د. علي المر - خاص ترك برس

تحدثنا في مقالة سابقة، من على هذا المنبر، عن الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب وتداعياته الخطيرة المتوقعة. وذكرنا أن على القوى الفاعلة في المنطقة أن تتعاون لمنع أي تداعيات، أو للحد منها وتقليل آثارها المدمرة.

وحري بنا أن نتوقف في هذا المقال عند إحدى هذه الدول، المؤثرة فيه والمتأثرة به، وهي إيران. سيما أننا اليوم نعيش الذكرى الأربعين لقيام ثورتها عام 79 من القرن الماضي، والتي لا يخفى أنها أصبحت تحاول فرض هيمنتها بالقوة المفرطة، على المنطقة العربية والإسلامية، بدلًا من التأثير بالإشعاع كما وصفها مفجر الثورة، الخميني، قبل 40 سنة. فصفقنا له، وأيدناه، وبدا لنا يومها، وهي حقيقة، أن الثورة كسبت قلوب الأغلبية الساحقة من المسلمين، الرجال والنساء، الشباب قبل الشياب، المتعلمون قبل غيرهم، وأصبحت شعارات الثورة "يا مسلمي العالم اتحدوا" و "الموت لأمريكا" و"الموت لإسرائيل"... تُسمع في كل نادٍ، وتُردَّدُ في كل مناسبة.      

كنا على مدى ثلاثين عاماً، وزيادة، نسهر حتى ساعات الفجر، نتابع أخبار الثورة، ونعيشُ أحداثها لحظةً بلحظة. ومن شدة افتتاننا بها، وبشعاراتها المؤيدة للشعوب المستضعفة، والمعادية للاستعمار والصهيونية وقوى الاستكبار العالمي، رحنا نرقب مع كل مطلع شمس طلائع الرايات السود، تلوح من المشرق، لتوحد الأمة بعد شتاتها، وتحرر الأرض المقدسة من نير الاحتلال الصهيوني البغيض الغاشم. ثم لم يكن إلا أن استفقنا، بعد ثلاثة عقود، على واقع مرير مغاير!

لقد تنكرت الثورة الإسلامية، وبخاصة في العقد الأخير من عمرها، أو تجاهلت، شعاراتها الجذابة؛ وانحازت بقوة إلى نظم ظالمة طاغية فاسدة عفا عليها الزمن، وسأمتها الشعوب فتحركت للخلاص منها، كما فعل الشعب الإيراني نفسه عندما هب عام 79 للتخلص من حكم فاسد شبيه عفا عليه الزمن. ولقد أدى انحيازها إلى حرمان الشعوب من ممارسة الحق الذي مارسه الشعب الإيراني بالثورة، وإلى تكريس الواقع الفاسد، وفتح الباب على مصاريعه، للقوى المعادية للتدخل، وإشاعة القتل باسم الإسلام، والإسلام بريء من القتل براءة قميص يوسف من دم الذئب. فشاع القتل البشع والتنكيل والتدمير، ومات وهُجِّرَ الملايين. وما يثير الأسى أكثر: أن كل أولئك الضحايا هم ممن قامت الثورة لأجلهم، أو هكذا فهمنا. وربما كانوا مثلنا لا ينامون الليل يتابعون أخبارها، ويدعون لها بالنصر والتمكين!

وهنا تظهر مثل هذه الأسئلة، التي تبحث عن إجابات حاسمة شافية: ما الذي يجري في منطقتنا؟ هل كانت الثورة الإيرانية خُدعة كبرى مرت علينا فصولها، وصفحاتها، في غفلة منا في الزمن؟ وهل كانت أحداثها، بدءاً من خروج الشاه وعودة الخميني، من مهجره، عام 1979، وحتى اللحظة، حلقات في دراما عالمية مثيرة، تعجز عن الإتيان بمثلها خيالات أكبر الروائيين وأعرق دور السينما العالمية؟ وكيف تنظر الثورة وقادتها إلينا اليوم؟ هل نحن، أي الشعوب، في نظرها، بشر نستحق الحياة بكرامة في ظلالها، أم غثاء سيل لا ضير أن تحرقه وقوداً لعجلات قاطراتها؟

ثم من قال: إن البديل لنظم دموية آلت للسقوط على أيدي شعوبها، في الربيع العربي، وآلت الثورة على نفسها إلا أن تنحاز لها سيكون أكثر سوءاً منها، فاختارت الثورة أهون الضررين، ووقفت مع النظم المستبدة ضد شعوبها الطامحة للحرية والانعتاق؟ ومن قال: إن النظم البديلة، لو نجحت ثورات الشعوب، سوف لن تكون ممانعة ومقاومة للمشروع الصهيوني – الأمريكي أكثر من النظم التي انحازت الثورة لها بدعوى دعم محور المقاومة والممانعة؟

أسئلة كثيرة، ومثيرة للجدل بالطبع، وليست الإجابة عليها بأقل منها إثارة للجدل. ولكنها، على كل حال، تظل تختلج في نفس كل مهتم بالثورة، وبمستقبل المنطقة، ويتوجس على مستقبلها. ولا شك أنها تلجلجت في صدور الملايين ممن قضوا، أو عانوا، في الحروب التي اشتعلت في المنطقة منذ قيام الثورة قبل 40 عامًا، وساهمت الثورة فيها، بطريقة أو أخرى. وتدفعنا للتوقف، طويلاً، للبحث عن إجابة لسؤال كهذا:

هل من أمل للتعايش بين شعوب المنطقة، العرب والكرد والترك والفارس، السنة-والشيعة، والمسلم والمسيحي، وكل الناس، وإعاقة أي مسعى لتحويل المنطقة إلى سعير ملتهب، أول ما يحترق فيه أهلها؛ وتحويل ما يسمى بالاتفاق النووي الإيراني مع الغرب، بنسخته الحالية الغامضة كما أسلفنا، أو بأي نسخة معدلة يجري التمهيد لها ولن تكون أقل غموضًا: إلى نسخة جديدة من سايكس-بيكو جديد، سيكون هو الآخر أشد غموضًا وخطرًاـ، يرسم سياسة المنطقة للقرن الحادي والعشرين، مثل ما رسم سايكس بيكو الأول قبل 100 عام سياستها للقرن العشرين!؟ ثم نصحوا بعد فوات الأوان لنندب حظنا ونعض أصابع الندم كما فعلنا في المرة الأولى؟

بعبارة أخرى: ما هي الخيارات المتاحة للتعايش، أمام شعوب المنطقة، وبخاصة المسلمين الذين يشكلون أغلبيتها الساحقة، والذين تسعى قوى الاستكبار والاستعمار إلى إضعافهم، وحتى استئصالهم، على كثرتهم، كما يُنْسَبُ من أقوال لبعض القادة الغربيين الذين ينطقون بكراهية العصور الوسطى؛ ولا يأبهون!؟

أقول: هل يمكن لإيران أن تعيش، بسلام وانسجام مع محيطها الإسلامي السني، رغم الويلات التي حصلت، والتي ربما تزيد في حجم دمارها عن تأثير عشرة قنابل ذرية مثل هيروشيما ونجازاكي!؟

لقد استحوذت إيران على قلوب المسلمين يوم كانت تنادي يا مسلمي العالم اتحدوا! ويوم كانت المقاومة تتصدى لغطرسة الاحتلال الإسرائيلي وظلمه. ولقد أخذ رصيدها ينضب ويجف، يومًا بعد يوم، منذ أن وقفت موقف المتوجس، من ثورات الربيع العربي السلمية، ووضعت يديها في أيدي الظالمين لقمعها. ويوم أن سمحت بتوجيه سلاح المقاومة إلى صدور رصيد الثورة من الشعوب المسلمة، بدلًا من العدو المحتل. ويوم أن أصبح طريق القدس يمر من دمشق وما بعد دمشق، بدل حيفا وما بعدها. ويوم علت أصوات، خرقاء منكرة، قادمة من وراء التاريخ، تنادي: قادمون يا نينوى! بدلًا من قادمون يا أقصى, ويوم أخذ قادة حرس ثورة إيران يجولون على أطلال حواضر عربية عريقة، لأهل السنة، دكتها جيوش الفاتحين الأجانب، وجعلتها أثرًا بعد عين. وغير ذلك من شعارات، ومواقف، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تنم عن عميق وعي أو إدراك، سياسي أو ديني.

إن ما حصل منذ قيام الثورة، وبخاصة في العقد الأخير من عمرها، وما هو متوقع أن يحصل في المستقبل لو استمرت حالة الحرب مستعرة في المنطقة، يملي على الجميع أن يتوقف ويراجع حساباته.

على إيران، بوجه خاص، أن تدرك أن تصدير الثورة بالقوة والقتل والدمار غير ممكن. وأن دعم أنظمة فاسدة لا يدل على أنها جادة في بناء دولة عصرية تنافس الأمم ويقبلها المسلمون. وأن الاعتماد على أقليات، هنا وهناك، لن يؤدي إلى خلق دولة ممتدة ومستقرة. وعليها أن تفكر في فكر جامع وبرنامج عمل مقبول للجميع. أو أن استمر في صراعها مع ملياري مسلم حول العالم، لحملهم على التشيع بالقوة أو القتل!؟

ومن جهة أخرى إن تجاهل إيران غير ممكن، ولا يجب أن يكون. على الجميع أن ينبذوا العصبية العمياء، ويتبعوا روح الدين الإسلامي السمحة، السامية، التي جمعت شعوبًا وأممًا مختلفة متناحرة، وصهرتها في بوتقة واحدة، في العصر الذهبي للإسلام، وبنت دولة امتدت من الصين إلى وسط أوروبا، وعمرت أكثر مما عمرت دولة في التاريخ؛ وبنت حضارة خير ما بنت أمة عرفتها البشرية.

آن الأوان أن ينبذ الجميع عوامل التفرقة، وأن يتفق الجميع على رؤية عصرية، لدولة عصرية، لا تهزها العاديات، تضع فيها إيران مسار الثورة على سكة الوحدة الإسلامية، وتتخلى عن نظم فاسدة، وَلَغَتْ في دماء شعوبها، ما لم يفعله التتار والمغول؛ وتعيد مسار المقاومة إلى حيفا ويافا وعكا وما بعدها؛ ومسار الحشد (وما هو بالحشد) إلى القدس الشريف والأقصى المبارك.

حلم يبدو للناظر بعيدًا كالخيال! ولكن ليس من دونه إلا المعاناة الدائمة، والقتل البشع، والخراب الذي لا حدود له!     

وإلى اللقاء في مقال آخر.

عن الكاتب

د. علي المر

المدير السابق للطاقة النووية في الأردن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس