د. علي الصلابي - خاص ترك برس

في عام 1514م قامت دولة البرتغال بتحريك حملةٍ على المغرب الأقصى يتزعَّمها الأمير «هنري الملاح» واستطاعت تلك الحملة أن تحتلَّ ميناء سبتة المغربي، وكان ذلك بـدايـة لسلسلةٍ من الأعمال العدوانيَّـة المتتالية، ثمَّ واصلت البرتغال حملاتها على الشمَّال الأفريقي حتى تمكنت من الاستيلاء على أصيل، والعرائش، ثمَّ طنجة في عام 1471 للميلاد. وواصلت بعد ذلك أطماعها في مراكز هامَّةٍ جدَّاً مثل ميناء «أسفى، وأغادير، وأزمورة، وماسة».

وأما عن توجه البرتغال إِلى المحيط الأطلسي، ومحاولتهم الالتفاف حول العالم الإِسلامي، فقد كان العمل مدفوعاً بالدَّرجة الأولى بدوافع صليبيَّة شرسة ضدَّ المسلمين؛ حيث اعتبرت البُرتغال: أنَّها نصيرة المسيحيَّة، وراعيتها ضدَّ المسلمين، حيث اعتبرت قتال المسلمين ضرورةً ماسَّةً، وصارمة، ورأت الإِسلام هو العدوُّ اللَّدود الَّذي لا بدَّ من قتاله في كلِّ مكان.

أهداف الحملات البرتغاليَّة:

أعلن ملك البرتغال «عمانويل الأوَّل» أهداف الحملات البرتغاليَّة وقال: إِنَّ الغرض من اكتشاف الطَّريق البحري إِلى الهند هو نشر النَّصرانية (الدَّافع الدِّينيَّ) أولاً، ومن ثم الحصول على ثروات الشَّرق (الدَّافع الاقتصاديُّ) ، فقد سهل اكتشاف طريق رأس الرَّجاء الصَّالح في عام 904هـ/1497م بواسطة «فاسكو دي جاما» مهمَّة وصول منتجات الشَّرق الأقصى للأسواق الأوربيَّة دون الحاجة إِلى مرورها عن طريق مصر، ولهذا ساعد تحويل الخط التِّجاري عن مناطق العبور العربيَّة، والإِسلاميَّة على تحقيق الهدف الدِّيني، وذلك لما للمجال الاقتصاديِّ من أثرٍ فعَّالٍ في إِضعاف القوَّة الإِسلاميَّة الَّتي كان لها أبلغ الأثر في زعزعة أوربة خلال عدَّة قرون، فضلاً عن الرُّكود الاقتصاديِّ؛ الذي مُنيت به الدَّولة المملوكيَّة بسبب هذا التحوُّل المفاجئ.

ونجح البرتغاليُّون في خططهم، وتمكَّنوا من السيطرة على معابر التِّجارة في السَّاحل الأفريقي، والخليج العربي، وبحر العرب، وقاموا بمنع وصول المنتجات الشَّرقيَّة إِلى أوربة عن طريقها، وقد ساعدهم في تحقيق ذلك عدم وجود منافسٍ بحريٍّ لهم، ممَّا سهَّل لهم السَّيطرة على المراكز الهامَّة بيسرٍ، وسهولةٍ، ثمَّ لم يتورع البرتغاليُّون بعد ذلك عن استخدام العنف، فشهدت المناطق الَّتي وصلوا إِليها، واحتلُّوها الكثير من المجازر، وإِشعال النِّيران، والتَّدمير، والاعتداء على حرمات النَّاس، ومنع المسلمين من الذَّهاب إِلى الحجِّ، وهدم المساجد عليهم.

أمَّا عن موقف المسلمين من هذا الغزو الغاشم؛ فقد كان المماليك آنذاك في موقفٍ لا يحسدون عليه، حيث أصابهم الوهن الاقتصادي، والسِّياسي، وانشغل السَّلاطين بمشاكلهم الدَّاخلية، ومجابهة الدَّولة العثمانيَّة، وقمع نشاط الفرسان الإِسبارتيَّة في شرق البحر الأبيض المتوسط، ثمَّ إِنَّ المماليك شعروا بالمسؤوليَّة على الرَّغم من المشاكل الَّتي كانت تعيشها دولتهم، وبذلوا ما في استطاعتهم للحدِّ من وصول البرتغاليِّين إِلى الأماكن المقدَّسة، فقام السُّلطان «قانصوه الغوري» بإِرسال حملةٍ بحريَّةٍ مكوَّنةٍ من ثلاث عشرة سفينةً عليها ألفٌ وخمسمئة رجلٍ بقيادة حسين الكردي؛ الذي وصل إلى جزيرة «ديو» ثم «شول» والتقى مع الأسطول البرتغالي بقيادة «الونز دي الميدا» وذلك في عام 914هـ/1508م فكان النَّصر حليفه، ثمَّ إِنَّ البرتغال عزَّزوا قوَّاتهم، وأعادوا الكرة مرَّةً أخرى، ممَّا أدى إِلى هزيمة الأسطول الإِسلاميِّ سنة 915هـ/1509م في معركة «ديو» المشهورة في التَّاريخ.

موقف الدَّولة العثمانيَّة من الغزو البرتغالي:

كانت الدَّولة العثمانيَّة في البداية بعيدةً عن ساحة المعركة، ويفصل بينها وبين البرتغال دولة المماليك، والدَّولة الصَّفويَّة، ومع ذلك لبَّى السُّلطان بايزيد الثاني طلب السُّلطان الغوري مساعدته ضدَّ البرتغال، فأرسل في شهر شوَّال سنة 916هـ/1511م عدَّة سفنٍ محمَّلةٍ بالمكاحل، والأسهم، وأربعين قنطاراً من البارود، وغير ذلك من المستلزمات العسكريَّة، والأموال اللازمة. ولكن هذه المساعدة لم يكتب لها الوصول سالمةً بسبب تعرُّضها لقرصنة فرسان القدِّيس يوحنَّا.

وبعد أن ضمَّ العثمانيُّون بلاد مصر، والشَّام، ودخلت البلاد العربيَّة تحت نطاق الحكم العثماني واجهت الدَّولة العثمانيَّة البرتغاليِّين بشجاعةٍ نادرةٍ، فتمكنت من استرداد بعض الموانئ الإِسلاميَّة في البحر الأحمر مثل: مصوع، وزيلع، كما تمكَّنت من إِرسال قوَّةٍ بحريَّةٍ بقيادة «مير علي بك» إِلى السَّاحل الأفريقي، فتمَّ تحرير مقديشو، وممبسة، ومُنيت الجيوش البرتغاليَّة بخسائر عظيمةٍ.

وفي عهد السُّلطان سليمان القانوني 927 - 974هـ/1520 - 1566م تمكَّنت الدَّولة العثمانيَّة من إِبعاد البرتغاليِّين عن البحر الأحمر، ومهاجمتهم في المراكز الَّتي استقرُّوا بها في الخليج العربيِّ.

لقد أدرك السلطان سليمان: أنَّ مسؤوليَّة الدِّفاع عن الأماكن المقدَّسة هي مسؤوليَّة الدَّولة العثمانيَّة، فبادر بعقد اتفاق مع حاكمي «قاليقوط» و«كامباي» وهما الحاكمان الهنديان اللَّذان تأثَّرا من الغزو البرتغالي، وكان ذلك الاتفاق ينصُّ على العمل المشترك ضدَّ البرتغال، ثمَّ أعقب ذلك الاتِّفاق إِصداره مرسوماً إِلى سليمان باشا الخادم والي مصر هذا نصُّه: (عليك يا بيك البكوات بمصر سليمان باشا أن تقوم فور تسلمك أوامرنا هذه، بتجهيز حقيبتك، وحاجتك، وإِعداد العدَّة بالسُّويس للجهاد في سبيل الله، حتَّى إِذا تهيَّأ لك إِعداد أسطول، وتزويده بالعتاد، والميرة، والذَّخيرة، وجمع جيش كافٍ، فعليك أن تخرج إِلى الهند، وتستولي، وتحافظ على تلك الأجزاء، فإِنَّك إِذا قطعت الطَّريق، وحاصرت السُّبل المؤدِّية إِلى مكَّة المكرَّمة تجنبت سوء ما فعل البرتغاليُّون، وأزلت رايتهم من البحر).

وقام سليمان الخادم بتنفيذ أوامر السُّلطان العثمانيِّ، ووصل بعد سبعة أيام إِلى جدَّة ثمَّ اتجه إِلى كمران، وبعد ذلك سيطر على عدن، وعيَّن عليها أحد ضباطه، وزوَّدها بحاميةٍ بلغ عدد جنودها ستمئة جنديٍّ، ثمَّ واصل سيره إِلى الهند، وعند وصوله إِلى ديو؛ لم يتمكَّن من الاستيلاء عليها، وانسحب عائداً بعد أن فقد حوالي أربعمئة من رجاله، وحاول مرَّةً أخرى الاستيلاء على القلاع الأماميَّة؛ حتَّى استسلمت إِحداها، وتمَّ أسر ثمانين برتغالياً، ولولا الإِمدادات الجديدة للجيش البرتغالي؛ لاستسلمت جميع القلاع، وتمَّ طرد البرتغاليِّين من الهند، ولخضعت قلعة ديو للعثمانيِّين خضوعاً تاماً.

وهكذا تمكَّن العثمانيُّون من صدِّ البرتغال، وإيقافهم بعيداً عن الممالك الإِسلاميَّة، والحدِّ من نشاطهم، وهكذا نجحت الدَّولة العثمانيَّة في تأمين البحر الأحمر، وحماية الأماكن المقدَّسة من التوسُّع البرتغالي المبني على أهدافٍ استعماريَّةٍ، وغاياتٍ دنيئةٍ، ومحاولاتٍ للتَّأثير على الإِسلام، والمسلمين بطرقٍ مختلفةٍ.

نتائج الصراع العثماني البرتغالي:

- احتفظ العثمانيُّون بالأماكن المقدَّسة وطريق الحجِّ.
- حماية الحدود البرِّيَّة من هجمات البرتغاليِّين طيلة القرن السَّادس عشر.
- استمرار الطُّرق التِّجارية الَّتي تربط الهند، وأندونيسيا بالشَّرق الأدنى عبر الخليج العربيِّ، والبحر الأحمر.
- استمرار عمليَّات تبادل البضائع الهنديَّة مع تجَّار أوربة في أسواق حلب، والقاهرة، وإستانبول، ففي سنة 1554م اشترى البندقيُّون وحدهم ستة آلاف قنطار من التَّوابل، في الوقت نفسه كانت تصل إِلى ميناء جدَّة عشرون سفينةً محمَّلةً بالبضائع الهنديَّة (توابل، أصباغ، أنسجة).

إِنَّ النجاح الذي حقَّقته الدَّولة العثمانيَّة في درء الخطر البرتغالي على العالم الإِسلاميِّ يستحقُّ كلَّ تقديرٍ، وثناءٍ، فدولة المماليك المتهالكة كانت على وشك الانهيار، ولم تكن على مستوى من القوَّة يكفل لها الوقوف أمام الغزو البرتغاليِّ، فتحمَّلت الدولة العثمانيَّة أعباء الدِّفاع عن حقوق المسلمين، وممتلكاتهم، ونجحت أيَّما نجاحٍ في الحدِّ من مطامع الغزاة، ووصولهم إِلى الأماكن المقدَّسة، كما كانوا يرغبون.


مراجع البحث:

- د. علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (158: 163).
- د. أحمد سيّد درّاج، المماليك والفرنج: فى القرن التاسع الهجرى الخامس عشر الميلادى ، دار الفكر العربي, القاهرة، 1961م، ص (115).
- د. جميل بيفون، د. شحادة النَّاظور، الأستاذ عكاشة، تاريخ العرب الحديث، دار الأمل للنَّشر والتوزيع، الطَّبعة الأولى 1412هـ/1992م، ص (45، 46).
- د. شوقي عبد الله الجمل ، الكشوف الجغرافيَّة البرتغاليَّة والإِسبانيَّة، مقالة في كتاب الصِّراع بين العرب والاستعمار، القاهرة، 1415هـ/1995م ، ص (99، 100).
- د. شوقي عبد الله الجمل، تاريخ كشف أفريقيا واستعمارها، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1971م، ص (172).
- د. عبد العزيز سليمان نوّار، التّاريخ الأوربيّ الحديث في عصر النّهضة إلى مؤتمر فيينّا، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت، 1997م ص (48).
- عبد العزيز عبد الغني إِبراهيم ، علاقة ساحل عمان ببريطانيا، دراسة وثائقيَّة، مطبوعات دار الملك عبد العزيز، الرِّياض، 1402هـ/1982م ، ص (19).
- غسان الرّمال، صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الأحمر ، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والدراسات ، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، السعودية، ص (226).
- محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1404ه - 1984م، (4/142).
- نوال صيرفي، النُّفوذ البرتغاليُّ في الخليج العربي، مطبوعات دار الملك عبد العزيز، الرِّياض،  1403هـ/1983م، ص (106).
- د. يوسف علي الثَّقفي، موقف أوربة من الدَّولة العثمانيَّة، الطَّبعة الأولى، 1417ه، ص 37 - 39 - 40.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس