقيق الحديث النَّبويِّ، فحاصر العثمانيُّون القسطنطينيَّة برَّاً، وبحراً. ودارت الحرب العنيفة (54) يوماً.

وعندما حقق البيزنطيُّون انتصاراً مؤقَّتاً، وابتهج الشَّعب البيزنطيُّ بدخول أربع سفن أرسلها البابا إِليهم، وارتفعت روحهم المعنويَّة؛ اجتمع الأمراء، والوزراء العثمانيُّون، وقابلوا السُّلطان محمد الفاتح، وقالوا له: «إِنَّك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر إِلى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ ـ يقصدون آق شمس الدِّين ـ فهلكت الجنود، وفسد كثيرٌ من العتاد، ثم زاد الأمر على هذا بأن أتى عونٌ من بلاد الإفرنج للكافرين داخل القلعة، ولم يعد هناك أملٌ في هذا الفتح». فأرسل السُّلطان محمَّد وزيره ولي الدِّين أحمد باشا إِلى الشَّيخ آق شمس الدِّين في خيمته يسأله الحلَّ، فأجاب الشَّيخ: (لا بدَّ من أن يمنَّ الله بالفتح).

ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب، فأرسل وزيره مرَّةً أخرى ليطلب من الشَّيخ أن يوضِّح له أكثر، فكتب هذه الرِّسالة إِلى تلميذه محمَّد الفاتح، يقول فيها: (هو المعزُّ النَّاصر... إِنَّ حادث تلك السُّفن قد أحدث في القلوب التَّكسير، والملامة، وأحدث في الكفار الفرح والشَّماتة، إِنَّ القضيَّة الثَّابتة هي: إِنَّ العبد يدبِّر، والله يقدِّر، والحكم لله.. ولقد لجأنا إِلى الله، وتلونا القرآن الكريم، وما هي إِلا سِنَةٌ من النَّوم بعد إِلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى، فظهرت من البشارات ما لم يحدث مثلها من قبلُ).

أحدث هذا الخطاب راحةً وطمأنينةً في الأمراء، والجنود، وعلى الفور قرَّر مجلس الحرب العثمانيُّ الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينيَّة، ثمَّ توجَّه السُّلطان محمَّد إِلى خيمة الشَّيخ شمس الدِّين، فقبَّل يده، وقال: علِّمني يا سيدي دعاءً أدعو الله به؛ ليوفِّقني! فعلّمه الشَّيخ دعاءً، وخرج السُّلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العَّام.

أراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم، فأرسل إِليه يستدعيه، لكنَّ الشيخ كان قد طلب ألا َّيدخل عليه أحدٌ الخيمة، ومنع حرَّاسُ الخيمة رسولَ السُّلطان من الدُّخول، وغضب محمَّد الفاتح، وذهب بنفسه إِلى خيمة الشَّيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السُّلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشَّيخ، فأخذ الفاتح خنجره، وشقَّ جدار الخيمة في جانبٍ من جوانبها، ونظر إِلى الدَّاخل، فإِذا شيخه ساجد لله في سجدة طويلةٍ، وعمامته متدحرجةٌ من على رأسه، وشعر رأسه الأبيض يتدلَّى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنُّور، ثمَّ رأى السُّلطان شيخه يقوم من سجدته، والدُّموع تنحدر على خدَّيه، فقد كان يناجي ربَّه، ويدعوه بإِنزال النَّصر، ويسأله الفتح القريب.

وعاد السُّلطان محمَّد الفاتح عقب ذلك إِلى مقرِّ قيادته، ونظر إِلى الأسوار المحاصرة، فإِذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغراتٍ بالسُّور تدفَّق منها الجنود إِلى القسطنطينيَّة.

ففرح السُّلطان بذلك، وقال: ليس فرحي لفتح المدينة؛ إِنَّما فرحي بوجود مثل هذا الرَّجل في زمني.

وقد ذكر الشَّوكاني في «البدر الطَّالع»: أنَّ الشَّيخ شمس الدِّين ظهرت بركته، وظهر فضله، وأنَّه حدَّد للسُّلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينيَّة على يديه.

وعندما تدفَّقت الجيوش العثمانيَّة إِلى المدينة بقوَّةٍ، وحماسٍ؛ تقدَّم الشَّيخ إِلى السُّلطان الفاتح ليذكِّره بشريعة الله في الحرب، وبحقوق الأمَّة المفتوحة، كما هي في الشَّريعة الإِسلاميَّة.

وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا، والعطايا، وعمل لهم مأدبةً حافلةً استمرت ثلاثة أيَّامٍ، أقيمت خلالها الزِّينات، والمهرجانات، وكان السُّلطان يقوم بخدمة جنوده بنفسه متمثِّلاً بالقول السَّائد: (سيِّد القوم خادمهم). ثمَّ نهض ذلك الشَّيخ العالم الورع آق شمس الدِّين، وخطبهم، فقال: يا جنود الإِسلام! اعلموا، واذكروا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنكم: «لتفتحنَّ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش!».

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا ويغفر لنا! ألا لا تسرفوا فيما أصبتم من أموال الغنيمة، ولا تبذِّروا، وأنفقوها في البرِّ، والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم، وأطيعوه، وأحبُّوه. ثمَّ التفت إِلى الفاتح، وقال: يا سلطاني! لقد أصبحت قرَّة عين آل عثمان، فكن على الدَّوام مجاهداً في سبيل الله، ثمَّ صاح مكبراً بالله في صوتٍ جهوريٍّ جليدٍ.

وقد اهتدى الشَّيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية إِلى قبر الصَّحابيِّ الجليل أبي أيوب الأنصاريِّ بموضع قريب من سور القسطنطينيَّة.

وكان الشيخ آق شمس الدِّين أوَّل من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا.

• الشَّيخ شمس الدِّين يخشى على السُّلطان الغرور:

كان السُّلطان محمَّد الفاتح يحبُّ شيخه شمس الدِّين حبَّاً عظيماً، وكانت له مكانةٌ كبيرةٌ في نفسه، وقد بيَّن السُّلطان لمن حوله ـ بعد الفتح ـ: «إِنَّكم ترونني فرحاً، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة، إِنَّ فرحي يتمثَّل في وجود شيخٍ عزيز الجانب في عهدي، هو مؤدِّبي الشَّيخ آق شمس الدِّين».

وعبَّر السُّلطان عن تهيُّبه لشيخه في حديثٍ له مع وزيره محمود باشا. قال السُّلطان الفاتح: «إِنَّ احترامي للشيخ آق شمس الدِّين احترامٌ غير اختياريٍّ، إِنَّني أشعر؛ وأنا بجانبه بالانفعال والرَّهبة».

ذكر صاحب البدر الطَّالع: أنَّه «... ثمَّ بعد يومٍ جاء السُّلطان إِلى خيمة صاحب التَّرجمة ـ أي «آق شمس الدِّين» ـ وهو مضطجعٌ، فلم يقم له، فقبَّل السُّلطان يده، وقال له: جئتك لحاجةٍ. قال: وما هي؟ قال: أن أدخل الخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السُّلطان مراراً، وهو يقول: لا! فغضب السُّلطان، وقال: إِنَّه يأتي إِليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمةٍ واحدة، وأنا تأبى عليَّ. فقال الشيخ: إِنَّك إِذا دخلت الخلوة؛ تجد لذَّةً تسقط عندها السَّلطنة من عينيك، فتختلُّ أمورها، فيمقت الله علينا ذلك، والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، فعليك أن تفعل كذا، وكذا، وذكر له شيئاً من النَّصائح، ثمَّ أرسل إِليه ألف دينارٍ، فلم يقبل، ولمّا خرج السُّلطان محمَّد خان، قال لبعض مَنْ معه: ما قام الشَّيخ لي. فقال له: لعلَّه شاهد فيك من الزُّهوِّ بسبب هذا الفتح الَّذي لم يتيسَّر مثله للسَّلاطين العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزُّهوِّ...».

هكذا كان هذا العالم الجليل الَّذي حرص على تربية محمَّد الفاتح على معاني الإِيمان، والإسلام، والإِحسان، ولم يكن هذا الشَّيخ متبحِّراً في علوم الدِّين، والتَّزكية فقط، بل كان عالماً في النَّبات، والطِّبِّ، والصَّيدلة، وكان مشهوراً في عصره بالعلوم الدُّنيويَّة، وبحوثه في علم النَّبات، ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض. وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلاً بين النَّاس يقول: (إِنَّ النَّبات ليحدِّث آق شمس الدِّين).
وقال الشَّوكاني عنه: «... وصار مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان، فإِنَّه اشتهر: أن الشَّجرة كانت تناديه، وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني، ثمَّ اشتهرت بركته، وظهر فضله..».

• وفاته:

عاد الشيخ إِلى موطنه كونيوك بعد أن أحسَّ بالحاجة إِلى ذلك، رغم إِصرار السُّلطان على بقائه في إستانبول، ومات عام 863هـ/1459م فعليه من الله الرَّحمة، والمغفرة والرِّضوان.
وهكذا سنَّة الله في خلقه لا يخرج قائدٌ ربَّانيٌّ، وفاتح مغوارٌ إِلا كان حوله مجموعةٌ من العلماء الرَّبانيِّين، يساهمون في تعليمه، وتربيته، وترشيده، والأمثلة في ذلك كثيرة، وقد ذكرنا دور عبد الله بن ياسين مع يحيى بن إِبراهيم في دولة المرابطين، والقاضي الفاضل مع صلاح الدِّين في الدَّولة الأيوبيَّة، وهذا آق شمس الدِّين مع محمَّد الفاتح في الدَّولة العثمانيَّة. فرحمة الله على الجميع، وتقبل الله جهودهم، وأعمالهم، وأعلى ذكرهم في المصلحين!


المراجع:

- د. علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص. ص(90-93).

 د. سالم الرَّشيدي، محمَّد الفاتح، الإِرشاد، جدَّة، الطَّبعة الثَّالثة، 1989م/1410هـ، ص.ص (384- 389)، (393- 396).

العثمانيُّون في التَّاريخ والحضارة، د. محمَّد حرب، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى 1409هـ/1989م، ص. ص (373-376).

البطولة والفداء عند الصوفيّة، أسعد الخطيب، ص (146).

البدر الطالع (2/ 167).

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس