د. علي الصلابي - خاص ترك برس

خلق الله هذا الكون وأبدع في تكوينه، سواءً كان في الإنسان أو الحيوان أو النبات أو التضاريس، فكلّ شيء على وجه الأرض خلقه الله لحكمة، وهو خلق مُتقن يدل على عظمة الخالق ومدى الدقة المتناهية في خلقه، ويستحيل لبشر أن يأتوا بمثله أبداً، وإذا ما فتشنا عن تعريف الجبال، هذه المخلوقات التي أرساها الله تعالى على هذه الأرض نجد جميع التعريفات الحالية تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون إشارة لامتداداتها تحت السطح والتي ثبت أخيراً أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات. هذا ما أبدعه الله تعالى كرسالة للبشرية جمعاء على حسن صنعه وخلقه وقدرته سبحانه وتعالى.

ولم يكتشف العلماء حقيقة أن الجبال أوتاد للأرض إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السير "جورج ايري" بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكشفية المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكشافة لضمان ثباتها واستقرارها.

وهذه الحقيقة العلمية لم تعرف إلا منذ أمدٍ قصير بعدما أمكن تصوير باطن الأرض بالوسائل الحديثة التي لم تكن معروفة قبل القرن العشرين، بل قبل النصف الأخير من هذا القرن، إذ وجد أن الجبل ليس هو الجزء الظاهر منه فوق سطح الأرض فقط كما يرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا، بل أنه مغروس كالوتد في باطن الأرض، وأن الجزء المغروس منه مدبب كالوتد، ليثبت الجبل مكانه، وأنه لولا جذر الوتد المغروس في باطن الأرض ما ثبت الجبل مكانه، وهذه الحقيقة لم تكن معروفة للعرب ـ ولا لغيرهم ـ وقت نزول القرآن، حتى يقال إن محمداً - صلى الله عليه وسلم -اقتبسها من علوم عصره، إنما هي إحدى الإشارات القرآنية الكونية التي وعد الله البشر أنهم سيعلمونها في يوم من الأيام، ويعلمون أنها حق، ويتبينون أنها وحي من عند الله. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 6 ـ 7].

وقد ذُكرت الجبال في القرآن الكريم في ثلاثٍ وثلاثين موضعاً، ووصفها الله شكلاً ووظيفة. نذكر منها:

قال تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 7].
وقال تعالى: ﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [لقمان: 10].
وقال تعالى: ﴿ وجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [الأنبياء: 31 ].

يبين لنا الله جلَّ جلاله أن للجبل أوتاداً تمتدّ تحت سطح الأرض حتى تثبّت الجبال في مكانها بحيث لا تميل وتسقط، وتلك تُبيّن عظمة الله تعالى في خلق الجبال، والجبال هي أوتاد بالنسبة لسطح الأرض، والوتد يكون منه جزء ظاهر على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره، بينما كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض، وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقة لزجة نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.

ويلاحظ أن الجذور أسفل سلاسل الجبال أكثر عمقاً من الجذور تحت المناطق المستوية، هذا ما اكتشفه العلم، ولكن القرآن الكريم سجل ذلك قبل العلم بكثير، وبالتأكيد إن التعبير الوصفي (أوتادا) في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ لا يعدله في الدقة شيء، ولم يغب عن فطنة المفسرين أن يسجلوا وجه الشبه في قوله تعالى (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) ففهموا أنه في التثبيت، وقالوا جعل للأرض أوتاداً بمعنى أرساها وثبتها وجعلها تقر وتسكن ولا تميد، وإنما استمدوا تلك المعرفة من دلالة الكتاب الكريم، ولا يمكن أن تلتقي تلك المعرفة الحديثة مع فيض الدلالات العلمية في حديث القرآن عن تاريخ الجبال ووصف تكونها إلا أن يكون هو الوحي من عند الله العليم وحده تعالى بكل الأسرار.

وفيما يختص بالجبال، هناك حقيقة، وهي التي خلق الجبال من أجلها هي ترسية الأرض ومنعها أن تميد بالناس، فهي بجذور أوتادها المغروسة في باطن الأرض هي التي تحفظ توازن الأرض، وتجعلها مستقرة يستطيع البشر أن يعيشوا فوقها، وينشطوا نشاطهم ويبنوا ما يبنونه من منازل ومنشآت، فلولا الجبال لسقطت الثلوج على الأرض مباشرةً وذابت دفعةً واحدة، ولم يستفد منها الإنسان؛ بل ستصبح نقمةً بما سوف تخلّفه من سيول عارمة تُهلِك الإنسان والنبات والحيوان،ى ولولا الجبال لظلت الأرض تتحرك بالناس، وترتج بهم ذات اليمين وذات اليسار، بما تحدث منه نماذج حقيقية في الزلازل بين الحين والحين، وبصدد تلك الرواسي أيضاً جاء في سورة الرعد: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3].

وهذه الآية وحدها تحمل حشداً من المعلومات العلمية، متتابعة تتابعاً علمياً لم يكن يدركه الناس قبل اتساع معلوماتهم عن هذا الكون وما يجري فيه، فالرواسي ـ هي الجبال الثابتة ـ التي تحفظ توازن الأرض، وفي الوقت ذاته هي مصدات تصد الرياح المحملة ببخار الماء فيصعد إلى أعلى، فيبرد فيتكاثف، فينزل إلى الأرض في صورة أمطار، ومن الأمطار الغزيرة تتولد الأنهار، الأنهار هي التي تسقي الزروع، فتنتج فيها الثمار، ومن هنا نرى ذكر الأنهار بعد الرواسي ومن بعد الأنهار الثمار، هو ليس مجرد تعديد لآيات قدرة الله في الكون، وإنما هناك (ترابط علمي) بينهما، وهو ترابط السبب والنتيجة. فسبحان الخالق جلّ جلاله فيما خلق، أبدع وأحسن خلقه، سبحانه تتجلّى عظمته في إعجازه.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس