د. الزبير خلف الله - دراسة خاصة بترك برس

١- العمق الاستراتيجي والحضاري لتركيا في السياق التاريخي:

أ- العمق الاستراتيجي:

هناك المئات من الدراسات والابحاث التي اهتمت بتركيا، وتناولت الأهمية الاستراتيجية التي يحتلها هذا البلد الذي يقع في قلب العالم، ويجمع بين كل الممرات البرية والبحرية، الى درجة أن نابليون بونبارت اعتبر أن مركز العالم هي استانبول، هذه المدينة التي تختزل في داخلها كل مظاهر الصراع بين كل القوى عبر التاريخ، و تشكل المحور الاستراتيجي لكل القوى الدولية والتوازنات الإقليمية والعالمية. تركيا بعمقها الاستراتيجي كانت و لاتزال محط أطماع كل الدول الراغبة في السيطرة على العالم من خلالها.

لقد لعبت تركيا عبر التاريخ دورا استراتيجيا في التأثير على السياسة الدولية وفي طبيعة التوازنات الاقليمية والدولية . لذلك كانت خصوصا في عهد االدولة العثمانية أهم محور استراتيجي استطاع من خلال موقعه الجغرافي أن يتمدد في أعماق القارة الآسيوية والإفريقية والأوروبية، ويهزم عدة قوى دولية كبرى .

 لقد أدرك العثمانيون منذ أن كانوا إمارة صغيرة أهمية هذه المنطقة من الناحية الاستراتيجية، وأنها تمثل أهم مركز استراتجي يمكن أن يتحكم في كل دول العالم، وكانت هذه القناعة راسخة في عقول وفي وجدان كل السلاطين العثمانيين. وما كان إصرار محمد الفاتح على فتح مدينة القسطنطينية إلا نابعا من قناعة أن السيطرة على هذه البقعة من العالم تعني السيطرة على الخارطة الجغرافية والاستراتيجية لكل الصراعات في العالم .

يمكننا القول إن العثمانيين كانوا يملكون تفكيرا استراتيجيا عميقا أهلهم إلى بناء دولة كبيرة سيطرت على أهم المناطق المهمة في العالم، وتحكمت في كل التوازنات الدولية، ولعبت دورا أساسيا في صياغة نظام عالمي كانت تركيا والدولة العثمانية هي مركزه الاستراتيجي والمتحكم في كل سياساته.

 وقد استفادت أوروبا كثيرا من الاستراتيجة العثمانية، وأسست مراكز دراسات اعتنت بشكل خاص بالتفكير الاستراتيحي للدولة العثمانية وفهم الياته وأسسه. وعلى عكس الدراسات والأبحاث التي تنسب ظهور  التفكير الاستراتيجي الى الأوروبيين فاننا نجزم بأن مدرسة التفكير الاستراتيجي ظهرت في منطقة الأناظول وتطورت مع الدولة العثمانية. وكان السلاطين العثمانيون من أمثال الغازي عثمان ومحمد الفاتح والسلطان ياووز والسلطان سليمان القانوني وصولا الى السلطان عبد الحميد الثاني كانوا هم رواد هذه المدرسة الاستراتيجية التي نشأت وترعرعت بشكل عملي في واقع يكتسي أهمية استراتجية كبيرة للخارطة الجيوستراتجية والجيوسياسية في العالم.

من جهة أخرى استطاع الغرب الذي طور تفكيره الاستراتيجي أن يهزم الدولة العثمانية وينهيها من خلال خلق ما يسمى بالاستراتيجية المضادة التي نجحت في تقسيم الدولة العثمانية واضعاف الفعل الاستراتيجي لتركيا، وتحويلها الى ممر وكوريدور دولي تستخدمه القوى الاستعمارية للهيمنة على العالم الاسلامي. وتجلى هذا الأمر مع الانقلاب الذي قادته جماعة الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد الثاني صاحب مشروع الجامعة الاسلامية.

كما تجلت هذه الاسترتيجية المضادة أكثر مع ظهور الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك والتي كانت بمثابة الاعلان عن موت تركيا استراتيجيا وتحويلها الى أداة يستخدمه الاستعمار للهيمنة على المنطقة. لقد ساهم قادة الجمهورية الكمالية في إضعاف تركيا استراتيجيا وإفقادها أي دور ريادي في السياسة الدولية حتى أصبحت تركيا منذ 1952 هي القاعدة العسكرية التي تحاك فيها كل المؤامرات والاستراتيجيات الغربية للتحكم في العالم الاسلامي، واستسلمت تركيا للقوى الاستعمارية.

 وساهمت كل المحاولات الانقلابية في تركيا بقيادة الجيش في تهميش دور تركيا استراتيجيا رغم أن هناك محاولات من بعض القادة السياسيين من أمثال عدنان مندريس، وطورغت أوزال، ونجم الدين اربكان الذين أرادوا تفعيل دور تركيا استراتيجيا لكنهم فشلوا في ذلك لأن حجم التوازنات الاقليمية والدولية كانت أكثر تعقيدا واكثر تشابكا ، وكذلك لغياب إرادة سياسية حقيقية تؤمن بإعادة صياغة سياسة استراتجية جديدة لتركيا في المنطقة وفي العالم.

ب- العمق الحضاري:

لقد زامن هذا العمق الاستراتيجي لتركيا في السياق التاريخي عمق اخر مهم أهملته أغلب الدراسات الحضارية، ولم توله اهتماما كبيرا وهو العمق الحضاري لتركيا في منطقة الأناظول وفي العالم منذ قرون عديدة .

وقد عرف هذا العمق الحضاري ذروته مع بروز الدولة العثمانية التي ورثت تراكمات حضارية قديمة في منطقة الأناظول، وعرفت كيف توظف هذه التراكمات الحضارية التي تعود الى فترة الفتوحات الاسلامية  فالدولة الأموية والعباسية مرورا الى الدولة السلجوقية، ثم الدولة البيزنطية التي قامت على أنقاضها الدولة العثمانية.

 ولم تعمد الدولة العثمانية الى إلغاء هذا المزيج الحضاري التراكمي، بل نجحت في إعادة تشكيله وترسيخه داخل هوية الدولة وهوية المجتمع التركي العثماني. وقد كان الإسلام هو الحاضن لمختلف هذه الأمزجة الحضارية وصهرها في مسار واحد دون أن يتم إقصاء أي طرف أو إلغاء أي هوية، فكانت الحضارة العثمانية ثرية بجملة من الثقافات وغنية بمختلف الفنون والعلوم والتصورات.

ووجدت كل الشعوب والفرق والإثنيات والأديان المنضوية تحت حكم الدولة العثمانية الاسلامية نفسها حرة تمارس ثقافتها بكل حرية، وتعمل على تقديم إضافات مهمة جدا للحضارة العثمانية التي ترتكز في أساسها على الهوية الاسلامية. هذا التنوع الثقافي والاثني والديني شكل لدى تركيا عمقا حضاريا كبيرا، وتحولت الى مركز حضاري عالمي يشد اليه الرحال كل المبدعين والمفكرين والعلماء والتجار والرحالة والسياسيين ورجالات الاصلاح.

لقد نجح العثمانيون والأتراك في صياغة نموذج حضاري عريق يتسم بالتسامح وبالإبداع وبالحرية والجمالية. وأكبر دليل على ذلك هذه الجمالية الحضارية التي نلمحها ونراها في مساجد استانبول وكل اثارها التاريخية المختلفة تحكي قصة حضارة ولدت من رحم حضارات ماتت في سياقها الزمني لكنها ظلت روحها منبعثة مع الحضارة العثمانية، وتؤكد للعالم أجمع أن الحضارة الاسلامية لم تبن على محو حضارات أخرى، بل حافظت عليها وجعلتها جزءا منها، فكانت النتيجة هي ظهور نموذج حضاري عالمي إنساني يوحد البشرية، ويؤصل لفلسفة عميقة تعد ركنا أساسيا من أركان الاسلام والحضارة الاسلامية، وهي فلسفة التعايش والتسامح التي لن تجدها في أي حضارة أخرى.

إنه التعايش بمفهومه الواسع والتسامح في بعده الديني والإنساني. تعايش الأفكار والأعراق والأديان والمذاهب والشعوب المختلفة ضمن سياق حضاري وسياسي يعترف بخصوصية كل واحد من هذه التشكيلات المختلفة، بل يسعى الى تشريكها نحو المساهمة في الفعل الحضاري العالمي.

لقد أفرز هذا التنوع الثقافي والعرقي والديني داخل الدولة العثمانية نموذجا حضاريا عالميا ساهم في تشكيل عمق حضاري لتركيا بالتزامن مع العمق الاستراتيجي. وأصبحت تركيا لعصور طويلة مركز العالم حضاريا واستراتيجيا.

ونجح الأتراك في تحمل مسؤوليتهم الحضارية العالمية. وكان لهم السبق في الحفاظ على موروث الثقافات المندثرة ضمن سياق فلسفة التعايش والتسامح التي استمرت حتى فترة 1909 تاريخ الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وانهاء الدورة الحضارية العثمانية فعليا. واستبدلت ثقافة التعايش والتسامح بثقافة التتريك والطورانية، وبدأت عملية التصفية الثقافية والاستهداف لهوية الشعب التركي المسلم، كما تم فصل تركيا تماما عن عمقها الحضاري العربي والاسلامي، وتحولت تركيا الى يتيمة متشردة  تبحث عن فتات من بقايا وفضلات الحضارة الغربية التي تأسست على أساس فلسفة تصادم الحضارات والبقاء للاقوى.

وقد زاد يتم تركيا حضاريا مع إلغاء الخلافة الاسلامية، واستبدالها بالجمهورية الكمالية، والقطع تماما مع موروث تركيا الحضاري الاسلامي القائم على التعايش والتسامح، وارتمت تركيا في أحضان أعدائها، وفقدت كل مقومات عمقها الحضاري بعد أن فقدت مقومات عمقها الاستراتيجي.

ولم يكن الانقلاب التاريخي الذي قام به مصطفى كمال أتاتورك سنة 1928 المتمثل في تغيير حروف اللغة العثمانية  من الحروف العربية الى الحروف اللاتينية، وتغيير الأذان بالتركية، ومنع كل الفعاليات الاسلامية والدينية اإا مظهرا من مظاهر استهداف العمق الحضاري لتركيا التي ظلت منفصلة عن العالم الاسلامي وفاقدة لكل هوية حضارية على مدار أكثر من قرن كامل من الزمان.

ج- الغرب ومستويات استهداف تركيا استراتيجيا وحضاريا:

نجحت استراتيجية الغرب إذن في ضرب العمق الاستراتيجي والحضاري لتركيا التي ظلت لأكثر من ستة قرون تمثل مركز الحضارة الاسلامية، وتتحكم في النظام الاقليمي والدولي. ولم تنجح الاستراتيجية الغربية في استهداف تركيا استراتيحيا وحضاريا الا بواسطة التآمر الداخلي مع جهات تعمل لصالح أجندة استعمارية حاقدة، خططت بكل دقة في ضرب تركيا قلب الحضارة الاسلامية ومركز محورها الاستراتيجي . .

ورغم أن محاولات الاستهداف للعمق الاستراتيجي والحضاري كان قديما إلا أنه بدأ التفكير فيه بجدية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر في مؤتمر برلين الذي عقد بين ألمانيا وفرنسا وانجلترا سنة 1878م، وتم الاتفاق بشكل عملي على إنهاء أي دور استراتيجي وحضاري لتركيا والدولة العثمانية.

وقد تمت عملية الاستهداف هذه على مستويين كبيرين:

المستوى الداخلي تكفلت به حركات سياسية تابعة للغرب وفي مقدمتها حركة تركيا الفتاة أو جماعة الاتحاد والترقي التي نجحت سنة 1909 في الانقلاب على عبد الحميد الثاني صاحب مشروع الجامعة الاسلامية الداعي الى توحيد الأمة الاسلامية، وإعادة بعث الحياة فيها من جديد سياسيا واستراتيجيا وحضاريا. وقد استمرت عملية الاستهداف الداخلي الحاسمة عبر انقلاب اتاتورك على مركز الخلافة الاسلامية والغائها واستبدالها بالجمهورية الكمالية، وتبنت النظام العلماني والغيت كل المظاهر التي تعكس هوية تركيا الاسلامية التي دخلت منذ 1923 الى نفق مظلم عزل تركيا والشعب التركي عن العالم العربي والاسلامي في محاولة منه لتغريب تركيا، وسلخها حضاريا، وجعلها مممرا وحديقة خلفية يستخدمها الغرب لمواجهة الخطر السوفياتي في اسيا.

ولم تتوقف عملية الاستهداف على المستوى الداخلي من قبل عملاء الغرب الى يومنا هذا حيث شهدت تركيا انتكاسات سياسية كبيرة بسبب الانقلابات الداخلية التي حصلت في أربع محطات عصفت بأي مشروع وطني ديمقراطي حضاري تحرري من أجل إحباط أي محاولة لنهوض تركيا من جديد، وضرب أي إرادة سياسية لتفعيل دورها استراتيجيا وحضاريا.

أما المستوى الثاني من الاستهداف الحضاري والاستراتيجي لتركيا فقد كان خارجيا، وتكفلت بلعب دوره القوى الاستعمارية التي كانت طرفا فاعلا في إحداث ثورات في عدة مناطق من الدولة العثمانية ،وحرضتها على الاستقلال والانفصال. ونجحت هذه القوى الاستعمارية خصوصا فرنسا وانجلترا من احتلال مناطق شاسعة من اراضي الدولة العثمانية، وجاءت اتفاقية سايكس بيكو لتعيد صياغة خارطة جيوسياسية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي، وخرجت كل هذه المناطق من تركيا، وأصبحت خاضعة لفرنسا وانجلترا.

كما كانت اتفاقية لوزان سنة 1923 والتي ألجمت تركيا وقيدتها عن التحرك خارج حدودها المرسومة لها، وحرمتها من حق التنقيب على النفط في الأراضي التركية على مدار مئة عام، ومنعتها من أخذ رسوم على السفن التي تعبر مضيق البوسفور والدردنيل، كما فرضت عليها شروطا أخرى مجحفة قبلت بها تركيا مكرهة. ونتج عن هذا الاستهداف الخارجي تحجيم دور تركيا داخل الساحة الدولية واضعاف قدراتها الاستراتيجية والحضارية وتحويلها الى دولة مسلوبة الارادة.

استمر هذا الاستهداف الخارجي متزامنا مع الاستهداف الداخلي عبر لوبيات وحركات سياسية ونخب تتبنى خيار التبعية الغربية، وانفصلت تركيا بشكل يكاد يكون كليا عن القضايا العربية والاسلامية، وتم وأد دورها الاستراتيجي والحضاري لمدة أكثر من قرن من الزمان. بل تحولت تركيا الى الدولة التي يتم من خلالها ضرب العالم العربي والاسلامي، حيث كانت تركيا في حرب العراق الأولى سنة 1991 القاعدة العسكرية التي تنطلق منها الطائرات الأمريكية والتحالف الدولي لضرب العراق وشعبه وتهديم كل ثرواته.

وخلاصة القول فإن عملية الاستهداف الداخلي والخارجي نجحت بامتياز على مدار عمر الجمهورية الكمالية، وذلك لوجود انسجام وتوافق بين القوى الحاكمة الداخلية وبين الأطماع الغربية التي لا تريد لتركيا أن تعود لدورها الاستراتيجي والحضاري . كما سهل هذا الاستهداف الداخلي والخارجي غياب مشروع وطني حقيقي يعيد لتركيا حيويتها وديناميتها الحضارية. واستمرت هذه الوضعية السلبية للدور التركي الى حدود سنة 2002 حيث سيظهر عامل جديد داخل الساحة التركية، وسيقلب موازين القوى ويرسم خارطة جديدة لتركيا جديدة بدأت ملامحها تبرز على مدار ثلاثة عشر عاما، ويتمثل هذا العامل الجديد في فوز حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان الذي نجح بشكل قياسي وخلال مدة وجيزة في إحداث تغيير جذري في السياسة التركية الداخلية والخارجية، وتحولت تركيا الى رقم صعب في المعادلة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وفي الساحة الدولية.

2-ملامح العمق الاستراتيجي والحضاري لتركيا في السياق الزمني الراهن:

أ- احتضار الجمهورية التركية والمنعطف الجديد:

تعد سنة 2002 منعطفا مهما في تاريخ تركيا الحديثة التي كانت وصلت فيها الدولة الى حافة الانهيار والافلاس وتراكم الديون الخارجية لدى صندق النقد الدولي، ودخلت البلاد في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة جراء فشل الأحزاب السياسية في إيجاد  مخرج للوضع المتأزم في تركيا.

وقد بدأت مظاهر الأزمة في تركيا الجمهورية تشتد أكثر مع تعطل المسار الديمقراطي في تركيا بسبب انقلاب 28 شباط 1997 الذي أجبر فيه العسكر الزعيم الاسلامي نجم الدين أربكان رئيس الحكومة الائتلافية آنذاك على تقديم استقالة حكومته، مما اضطر نجم الدين اربكان الى تقديم الاستقالة خوفا من وقوع انقلاب عسكري مباشر وحتى لا تتكرر مأساة الانقلابات الماضية 1960،1970، 1980 التي دفعت فيها تركيا والتجربة الديمقراطية والشعب التركي ثمنا باهضا، وافقد تركيا أي قوة استراتيجية او حضارية.

هذا الوضع الصعب الذي دخلت فيه تركيا المتهالكة اقتصاديا وسياسيا أعطى الفرصة لعدة قوى داخلية من مافيا وبارونات المال وشبكات الفساد للهيمنة على كل المفاصل الأساسية للدولة بل التحكم في الوضع السياسي القائم في تلك الفترة.

أما على المستوى الخارجي فقد أصبحت تركيا مرتهنة لدى صندوق النقد الدولي والى القوى الغربية التي باتت توظف تركيا في تطبيق استراتيجياتها الاستعمارية للتدخل في منطقة الشرق الأوسط، وذلك باثقال كاهل تركيا المأزومة بالديون التي وصلت سنة 2002 الى 23 مليار دولار أمريكي.

ودخلت الجمهورية الكمالية في مرحلة الموت السريري استراتيجيا واقتصاديا وسياسيا وحضاري، ويطلق على هذه المرحلة مرحلة احتضار الجمهورية التركية، وفشل العلمانيين في إنقاذ ماتبقى من جمهوريتهم الكمالية التي ولدت بالأساس ضعيفة ومترهلة وفاقدة لمقومات العمق الاستراتيجي والحضاري.

في ظل هذه الأزمة العميقة التي تشهدها تركيا الجمهورية وقعت انتخابات برلمانية سنة 2002 وكانت النتيجة صادمة لكل القوى الداخلية والخارجية ، فقد فاز حزب العدالة والتنمية المحافظ الذي أسسه رجب طيب أردوغان مع عبد الله غل قبل سنة من إجراء هذه الانتخابات.

رجب أردوغان وعبد الله غل اللذان كانا عنصرين أساسيين في حزب الرفاه بقيادة المرحوم نجم الدين اربكان انسحبا بعد ذلك من حزب الفضيلة الذي تأسس بعد استقالة حكومة اربكان وغلق حزب الرفاه، و كان تأسيس حزب العدالة والتنمية بعد خروج أردوغان من السجن يعد تصورا جديدا واقعيا للتعامل مع ملفات جد متشابكة داخل تركيا وخارجها.

وما إن تم الاعلان عن نتائج فوز العدالة والتنمية إلا و بدأت كل القوى الداخلية المحسوبة على العلمانيين واليساريين ووسائلهم الاعلامية بتشويه أردوغان وحزبه متهمين إياه بالرجعية والماضوية. وقد سمح عدد الأصوات التي أحرز عليها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات بتشكيل حكومة بمفرده، الأمر الذي سهل عليه قيادة البلاد وفق تصوره الحزبي، ودخلت تركيا منذ عام 2002 في مرحلة جديدة، وتحولت خلال ثلاثة عشرة سنة الى نموذج عالمي بسبب نجاح حزب العدالة والتنمية في إخراج تركيا من الأزمة التي كانت تتخبط فيها، وإعادتها قوية الى الساحة الدولية من جديد.

ب- حزب العدالة والتنمية والتحديات الاستراتيجية والحضارية لتركيا:

نريد أن نشير هنا الى كون تجربة حزب العدالة والتنمية لم تولد من فراغ، وإنما سبقتها محاولات أخرى جادة سعت نحو إعادة تركيا الى عمقها الاستراتيجي والحضاري. ورغم أن هذه التجارب لم تحقق نتائجها المرجوة إلا أنها شكلت رصيدا مهما استفاد منه حزب العدالة والتنمية كثيرا في صياغة رؤيته السياسية والاستراتيحية والحضارية.

من أهم رواد هذه التجارب على مستوى الفعل السياسي نجد في بداية الخمسينات تجربة رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي أعاد الأذان الى اللغة العربية بعد أن منعه اتاتورك واستبدله باللغة التركية لمدة 18 سنة، كما قام مندريس بفتح معاهد الأئمة والخطباء التي درس فيها اردوغان، اضافة الى كون حكومة مندريس انفتحت عن العالم العربي ودعمت الثورة الجزائرية بالسلاح، الا ان تجربة مندريس على الرغم من انها حاولت اعادة تركيا الى عمقها الحضاري لكنها باءت بالفشل جراء التحديات الداخلية الكبرى وتحكم المؤسسة العسكرية التي أعدمت مندريس بعد الانقلاب الذي وقع سنة 1960.

وكذلك نجد في النصف الثاني من الثمانينات تجربة تورغت أوزال الذي يعد مهندس النهضة الاقتصادية في تركيا و أول من فتح تركيا على العالم خصوصا على المستوى الاقتصادي، حيث عرفت تركيا في عهده انطلاقة اقتصادية ودخول الاستثمار الأجنبي إليها، وبدأت تتشكل بنية اقتصادية هائلة للبلد الا أن هذه التجربة الاوزالية تراجعت أيضا، وأصيبت بانتكاسة وذلك بوفاة تورغت أوزال في ظروف يكتنفها كثير من الغموض والشكوك، إذ تؤكد العديد من التقارير أنه مات مقتولا بالسم بعد أن فشلوا في قتله بالرصاص خلال محاولة الاغتيال التي دبرت ضده أثناء تجمع جماهيري كبير.

أما التجربة الثالثة فهي تجربة الزعيم الاسلامي المرحوم نجم الدين أربكان الذي يعد أب التيار الاسلامي في تركيا، حيث دخل هذا الرجل المعترك السياسي بداية من الستينات بعد عودته من المانيا، وقد استطاع أن يصل الى نائب رئيس للحكومة في السبعينيات. كان هو أول من أمر بتدخل الجيش التركي في شمال جزيرة قبرص حين أرادت اليونان احتلالها كاملة. تجربة أربكان استمرت ليصبح في سنة ١٩٩٥ رئيسا لحكومة ائتلافية سعى من خلالها الى إزالة اليتم الحضاري والاستراتيجي عن تركيا وإرجاعها الى الحاضنة العربية و الاسلامية، وشكل مع ثمان دول عربية واسلامية مجموعة مايسمى الكمنولث الاسلامي  ، وهي مجموعة اقتصادية اسلامية أراد لها أربكان أن تكون قوة اقتصادية اسلامية. واقترح فكرة إيجاد عملة اسلامية موحدة لها وهي الدينار الذهبي الاسلامي. وقد لاقى مشروع الكمونولث الاسلامي معارضة شديدة من قبل الغرب، ورأوا فيه تحديا مباشرا له ولمصالحه الاقتصادية في المنطقة العربية والاسلامية, كما رأت فيه الأحزاب العلمانية الداخلية ضربا للعلمانية و للجمهورية الكمالية. فتوحدت القوى الداخلية والخارجية ضد أربكان، ووقع انقلاب ٢٨ شباط ١٩٩٧ الأبيض، وأجبر أربكان على الاستقالة، وتم منعه من السياسة لأكثر من خمس سنوات، وتم وأد مشروع الكومنولث الاسلامي نهائيا.

ذكرنا هذه التجارب الثلاث السابقة لكي نؤكد أن تركيا في عهد الجمهورية الكمالية ورغم انفصالها تماما عن عمقها الاسلامي، وهيمنة ايديولوجية متطرفة تعادي كل ما يتصل بالاسلام وبتاريخ تركيا الحضاري العثماني، وتحالفها استراتيجيا مع قوى غربية لا ترغب في نهوض تركيا من جديد، الا انه في ظل هذه الظروف وجدت محاولات إصلاحية مهمة تعرضت في مجملها الى تحديات داخلية وخارجية كبيرة أعاق نضجها وأفشلتها.

 وكان أردوغان وعبد الله غل مؤسسا حزب العدالة والتنمية من الذين عاصروا على الأقل تجربة تورغت أوزال ونجم الدين أربكان، وعايشا حجم التحديات الكبرى التي تعرضت لها هاتان التجربتان اللتان نجحتا على الأقل من ناحية التصور والأهداف لكنهما فشلتا من حيث المنهج والآلية. ورغم إيمان أردوغان بمجموع اهداف التجربة الأربكانية الا انه اختلف مع استاذه أربكان في المنهج والالية والخطاب، وانسحب من حزب الفضيلة ليشكل مع رفيقه عبد الله غل حزب العدالة والتنمية الذي بني في تصوراته والياته على انقاض التجارب السابقة.

لقد قرأ حزب العدالة والتنمية الواقع السياسي التركي جيدا، وفككه وأعاد تركيبه من جديد في جملة من التصورات والأهداف والأولويات والاليات الجديدة التي سينطلق بها الحزب لادارة تركيا الغارقة سنة ٢٠٠٢ في أزمة عميقة تهدد كيانها الداخلي والخارجي. ويبدو أن أردوغان استفاد بشكل جلي من تجربة المرحوم مندريس في مسألة الاصلاحات الديمقراطية، ومن تجربة تورغت أوزال في الاصلاحات الإقتصادية ومن تجربة أربكان خصوصا في مسألة عودة تركيا إلى عمقها الحضاري الإسلامي.

 وقد قدم حزب العدالة والتنمية نفسه وزعيمه أردوغان على انه حزب علماني وليس إسلاميا، وانتهج خطابا مغايرا تماما عن خطاب المرحوم أربكان، الأمر الذي طمأن الغرب نوعا ما, كما أنه قدم تركيا على اأها دولة تنتمي الى العمق الاوروبي. ونجح في توظيف مسألة انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي، وحقق من خلالها جملة من الاصلاحيات الجوهرية، أهمها إخراج تركيا من الأزمة الأقتصادية، وفتحها على أسواق اقتصادية عالمية جديدة مثل السوق العربية والاسلامية والاسوية، وجلب استثمارات اجنبية كبيرة عادت بالنفع على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تركيا، وقللت من نسبة البطالة، وتحقيق نمو اقتصادي هائل. كما تم تحييد المؤسسة العسكرية عن القرار السياسي، وتصفية الدولة العميقة، والقضاء على بارونات المال والفساد والمافيا التي أنهكت تركيا وأفقدتها كل مقومات النهوض والإصلاح.

لقد انطلق حزب العدالة والتنمية من أولويات واقعية تحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تركيا، وتساعدها على العودة مجددا الى عمقها الاستراتيجي والحضاري . وفعلا نجحت تركيا خلال الثلاثة عشرة سنة الماضية في تحقيق انجازات هائلة لم تحقق خلال ثمانين عاما من تاريخ الجمهورية. وأصبحت ثاني أكبر دولة عالمية من حيث النمو الاقتصادي بعد الصين. وانتقلت من رتبة ١١٦ عالميا الى الرتبة ١٢, وتمكنت خلال هذه الفترة من دفع كل ديونها لدى صندوق النقدي الدولي, بل انتقلت تركيا من دولة مديونة الى دولة مانحة أقرضت خمسة مليارات دولار الى صندوق النقد الدولي السيف الذي كان مسلطا عليها ولازال مسلطا على رقاب بقية الدول النامية و الضعيفة.

 ورغم التحديات الصعبة داخليا وخارجيا فقد تحولت تجربة حزب العدالة والتنمية الذي فاز في الانتخابات البرلمانية بأغلبية ساحقة على مدار ثلاث مرات الى نموذج عالمي ناجح، أبهر كل العاملين في العمل السياسي من اسلاميين وعلمانيين، وحول تركيا الى قبلة تتدفق عليها الاستثمارات الأجنبية، خصوصا الاستثمارات العربية والإسلامية التي عرفت حكومة أردوغان كيف تنفتح عليها، وتستفيد منها بشكل كبير في مشروعها التنموي الاستراتيجي والحضاري.

لقد أزعج النجاح التركي عدة قوى دولية خصوصا الاوروبية التي حاولت أن تعرقل انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي، وانتقلت الى توتير الوضع السياسي في تركيا. وكانت أحداث غيزي بارك هي مؤشر كبير على انزعاج القوى الاوروبية وبعض الدول العربية من تركيا التي أعلنت على القيام بجملة من المشاريع العملاقة مثل المطار الثالث الذي سيكون أكبر مطار في العالم، وكذلك مشروع قناة استانبول الذي سيجعل تركيا متنفذة بشكل كبير على كل السفن التي تعبر منها، وسيدر عليها أموالا طائلة، وكذلك مشروع المفاعل النووي الذي بدأت فيه، ومشاريع التصنيع في الأسلحة والأقمار الصناعية، إضافة الى موقع تركيا الاستراتيجي الذي يعد أهم معبر لأنبوب الغاز من آسيا الى أوروبا. تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية شهدت مسيرة نجاحها تحديات كبرى داخليا وخاريجا وسترى تحديات أكبر على المدى القريب والبعيد إذا استمرت في هذا المنهج النهضوي الحضاري والاستراتيجي.

ج- تركيا و تحديات المستقبل استراتيجيا وحضاريا:

إن المتأمل في كتاب" تركيا والعمق الاستراتجي " لرئيس الوزراء الحالي و المفكر الاستراتيجي أحمد داوود أوغلو يدرك جيدا فلسفة النهضة التركية الجديدة وأبعادها العميقة وقوة النضج السياسي الذي يتمتع به صناع القرار في تركيا الراهن التي أصبحت أكبر قوة إقليمية في منطقة الشرق، وباتت تشكل محورا استراتيجيا في المعادلات الاقليمية والدولية. لقد مثل كتاب داوود أوغلو خلاصة فلسفة تركيا الجديدة في السياق الزمني الراهن وفي المرحلة القادمة على المدى القريب والبعيد.

نجحت تركيا أخيرا ولو بنسبة مئوية متوسطة في استعادة عمقها الاستراتيجي من خلال قوتها الاقتصادية التي حولتها الى اكبر منافس للقوى الدولية في منطقة الشرق الاوسط وفي اسيا وأوروبا وفي افريقيا بل وفي القارة الامريكية. ولعبت دورا مهما في طبيعة الصراع الجاري الان في كثير من مناطق العالم مثل القضية الفلسطينية والسورية والعراقية والمصرية والليبية واليمنية.

كما نجحت تركيا في استعادة عمقها الحضاري بنسبة متوسطة أيضا من خلال عودتها للتصالح مع هويتها الاسلامية، وإحداث مصالحة وطنية مع كل كيانات المجتمع التركي المتعددة، ورفع الحظر على تعليم اللغة العربية والكردية، وإدخال منهج تدريس التربية الاسلامية ومادة القرآن الكريم والسيرة النبوية في المدارس، وجعل درس اللغة العثمانية درسا إجباريا، وانفتحت على العالم على العربي ومساندة دول الربيع العربي في ثوراته ضد الظلم والاستبداد والوقوف بجانب اللاجئين السوريين واستقبالهم ومساعدتهم.

كل هذه الانجازات جعلت تركيا تدخل في مرحلة جديدة وفي موقع قوي يختلف تماما عن تركيا الجمهورية الكمالية. مما جعل الكثير من المراقبين والمحللين يعتبرون فترة حزب العدالة والتنمية هي ولادة لجمهورية تركيا الثانية، بل هي نهوض العملاق العثماني من جديد الذي بات الغرب والكثير من القوى الدولية تنظر اليه على أنه يمثل المارد الذي يطمح في استعادة مجد الدولة العثمانية من جديد. خصوصا اذا ما حاولنا أن نفهم رمزية إعادة أردوغان لطبيعة تشريفات الحرس الرئاسي على الطراز العثماني، وما يرمز اليه رقم ١٦ في عدد عساكر التشريفات، وجعل اللغة العثمانية لغة اجبارية في معاهد الأئمة والخطباء، واستخدام خطاب مفعم بروح الافتخار بالأجداد العثمانيين وبتاريخهم العثماني مثلما رأيناه أخيرا في العملية العسكرية التي نظمها الجيش التركي في الأراضي السورية لحماية ضريح سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية عثمان غازي مؤسس الدولة العثمانية وماتحمله هذه العملية من دلالات في المستقبل.

كل هذه المظاهر تعكس رؤية صناع القرار الأتراك إلى تركيا في المستقبل، والدور الذي ستلعبه تركيا على الساحة الإقليمية والدولية، وحجم تأثيرها على طبيعة التوازنات الاستراتجية في النظام العالمي القادم الذي دعت تركيا مرارا إلى صياغته من جديد ، لأن النظام الدولي الراهن انتهت صلاحيته وفشل في تحقيق السلام العالمي .

ويبقى السؤال المهم في هذا السياق وهو: ما هي التحديات التي ستواجهها تركيا مستقبلا على المستوى الاستراتيجي والحضاري؟ وهل ستنج في تجاوزها؟

للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نذكر بأن نوعية المشاريع العملاقة التي ستقوم بها تركيا و المشاريع التي هي بصدد انجازها تساعدنا على قراءة أو فهم رؤية صناع القرار الأتراك لمستقبل تركيا داخليا وخارجيا.

أهم هذه المشاريع نجد أولا مشروع المطار الثالث الذي سينتهي سنة ٢٠١٧ ، وسيكون أكبر مطار في العالم متقدما من حيث طاقة الاستيعاب على مطار فرانكفورت في ألمانيا، وستصبح الخطوط الجوية التركية الأولى عالميا من حيث حجم أسطولها الجوي، وستنافس أكبر الشركات الجوية العالمية. وقد أثار هذا المشروع انزعاج بعض الدول الغربية خصوصا ألمانيا التي يوجد فيها مطار فرانكفورت أكبر مطار في العالم الان.

ثانيا مشروع قناة استانبول التي ستكون بديلا عن مضيق البوسفور الذي سينتهي مهمته سة ٢٠٠٢٣ وفق مانصت عليه اتفاقية لوزان سنة ١٩٢٣ ، وستتحول قناة استانبول إلى أهم قناة تربط بين بحر مرمرة والبحر الاسود، وستستفيد تركيا كثيرا من الناحية الاقتصادية من هذه القناة، وستؤثر قناة استانبول على تحويل كل المناطق المحاذية لها من نقطة انطلاقها على البحر الاسود الى بحر مرمرة الى منطقة جذب واستثمار عالمي كبير مما سيحول استانبول الى مركز اقتصادي مهم جدا في العالم.

ثالثا هناك عدة مشاريع اخرى عملاقة كمشروع جسر ياووز سليم ومايحمله اسم هذا الجسر من حساسية تجاه العلويين و إيران وريثة الدولة الصفوية التي حاربها ياووز سليم وكاد ينهيها من الوجود. كذلك مشاريع أنفاق الطرق السريعة تحت البحر مما يعني أن تركيا  تدرك أهمية هذه المعابر تحت الماء في صورة ما اذا تم ضرب الجسور الرابطة بين القسم الاوروبي والآسيوي في استانبول. كما نجد أن تركيا دخلت عالم صناعة التسليح الحربي والنووي و على مستوى الاتصالات كالاقمار الصناعية وغيرها من المشاريع التي جعلت من تركيا قوة منافسة للدول المصنعة الكبرى في العالم.

كل هذه المشاريع العملاقة جعلت الغرب والدول الصناعية الكبرى تنظر إلى تركيا على أنها المارد الإسلامي الذي نهض من جديد، وقد يتحول إلى مصدر تهديد لها في المستقبل ليس في منطقة الشرق الأوسط فقط بل في العالم الإسلامي، حيث تتواجد المصالح الغربية هناك.

تركيا الراهن لم تعد في نظر الغرب تركيا الجمهورية القديمة التي تم سلخها حضاريا، وفقدت كل مقومات العمق الاستراتيجي في المنطقة. تركيا اليوم أصبحت عاملا فاعلا في التوازنات الإقليمية والدولية. لذلك حاولت هذه الدول أن تربك الوضع السياسي داخل تركيا من خلال احداث غيزي بارك التي بينت التحقيقات تورط عدة دول أجنبية فيها ومنظمات دولية وبالتعاون مع بعض قوى المعارضة الداخلية في ذلك. لكن تركيا الجديدة استطاعت أن تتجاوز هذه التحديات والمؤامرات وتصر على الاستمرار في طريقها النهضوي والمضي قدما لكي تكون من مجموعة الدول الكبار في العالم.

إن مجموعة المشاريع المتنوعة التي ذكرناها سابقا على كافة المستويات تندرج ضمن ما يسمى مشروع تركيا الجديدة التي يسمى بتركيا سنة ٢٠٢٣ حيث سينتهي ١٠٠ عام على قيام الجمهورية التركية وانتهاء اتفاقية لوزان التي شكلت ضربة قاصمة لتركيا سنة١٩٢٣ وحرمتها من كل فاعلية استراتيجية وحضارية.

مشروع تركيا الجديدة التي تحدث عنه اردوغان سيكون عبر ثلاث محطات كبرى هي تركيا سنة ٢٠١٣ ، وتركيا سنة ٢٠٥٣، وتركيا سنة ٢٠٧٥. هذه المحطات تعكس بشكل جدي الرؤية الاستراتيجية والحضارية التي يعمل من اأجلها صناع القرار الاتراك الذين يدركون جيدا تحقيق هذه المحطات سيتعرض إلى تحديات كبيرة سواء داخليا من قبل بعض القوى المناهضة للمشروع الحضاري التركي ذي المرجعية الإسلامية، أو على المستوى الخارجي من قبل الدول الغربية والحضارة الغربية التي ترفض ان تلعب تركيا أي دور يساهم في تشكيل دورة حضارية إسلامية في العالم العربي والإسلامي.

نحن إذن أمام مشهد تكتنفه جدلية الاستراتيجية والحضارة في تشكيل ملامح المشروع الحضاري التركي الجديد الذي يتبنى ضمنيا نظرية الجامعة الاسلامية التي كان السلطان عبد الحميد الثاني قد دعا اليها، ثم فشل بسبب مؤامرة الانقلاب التي دبرتها القوى الداخلية مع القوى الغربية ضده.

تركيا أصبحت تتحدث مع الغرب ندا لند، وباتت تتمدد في العديد من المناطق في العالم ، وتهيمن على أسواق كبرى في الجمهوريات التركية في آسيا وفي المنطقة العربية وفي افريقيا و اميركا الجنوبية وفي منطقة البلقان واوروبا الشرقية. وهذه المناطق بقدر ماهي تمثل أسواقا اقتصادية مهمة الا أنها في الآن نفسه تمثل نفوذا استراتيجيا وحضاريا يساهم في تشكيل المشروع التركي في المستقبل. 

وطبعا سيتعرض هذا التمدد التركي إلى التصادم مع عدة قوى إقليمية ودولية طامعة في النفوذ والتمدد وأهمها إيران التي تسعى إلى الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وكذلك الدول الغربية التي ستحاول إيقاف التمدد التركي ولجمه للحفاظ على مصالحهم في مناطق التمدد التركي.

تركيا وحسب الدراسات الغربية نفسها ستصبح في المستقبل قوة كبرى في العالم، وستكون فاعلا مؤثرا على طبيعة التوازنات في العالم وفي النظام العالمي الجديد الذي يسعى الغرب ان يشكله وفق معاييره ومصالحه وهو الامر الذي سيجعله يصطدم فيه مع تركيا الجديدة لاختلاف المصالح والأهداف.

خلاصة القول يمكننا أن نقول إن تركيا على الرغم من أنها خطت خطوات جبارة في إعادة عمقها الاستراتيجي والحضاري إلا أن المسافة أمامها مازالت طويلة جدا نحو تحقيق مشروعها الحضاري الذي آمن به صناع القرار لأتراك الحاليين. خصوصا إذا ما اعتبرنا أن حجم التحديات المستقبلية ستكون كبيرة جدا في ظل الأحداث الجارية الآن في منطقة الشرق الاوسط التي تتعرض إلى مخطط للتقسيم واعادة صياغتها من جديد، قد تكون تركيا إحدى هذه الدول المعرضة له. لقد حاولنا في هذه الدراسة ان نجمع بين ثنائية الاستراتيجية والحضارة لقراءة ملامح المشروع الحضاري التركي القادم في سياقه التاريخي وفي سياقه الزمني الراهن وملامحه في المستقبل وما ستكون عليه تركيا والمنطقة والعالم بشكل عام جيوسياسيا وجيوستراتيجيا. 

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس