آلاء عوض - خاص ترك برس

في قاعة الصف المُزدحمة بطلابٍ من مختلف الجنسيات، وأثناءَ دقائق الاستراحة الوجيزة، ارتفع صوتها رويداً رويداً ليصل إلى معظم الطلاب، مُخترقاً أفق الجميع بمن فيهم الأجانب، كانت تُخاطب فتاتين من أصول عربية وتحدّثهم عن بحبوحة وضعها في سوريا، حيث كان زوجها يملك شركة كبيرة تُدرّ عليهم سنوياً مئات آلاف الدولارات، أما حالها الآن فقد اختلف كثيراً وتحوّلت من سيدة مجتمع مخملي إلى لاجئة عادية شأنها شأن كل النساء.

بصوتها العالي عبّرت (سجى) عن موقفها من الثورة السورية مكرّرة على مسامع بعض النساء "أن الثورة ما هي إلا شغب فقراء"، وتحاول بكل ما أوتيت من حضور وملاءة اكتسبتهما سابقاً حين كانت تنفقُ الدولارات إقناعَ بعض الشابات ممّن يصغرنها سناً أن لا وجود لثورة في سوريا وأن حياة السوريين في السابق كانت رغداً.

التقيتُ بسجى، وهي امرأة حلبية في عقدها الرابع، في إحدى مراكز تعليم اللغة التركية للأجانب في مدينة إسطنبول التركية، ومنذ لقائنا الأول أفشتْ لي باقتدارها وتفرّدها فهي بالإضافة لثرائها المادي، ثرية المهارات والأدوات، تتقن الإنكليزية والفرنسية وبعضاً من لغات أخرى أجنبية، وتتعلّم حالياً التركية، وعلى الرغم من تراجع وضعها المادي بعد خروجها من سوريا، منذ أربع سنوات، إلا أن زوجها استطاع تأسيس عمل جيد في تركيا، ويأمل وزوجته أن يعودوا إلى حلب في أقرب فرصة ليعيدوا بناء مجد شركتهم السابق.

تشعرُ (سجى) أن ثراءها في تركيا لا يعني لها الكثير فقد خسرت وجودها ومكانتها، وتُعامل كلاجئة منقوصة القيمة والاعتبار، ولا تتخطّى بحديثها عتبة حلب (المدينة) وكأنها لم تسمع يوماً بالريف أو حتى بمحافظات أخرى داخل حدود سوريا، فحلب (المدينة الثرية) هي عاصمتها وكينونتها وأي قضايا أخرى في أماكن أخرى دون ذلك لا تخصّها.

لا شكّ أن طول سنون الحرب السورية سهّل على جمعٍ من الأغنياء الإفصاح عن مواقفهم، وهم الآن يجاهرون بها وأكثر ما يُحزنهم أموالٌ خسروها، وبيوتٌ تهدمت، و(طابو) خرج عن الخدمة. يتمتع هؤلاء بذاكرة خصبة لا مثيل لها، فهم قادرون في أي جلسة تافهة على إحصاء شتى ممتلكاتهم وأثاثهم الفاخر، وكذا الأمر بالنسبة لأعداد الأطباق والأواني في مطابخ منازلهم.

مظالم الأثرياء في الثورات كثيرة، تبدأ عند خروجهم من قصورهم الفخمة ولا تنتهي بعد تأسيسهم غيرها، لأن تفكيرهم ينساق مباشرة نحو المضاعفة والمراكمة، ومنطق تعويض الخسائر وتجاوز المحن غير موجود في قواميسهم، ولا يشعرون بانتمائهم للآخرين الملاصقين والمجاورين فهم حتماً مختلفون، أما في ما يتعلق (ببرستيجهم الاجتماعي) فهو خسارة فائقة لا يمكن تعويضها في المنفى الذي يرى الجميع سواسية.

قسمٌ لا بأس به من ميسوري الحال في العالم العربي -للأسف- لم يدعموا ثورات الربيع وبعضهم أُجبر على الوقوف في صفها لأنها كانت في حقبة ما الخيار الوحيد، لكن مواقفهم الأولى تطفو عند كل مطّب، وهي الآن تبلغ ذروتها مستفيدين من تدهور حال الثورات وتقهقر أهلها.

أساءَ هؤلاء حين تأخروا عن جموع الشعوب في إعلاء كلمة الحق، وأساؤوا حين أعلنوا تأييدهم للثورة لعدم أصالة مواقفهم، ويسيئون الآن أيضاً بتنصّلهم عن الشعب وتضليلهم الرأي العام والمجتمعات المضيفة.

لا يعني أن تكون (سجى) تتحدّر من العاصمة الاقتصادية لسوريا سابقاً بقدر ما يعني مجاهرتها بموقفها المناهض للشعب والمنفصل عنه، ولا يعني أيضاً موقفها كثيراً بقدر ما يعني إشهارها تفضيلَ النظام داخل دائرة متسعة من الأجانب ومجتمع من الأتراك أعرب مؤخراً عن رفضه لهذا الطرح معتبراً أن على السوريين العودة إلى بلادهم (إذا هم اعترفوا بحسن نظامه).

(سجى) لن يمسّها على الأراضي التركية أيّ أذىً لأنها استخرجت فورَ قدومها إلى تركيا إقامة سياحية، وتستطيع السفر على حسابها الشخصي إلى أي دولة تختارها، لكن آخرين من السوريين العاديين سيتكلفون عناء تصحيح الصورة إن بقوا على قيد الحماية والأمان.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس