د. علي الصلابي - خاص ترك برس

كان حسن آغا الطُّوشي (1486 - 1543 م) أول أغا يحكم الجزائر بأمر من البايلر باي الأول خير الدين بربروسا، وقد استمر في منصبه المستخلف عليه يعمل على قهر القرصنة الأوربيَّة، حيث أبلى في سبيل ذلك البلاء الحسن، وصار شخصه في الجزائر مثالاً بارزاً في البطولة، والتَّضحية الإِسلاميَّة في سبيل الدِّفاع عن بلاد الإسلام في الشَّمال الأفريقي، فاكتسبت الجزائر مهابةً، وجلالاً، وجعلت الأمم المسيحيَّة تهرع على عاهلها الأكبر الإمبراطور شارل الخامس مستنجدةً بسلطانه، منضويةً تحت لوائه، ومن بينها البابا بول الثَّالث.

وقد حاول شارل الخامس 946هـ/1539م عقد هدنة مع خير الدِّين إِلا أنَّه خاب أمله، مثل ما خاب في محاولته السَّابقة عندما عرض على خير الدِّين سرَّاً الاعتراف به حاكماً لشمال أفريقية مقابل جزيةٍ بسيطةٍ؛ إِذ كان شارل الخامس يأمل في قيام تحالف إِسباني جزائري يجابه به التَّحالف الفرنسي العثماني، ويعمل على فصل شمال أفريقية عن إستانبول على أمل: أنَّه إِذا تحقق ذلك ؛ فلن تستطيع شمال أفريقية إِبداء مقاومةٍ قويَّة، ويكون من السَّهل سقوطها.

انهمك حسن آغا الطُّوشي في توطيد الأمن، ووضع الأسس للإِدارة المستقرَّة، ومحاولة جمع أطراف البلاد حول السُّلطة المركزيَّة الجزائريَّة، فأخضع مدينة مستغانم لدولته، ثم تقدَّم نحو الجنوب الشَّرقي، فاستولى على عاصمة الزاب بكرة، وملحقاتها، وشيَّد هناك حصناً، وأقام به حاميةً.

ركب الجيش العثماني في شهر جمادى الأولى 949هـ/سبتمبر 1539م البحر، وكان قوامه 1300 رجل، على ظهر ثلاث عشرة سفينةً، واندفعوا عنها إِلى الإسبان، نزل حسن آغا وجيشه إِلى البرِّ، فاحتلَّ البلدة، وتمكَّن منها، واستحوذ على ما فيها من خيراتٍ، وأرزاق، وغنائم للمسلمين، وتوغل في جهات السَّاحل الإسباني الجنوبي، وغنم ماوقع تحت يده من أموال، ومتاع الإسبان، ويختار من بينهم جماعات من الأسرى والسَّبايا يسوقهم للبيع في المدن المغربيَّة الشَّماليَّة خاصَّة تطوان، ثمَّ يعود للميدان، وعندما أراد الرُّجوع إِلى الجزائر اعترضت طريقه عمارة أسبانية كبيرة العدد، وقامت المعركة بين القوَّتين، وكانت عنيفةً قاسيةً، أسفرت عن غرق عدد من سفن الجانبين، ومع ذلك كانت خسائر الإسبان في هذه المعركة عظيمةً.

عزم شارل الخامس على القيام بحملةٍ عسكريَّةٍ تستهدف القضاء على حركة الجهاد الإِسلامي في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وقبل أن يشرع في تنفيذها كان هدوءٌ نسبيٌّ يسود القارة الأوربيَّة إِثر عقد هدنة نيس في محرم 945هـ/يونيو 1358م مع فرنسا، والَّتي كانت مدَّتها عشر سنوات، رسا شارل الخامس أمام مدينة الجزائر في يوم الثَّامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 948هـ الموافق الخامس عشر من شهر أكتوبر 1541م وعندما شاهده حسن آغا الطُّوشي؛ اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر، وكبار رجال الدَّولة، وحثَّهم على الجهاد، والدِّفاع عن الإِسلام، والوطن قائلاً لهم «... لقد وصل العدوُّ عليكم ليسبي أبناءكم، وبناتكم، فاستشهدوا في سبيل الدِّين الحنيف.. هذه الأراضي فتحت بقوَّة السَّيف، ويجب الحفاظ عليها، وبعون الله النَّصر حليفنا، نحن أهل الحقِّ...»، فدعا له المسلمون، وأيَّدوه في جهاد العدو، ثمَّ بدأ حسن آغا في إِعداد جيوشه، والاستعداد للمعركة.

من ناحيةٍ أخرى بدأ الإسبان في تحضير متاريسهم، وتعجَّب شارل الخامس لاستعدادات حسن آغا، وأراد أن يستهزئ به، فأمر كاتبه بإِعداد خطاب لحسن آغا، جاء فيه «... أنت تعرفني أنا سلطان.. كلُّ ملَّة المسيحيِّين تحت يدي، إِذا رغبت في مقابلتي؛ سلمني القلعة مباشرةً.. أنقذ نفسك من يدي، وإِلا؛ أمرت بإِنزال أحجار القلعة في البحار، ثمَّ لا أبقي عليك، ولا سيِّدك، ولا الأتراك، وأخرب كلَّ البلاد...»، وصل ذلك الخطاب إِلى حسن آغا، وأجاب عليه «... أنا خادم السُّلطان سليمان... تعال واستلم القلعة، ولكن لهذه البلاد عادةٌ: أنَّه إِذا جاءها العدو، لا يُعطى إِلا الموت».

وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرارٍ بفضل تدفُّق مقاتليهم من كلِّ مكانٍ بمجرد سماعهم بإِنزال القوَّات الإِسبانيَّة، وكان المجاهدون يستفيدون في توجيههم لضرباتهم من معرفتهم الدَّقيقة بالأرض، واستخدامهم لمميِّزاتها بشكلٍ رائعٍ، وسخَّر الله لجنود الإِسلام الأمطار، والرِّياح، والأمواج (وهبَّت ريحٌ عاصفةٌ استمرَّت عدَّة أيامٍ، واقتلعت خيام جنود الحملة، وارتطمت السُّفن بعضها ببعضٍ ممَّا أدى إِلى غرق كثيرٍ منها، وقذفت الأمواج الصَّاخبة ببعض السُّفن إِلى الشَّاطئ، وهجم عليها المدافعون المسلمون، واستولوا على أدواتها، وذخائرها، أمَّا الأمطار؛ فقد أفسدت مفعول البارود، وفي وسط هذه الكوارث حاول الإِمبراطور مهاجمة مدينة الجزائر، إِلا أنَّ كلَّ محاولاته باءت بالفشل).

وظهرت بطولات رائعة من القائد (الحاج البشير) الذي استطاع بجنوده أن يحصد رؤوس النصارى بشجاعةٍ فائقةٍ، وبسالةٍ نادرةٍ، وبطولةٍ رائعةٍ. لقد استطاعت القيادة العسكرية الجزائريَّة أن تستفيد من الوضع المحيط بالنَّصارى، ووجَّهت جنودها بطريقة متميِّزةٍ في الكرِّ والفرِّ، أفنت جزءاً كبيراً من الأعداء، واضطرَّ الإِمبراطور إِلى الانسحاب مع بقيَّة جنوده على ما تبقَّى لهم من سفنٍ، واتَّجه بأسطوله إِلى إِيطاليا بدلاً من إِسبانيا.

وكان من العوامل الَّتي ساعدت على إِلحاق هذه الهزيمة بالإِمبراطور القيادة الرَّشيدة، والتفاف الشَّعب الجزائري حولها، وتدفُّق رجال القبائل إِلى ساحة الوغى طلباً للشَّهادة في سبيل الله، ودفاعاً عن الإِسلام، والمسلمين، وقد شبَّه أهل الجزائر هذه الهزيمة بهزيمة أصحاب الفيل الَّتي ورد ذكرها في القرآن الكريم، فقالوا في رسالةٍ وجَّهوها إِلى السُّلطان سليمان: «إِنَّ الله سبحانه وتعالى عاقب شارل الخامس وجنوده بعقاب أصحاب الفيل، وجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم ريحاً عاصفاً، وموجاً قاصفاً، فجعلهم بسواحل البحر ما بين أسيرٍ وقتيل، ولا نجا منهم من الغرق إِلا قليل».

لقد بعث سكان الجزائر ـ سواءٌ كانوا أهل الإقليم الأصليِّين، أو مسلمي الأندلس الَّذين فرُّوا بدينهم إِلى الجزائر ـ برسالةٍ في الشَّهر التَّالي لهزيمة شارل الخامس إِلى السُّلطان سليمان، وقد أوضحت هذه الرِّسالة الأحوال المؤلمة، والمفجعة الَّتي تحيط بالمسلمين، وحدَّدت الرسالة مطلبين أساسيين:

إِرسال نجداتٍ عسكريَّةٍ «لنصرة الجزائر؛ لأنَّها سياجٌ لأهل الإِسلام، وعذابٌ وشغلٌ لأهل الكفر، والطُّغيان، وهي موسومةٌ باسمكم الشَّريف، وتحت إِيالة مقامكم المنيف، وقد أصبحت القلوب المنكسرة بها عزيزةً، والرَّعيَّة المختلفة بها مؤتلفةً أليفةً».
إِعادة خير الدِّين باشا إِلى منصبه السَّابق ـ بيلر بك الجزائر ـ «فهو المتمثِّل لأوامر مولانا، لأنَّه أحيا هذا الوطن، وأرعب قلوب الكفار، وخرَّب ديار المردة والفجَّار،..... وإِنَّه لهذا الوطن نعم ناصر، وجميع أهل الشِّرك منه خائفٌ، وحائر».

وصل خير الدين بربروسة إِلى مدينة الجزائر للإِسهام في الدِّفاع عنها بتوفيق الله للمسلمين؛ وسواعدهم قد قضت على أسطول الإسبان، فاكتفى بتفقُّد أمور البليربكيَّة، واطلع على سير الأمور فيها، ثمَّ انطلق بأسطوله نحو البلاد الإِسبانيَّة يذيقها العذاب الأليم، وأنعم السُّلطان سليمان على حسن آغا الطوشي برتبة الباشويَّة ؛ لدوره الفعَّال في النَّصر، وخلوِّ البحر المتوسط تقريباً من الأساطيل الإِسبانيَّة الَّتي كانت تضمِّد جراحها، وتحاول استرجاع قوَّتها، فانطلقت السُّفن العثمانيَّة نحو السواحل الإِسبانيَّة، والإِيطاليَّة، وتوالت هنالك الغزوات، وساد الرُّعب، والفزع تلك النَّواحي، الَّتي بقيت مفتوحةً في وجه العثمانيِّين يتوغَّلون داخلها، ويغنمون ما فيها، كما صارت الدُّول الأوربيَّة تعمل للعثمانيِّين حساباً، فاهتزَّ بذلك مركز الإِسبان في وهران، وغيرها من مناطق نفوذهم في الشَّمال الأفريقي.

يظهر من ذلك مدى اهتمام الدَّولة العثمانيَّة في تقديم المساعدة للقوى الإِسلاميَّة في المغرب ضدَّ المسيحيِّين المتواجدين فيها، وذلك؛ لأنَّ الدَّولة ترغب في تأمين ظهرها حتى يتسنَّى لها الهجوم، فرغبت الدَّولة هنا في مساعدة السَّعديِّين ؛ لينهوا التَّواجد البرتغالي في المراكز الجنوبيَّة من المغرب، ثمَّ ليعبروا للأندلس؛ لأنَّ المغرب يمثل أقرب نقطة للعبور.


مراجع البحث:

- د. علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (179: 182).
- أحمد توفيق مدني، حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا 1492 – 1792 ، الشركة الوطنية للنشر، الجزائر، ط2، 1984م ، ص ( 213 - 279 - 280).
- شوقي عطا الله الجمل، المغرب العربي الكبير، مكتبة الأنجلو المصريَّة، القاهرة، ط1، 1977م، ص (9).
- عبد الرَّحمن الجيلالي، تاريخ الجزائر العام، دار الثَّقافة بيروت، ط4، 1980م، (3/62، 63).
- د. عبد العزيز الشِّنَّاوي، الدَّولة العثمانيَّة، دولةٌ إِسلاميَّةٌ مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصريَّة، مطابع جامعة القاهرة، عام 1980م،  (2/919 - 920 - 921).
- محمد خير فارس، تاريخ الجزائر الحديث، دار الشُّروق، القاهرة، ط2، 1979م، ص (35 - 36).
- د. نبيل عبد الحي رضوان، جهود العثمانيِّين لإِنقاذ الأندلس في مطلع العصر الحديث، مكتبة الطَّالب الجامعي، الطَّبعة الأولى، 1408هـ - 1988م ، ص (326 - 328).

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس