محمود عثمان - الأناضول

شهدت تركيا يوم الأحد قبل الماضي استحقاقا انتخابيا، كان الأشد منافسة وصلت فيه نسبة المشاركة في التصويت 84.67%. 

دخل حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية المحلية هذه المرة بالتوافق مع حزب الحركة القومية ضمن ما أطلق عليه "تحالف الشعب /الجمهور". 

بينما اصطفت غالبية أحزاب المعارضة على الجهة المقابلة تحت مظلة "تحالف الأمة". 

بالنظر إلى النتائج المتقاربة التي حصل عليها كل تحالف، يصبح من الممكن القول بأن النظام الرئاسي الذي تم اعتماده مؤخرا، بدأ يعطي ثماره لجهة لملمة التشرذم والتشظي السياسي الذي تعاني منه تركيا وسببه النظام البرلماني. 

صحيح أن كل تحالف يضم تحت مظلته أحزابا منفصلة مستقلة بذاتها. لكن المعطيات السياسية سوف تضطر مستقبلا تلك الأحزاب المختلفة، وتدفعها نحو الانصهار في جسم سياسي واحد، ليصبح في تركيا حزبان رئيسيان وبضعة حركات سياسية هامشية، كما هي الحال في الولايات المتحدة وغيرها. 

في هذه الحالة يتحتم على الأشخاص الفاعلين الذين يبحثون عن دور سياسي الانضواء تحت راية أحد الحزبيين الرئيسيين، لا أن يذهبوا لجهة تأسيس أحزاب جديدة على حساب أحزاب قديمة، مما يزيد الساحة السياسية تأزما واستقطابا. 

** قراءة سريعة في نتائج الانتخابات 

كعادته، فقد وجه الناخب التركي رسائل واضحة للجميع، الرسالة الأولى للحكومة أنه لا يعتبرها ناجحة في بعض القضايا التي تمس حياته اليومية، على رأسها الركود الاقتصادي وغلاء الأسعار. 
والرسالة الثانية للحزب الحاكم، أنه غير راض عن أداء منظومته الحزبية التي ابتعد جزء معتبر منها عن الاهتمام بالشارع ومعاناة المواطنين، فبنى قسم من قيادات الحزب لأنفسهم أبراجا عاجية، وانشغلوا عن معاناة المواطنين بالاستفادة من نعم الحكم والسلطة. 

والرسالة الثالثة لحزب الشعب الجمهوري، حين منحه فرصة ثمينة للتصالح معه، والالتزام بوعوده وعرض مشاريعه البديلة. لكن الفرصة الممنوحة ليست شيكا مفتوحا على بياض، بل بنسبة حذرة مقيدة، تمكنه من الحركة والعمل بجد، دون أن تعطيه الصلاحية الكاملة من خلال نصر كاسح. 

على الرغم من نجاح حزب الشعب الجمهوري، وحصوله على نتائج قوية في المدن الرئيسية الكبيرة، إسطنبول وأنقرة وإزمير، إلا أن حزب العدالة والتنمية نجح هو الآخر في الحفاظ على الصدارة كأقوى حزب سياسي في تركيا للمرة الخامسة عشرة. 

كما واصل حزب الحركة القومية خطه البياني المتصاعد مستفيدا من تحالفه مع حزب العدالة والتنمية، وخصوصا بتبني الأخير استراتيجية " مسألة البقاء" التي تعزف على الوتر القومي، فكان المستفيد الأول من الحملة الانتخابية. 

أظهرت النتائج التي حصل عليها حزب الشعب الجمهوري صواب اختيار زعيمه كمال كليجدار أوغلو لمرشحيه، خصوصا في المدن الثلاث إسطنبول وأنقرة وإزمير، حيث فوت الفرصة على معارضيه داخل الحزب، وحال دون نشوء حراك جديد في أوساط المعارضة الداخلية للحزب، وهو ما كان متوقعًا في حال فشل الحزب في الانتخابات الحالية. 

أما حزب "إيي" بقيادة ميرال أكشنار، فقد خيب آمال أنصاره ومؤيديه، حيث لم يتمكن من النجاح في أية ولاية/ محافظة على الإطلاق. 

والأمر نفسه ينطبق على الحزب الديمقراطي اليساري، الذي ضم بعض شخصيات التيار اليساري المستاءة، أو تلك التي لم تجد لنفسها مكانا ضمن مرشي حزب الشعب الجمهوري، مثل "مصطفى صاري جول" وغيره. 

أما حزب الشعوب الديمقراطي فخسر الكثير من الأصوات لصالح حزب العدالة والتنمية، في مناطق جنوب شرق تركيا التي كانت تعد معقلا له، حيث نجح الأخير في كسب محافظات هامة جدا في تلك المنطقة، مثل "شرناق" و"بتليس" و"آغري" وغيرها. 

مرة أخرى صوت أهالي المنطقتين الشرقية والجنوبية الشرقية، ذات الأغلبية الكردية المتدينة المحافظة، لصالح حزب العدالة والتنمية، لسببين أساسيين، الأول هو زوال خطر حزب بي كا كا الإرهابي، فقد استتب الأمن هناك ولم يعد المواطن يخشى سطوة الإرهابيين. 

والعامل الثاني هو الخدمات التي قدمها رؤساء البلديات الذين تم تعيينهم من طرف الحكومة قيمين مكان الرؤساء الذين ينتمون لحزب الشعوب الديمقراطي، بعد عزل الأخيرين بسبب نشاطاتهم وفعالياتهم الداعمة لحزب بي كا كا الإرهابي . فقد قدم الرؤساء القيمين، الذين عملوا بجد وإخلاص وكفاءة، خدمات كبيرة لمسها المواطن في حياته اليومية، فكانت المرة الأولى التي رأى فيها مواطنو تلك المناطق الوجه الجميل للدولة، من خلال تلك الخدمات. 

فقد كانت البلديات برئاسة أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي عبارة عن خلايا حزبية منهمكة في نشاطاتهم الايدلوجية، من حفر الخنادق الى تقديم الدعم اللوجستي لحزب بي كا كا، أما المواطن المسكين فلم يكن له مكان في سلم أولوياتهم واهتماماتهم. 

** انعكاس الخطاب السياسي والحملات الانتخابية على نتائج صناديق الاقتراع 

بنى حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، ومعه شريكه في تحالف الشعب /الجمهور، حملته الانتخابية على استراتيجية " مسألة البقاء" التي تقول بأن هناك تهديد حقيقي يستهدف تركيا أرضا وشعبا، وأن الأخطار تحيط بتركيا من جميع الجوانب، وأن خطر الارهاب الانفصالي، الذي يقوده حزب بي كا كا الإرهابي، وداعمه الكيان الموازي، يأتي في مقدمة التهديدات وأكثرها خطرا، وأن أحزاب المعارضة لها صلات مباشرة وغير مباشرة بمحوري الشر هذين. 

تارة من خلال حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبره الواجهة السياسية لحزب بي كا كا الإرهابي، وتارة من خلال شخصيات أخرى خارج تركيا، وأن حزب الشعب الجمهوري قام بعقد تحالف غير معلن مع حزب الشعوب الديمقراطي، وبالتالي فإن الأحزاب التي تشكل تكتل المعارضة المتمثل بتحالف الأمة، تعرضت لاختراقات من الكيان الموازي وتنظيم بي كا كا الإرهابيين، برز ذلك في ظهور مرشحين على قوائم المعارضة ممن لهم سوابق في ممارسة نشاطات إرهابية. 

فأحزاب المعارضة بحسب الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، وخصوصا حزب الشعب الجمهوري، إما أن تكون غافلة عن خطر الإرهاب وهذا يفقدها صلاحية وأهلية قيادة البلاد، أو أنها متعمدة ومتماهية مع قوى سياسية لها علاقة مباشرة مع مؤسسات متهمة ومصنفة رسميا بأنها إرهابية. 

لا شك أن مسألة البقاء هامة وحساسة لدى جميع المواطنين، إذ من غير المعقول أن يفرط أحد في وطنه. لكنها في الوقت نفسه ذات بعدين، أحدهما خارجي والآخر ايدلوجي يلامس الحس القومي، بينما الانتخابات البلدية شأن داخلي خدمي. وبالتالي سوف يكون كلا البعدين في المرتبة الثانية من اهتمام المواطن العادي. أضف إلى ذلك أن البعد القومي مركزه حزب الحركة القومي وليس حزب العدالة والتنمية، لذلك كان المستفيد الأول من مسألة البقاء التي احتضنها بكلتا يديه وعض عليها بالنواجذ. 

طيلة فترة الحملة الانتخابية اعتمد الرئيس أردوغان خطابا سياسيا هجوميا عالي الوتيرة، كانت " مسألة البقاء" محوره الأساسي. هذا الخطاب الهجومي التصعيدي الذي اعتمده الرئيس أردوغان طوال حملته الانتخابية، وتابعه فيه شريكه في تحالف الجمهور دولت بهجلي، جعل حلف السلطة في موقع الهجوم والمعارضة في موقع الدفاع، والسلطة في موقف المصعد والمعارضة في موقف المهدئ، وهذا عكس المعتاد بالنسبة للناخب العادي الذي يميل عموما للتهدئة لا للتصعيد. 

ربما هي المرة الأولى التي يشهد فيها الميدان الانتخابي مثل هذه الحالة من التموضع. مما ترك في الأذهان مجموعة من الأسئلة، حول مدى نجاعة هذه الاستراتيجية، وانعكاس تأثيرها على نتائج صناديق الاقتراع.. هل كانت بالفعل ناجحة مجدية ؟ .. هل أدت إلى زيادة نسبة مؤيدي الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية ؟.. أم نفعت شريكه حزب الحركة القومي ذا الخطاب القومي الأيدلوجي ؟.. أم نفعتهما الاثنين معا ؟.. أم كان لها تأثير سلبي معاكس ساهم في رص صفوف المعارضة ؟. 

من المبكر لأوانه إصدار حكم نهائي حول نجاح الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، الذي شكلت "مسألة البقاء" عموده ومحوره الأساسي. لكن يمكننا القول، من خلال انعكاساته على نتائج الانتخابات، أن الخطاب السياسي الذي اعتمده تحالف الشعب /الجمهور، أدى إلى تكاتف أطراف المعارضة وتماسكها داخليا بنسيان خلافاتها البينية، وخارجيا باصطفافها خلف حزب الشعب الجمهوري. 

عموما لم تأت نتائج الانتخابات المحلية في تركيا بمفاجآت كبيرة، وتبدو الأطراف السياسية راضية عن نتائجها، حيث الجميع يدعي الفوز. المهم الآن هو النظر إلى الأعوام الأربعة والنصف المقبلة، التي ستمر دون انتخابات واستقطاب سياسي، باستغلالها جيدا في مشاريع نهضوية تنموية تعيد ألق أيام الصعود. 

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس