د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

بينما كانت أنقرة تردد أن محادثاتها مع واشنطن حول المنطقة الآمنة المتوقع إقامتها شمال سوريا متواصلة، وكانت الإدارة الأميركية تستعد للكشف عن طرحها الجديد في شرق الفرات القائم على تسليم إدارة شؤون المنطقة لحلفائها الأوروبيين رغم المعارضة التركية، وعندما كان بشار الأسد يعلن من طهران أن نظامه نجح في معركة القضاء على مخطط تفتيت سوريا ولم يبق سوى القليل لبسط سيادة الدولة على الأراضي السورية بأكملها، وخلال تقدم مجموعات "قسد" نحو خط النهاية في المواجهة مع بقايا "تنظيم داعش" في مناطق الحدود السورية العراقية، يتطوع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومن موسكو نفسها للكشف عن وجود خطة روسية جديدة ستظهر إلى العلن قريبا بشأن تسوية الأزمة السورية.

وهكذا كشف الرئيس فلاديمير بوتين عن وجود خطة روسية لإنشاء مجموعة دولية جديدة تشمل الدول المنخرطة في النزاع السوري، وتتولى مهمة "الاستقرار النهائي" بعد استئصال الإرهاب من هناك. المشهد يبدو وكأن بوتين كلف نتنياهو بالإعلان عن أن محادثاته في الكرملين توجت بالاتفاق على تشكيل «مجموعة عمل» تهدف إلى إطلاق خطة إخراج كل القوات الأجنبية من سوريا، ليتحرك هو مباشرة هذه المرة باتجاه الكشف عن بعض التفاصيل التي ناقشها مع ضيفه الإسرائيلي دون أن نعرف حجم الدورين التركي والإيراني في بلورة هذه الخطة تحت سقف قمم الأستانة أو سوتشي.

هل بوتين هو الذي أراد من نتنياهو الحديث عن هذه الخطة لأنه شعر أن لا فرص لها لتشابك طروحاتها وتداخل بنودها وما سمّاه الرئيس الروسي بشروط وأولويات لابد منها قبل الانطلاق مثل انسحاب القوات الأجنبية وقبول وحدة الأراضي السورية وقرار التنسيق والتعاون المشترك ضد الجماعات الإرهابية في سوريا؟

ولماذا يختار بوتين صديقه نتنياهو الذاهب إلى انتخابات تشريعية صعبة في إسرائيل بعد شهر لمصارحته بهذا الموضوع ومنحه فرصة الإعلان عنه؟ هل الهدف هو تحديد خيار موسكو وموقفها وإلى جانب من ستكون في هذه الانتخابات؟ أم إبلاغ شركائها في الملف السوري تركيا وإيران والنظام أنها لن تتخلى عن التنسيق مع تل أبيب خلال البحث عن صيغ الحلول والتفاهمات في سوريا؟ أم أن الهدف الحقيقي هو توجيه رسالة روسية لواشنطن والإدارة الأميركية أن موسكو قادرة على التأثير في الموقف الإسرائيلي حيال سوريا وخطط المستقبل السياسي والدستوري وإقناعها بقبول ما قد لا يرضي ويتوافق مع حسابات فريق عمل الرئيس ترمب؟

قال بوتين في أيلول العام المنصرم إنه “يجب التحرك بأسرع ما يمكن نحو العمل الجاد حول انتقال سوريا إلى الحياة السلمية. وقال في تشرين الأول الماضي "إن الجهود الروسية حافظت على مؤسسات الدولة السورية، مما أثمر في إعادة الوضع إلى استقراره في المنطقة، لقد حررنا، خلال هذه الحقبة، حوالى 95% من الأراضي السورية". أما المرحلة التالية كما يرى الرئيس الروسي بوتين فيجب تكريسها لتسوية الأزمة في سوريا بطرق سياسية على ساحة الأمم المتحدة. هل هذا ما يريد بوتين تنفيذه الآن؟

بوتين يتحدث عن خروج القوات الأجنبية من سوريا وتطبيع الوضع في البلاد بإشراف "آلية دولية". لكنه يؤكد أن هذا مرتبط بإنجاز بعض الخطوات السياسية والأمنية. حقيقة أولى طرحها الرئيس الروسي نفسه تعكس حقيقة صعوبة تطبيق الخطة التي تهدف لإنشاء مجموعة دولية خاصة تشمل الدول المنخرطة في النزاع السوري، وتتولى مهمة "الاستقرار النهائي" لكنه قبل الجلوس والحوار يشترط أولا استئصال الإرهاب وضرورة سحب جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية، واستعادة مؤسسات الدولة مع الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.

مشكلة بوتين الثانية هي في توجيه الدعوات وتحديد المشاركين وما هي المعايير التي ستعتمد من أجل ذلك. بوتين يقول تكمن الفكرة في إنشاء مجموعة عمل دولية ستشمل جميع الأطراف المعنية. لكنه يعود ويقول إن المشاركة ستشمل بالدرجة الأولى القيادة السورية، و"ربما" المعارضة ودول المنطقة المنخرطة في النزاع. كيف ستنجح موسكو في إجلاس الإيراني والعربي والإسرائيلي والتركي والأميركي أمام طاولة واحدة وأين ستفعل ذلك؟ 

أزمة بوتين الثالثة هي في الغطاء القانوني والسياسي لفريق عمل دولي من هذا النوع. هل سيعمل تحت سقف الأمم المتحدة وبحمايتها ورعايتها أم هو سيكون فريق عمل دولي مستقل خارج المنظمة الأممية وعندها ستتعقد مهمته وتصعب أكثر. بوتين يعرف جيدا أن هذه المبادرة تتماشى تماما مع مواقف وبيانات دول الأستانة الثلاث ورغبتها "النظرية" لإنهاء النزاع السوري، لكنه يعرف أيضا أن المشكلة لم تكن في إعلان المواقف والأهداف بل في تطبيقها على الأرض أمام هذا الكم الهائل من تضارب المصالح وتناقضها. ما المقصود مثلا بقول بوتين وهو يقوم الوضع الحالي في سوريا إن الأمور استقرت وإنه سيتم القضاء على آخر بؤر الارهاب في القريب العاجل؟

هل هناك تفاهمات ستظهر قريبا إلى العلن حول من هو الإرهابي في سوريا ومن الذي سيحدد ذلك وهل ستنجح موسكو بمثل هذه البساطة في التقريب بين التوصيفات التي تطرحها أنقرة وطهران وواشنطن بهذا الخصوص؟

أن يسمح بوتين للإسرائيليين بالكشف عن خطته يبقى مسألة بسيطة أمام إعلان نتنياهو ومن موسكو مباشرة، أن إسرائيل ستواصل استهداف القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها في سوريا، مع حفاظها على آلية منع الاشتباك مع روسيا. الكارثة الأكبر هي إعلان نتنياهو من قلب الكرملين أننا "سنواصل العمل حتى نخرج الإيرانيين من سوريا، لأن إيران تهدد بتدمير إسرائيل ولن نسمح لها بالتموضع قريبًا من حدودنا". 

وهل من المحتمل أن يكون بوتين كلف نتنياهو بهذه المهمة للرد على طهران وإبلاغها أن محاولات تحريض الأسد ضد موسكو لن تنفع وأن ايران محكومة بالقدر الروسي في سوريا وأن كل مناوراتها باتجاه النظام ستفشل عند أول غارة إسرائيلية حقيقية تضرب في العمق السورية وأن المفتاح الوحيد للحؤول دون ذلك هو بيد الكرملين وأن لا خيار للقيادات الإيرانية سوى قبول ما تقوله وتريده موسكو في سوريا؟

نقطة أخرى كان فيها كثير من الغموض حول من هي القوات الأجنبية التي دخلت سوريا بطريقة غير شرعية فسارعت موسكو إلى توضيحها مؤخرا بإعلانها أن هذا التوصيف لا يعنيها هي كما لا يعني إيران وحلفاءها لأنهم هناك بطلب رسمي من دمشق. بوتين ينسق مع نتنياهو في مستقبل الحل للأزمة السورية وهدفه هو كسب الدعم الإيراني والإسرائيلي عبر الوصول إلى هدنة بينهما فوق الأراضي السورية لإنجاز خطته. لكنه يدرك أنه دون موافقة ودعم واشنطن لمناورة روسية من هذا النوع فهي لن تنجح.

من ناحية أخرى تجري تركيا مفاوضات على مسارين مختلفين مع الولايات المتحدة وروسيا حول الملف السوري. بينما تناقش أنقرة مسألة شرق الفرات مع واشنطن، تخوض مباحثات مع موسكو بخصوص غرب الفرات وإدلب. يلوح البلدان أن فرصة الحل الوحيدة اليوم هي عبرهما بعد تقدم المحادثات الأميركية التركية نحو طريق مسدود والتباعد التركي الروسي حول خطط التحرك في إدلب.

قناعة مقلقة في صفوف كثير من الأتراك اليوم تحذر من احتمال حدوث المفاجأة الأميركية الروسية الثنائية التي قد تفرض على الجميع في سوريا بعد وصول الأمور على ضفتي الفرات السوري إلى طريق مسدود وأن تتحول الخطة الروسية إلى ورقة مفاوضات بين واشنطن وموسكو على حساب اللاعبين التركي والإيراني.

عودة إلى الوراء بعض الشيء تدفعنا لتذكر ما قاله ترمب حول البراغماتية الأميركية الروسية في التعامل مع الملف السوري. ترمب قد يكون مثلا أعطى بوتين المجال لمتابعة رؤيته هو أيضا القائمة على حماية المصالح الروسية والأميركية في سوريا.

يبدو أن أصرار موسكو على الإمساك بالكثير من خيوط اللعبة في سوريا هدفه الأول والأخير كان إلزام واشنطن بالحوار والتفاوض معها في سوريا وهذا ما ستصل إليه في النهاية، المتبقي لروسيا هو معرفة مدى رغبة بعض العواصم الخليجية في دعم خطة من هذا النوع وهذا ما سيتوضح خلال أيام مع جولة وزير الخارجية الروسي "لافروف" الخليجية والتي ستضم السعودية والكويت والإمارات وقطر.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس