د. علي حسين باكير - عربي21

لطالما غلب الطابع السلبي على العلاقات التركية ـ الروسية، حيث اتّسمت العلاقة بين الطرفين بالعدائية. الجانب التركي بالتحديد كان يعرّف روسيا باعتبارها خطرا كان الجانب التركي ينظر إلى العلاقة بين تركيا وروسيا بأنها سلبية، ولا تقتصر هذه النظرة على التاريخ الحديث للبلدين، وإنما تعود إلى عمق التاريخ مئات السنين إلى الوراء.

دوافع اقتصادية أولا

لكن مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في العام 2012، بدا أنّ هناك تحوّلاً في طبيعة العلاقة مع موسكو محوره العامل الاقتصادي. سعت تركيا آنذاك إلى الانفتاح الاقتصادي على محيطها الإقليمي في عدد من الدوائر الجيوبوليتيكية المحيطة بها لتخفيف الاعتماد على الاتحاد الأوروبي من جهة، ولاستغلال المساحات الفارغة في القطاع الاقتصادي والأسواق الجديدة في البلدان الأخرى من جهة ثانية.

نتيجة لذلك، ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من حوالي 5 مليار دولار في العام 2000 إلى حوالي 35 مليار دولار قبيل الأزمة التي عصفت بالبلدين في تشرين ثاني (نوفمبر) من العام 2015 عندما أسقطت أنقرة مقاتلة روسية اخترقت أجواءها آنذاك.

وبموازاة تلك الفترة، صعدت المؤشرات المتعلقة بقطاعات أخرى أيضاً، فعلى سبيل المثال تشير أرقام وزارة الداخلية إلى أنّ السيّاح الروس الذين دخلوا تركيا في العام 2018 حلّوا بالمرتبة الأولى مقارنة بأقرانهم من الدول الأخرى وذلك بواقع حوالي 6 مليون سائح، علماً أنّ هذا العدد كان يساوي ما دون الـ500 ألف في العام 1999.

علاوة على ذلك، تسيطر روسيا حالياً على الجزء الأكبر من إمدادات الطاقة إلى تركيا. وفقاً لأرقام العام 2018، فان حوالي 52? من واردات أنقرة من الغاز الطبيعي تأتي من روسيا فقط. فضلاً عن ذلك، فقد تمّ مؤخراً ربط تركيا بروسيا من خلال مشاريع طاقة مثل خط أنابيب "ترك ستريم" للغاز، ومشروع أكويو النووي لإنتاج الطاقة الكهربائية، وهو أول مشروع نووي من نوعه في البلاد، ومن المتوقع الانتهاء منه مبدئيا في حلول عام 2023- 2024. 

تعاون عسكري

وفيما يتعلق بالتعاون العسكري بين البلدين، هناك تشاور وتنسيق متزايد في العامين الأخيرين لاسيما في الملف السوري، هذا التعاون بات يثير المزيد من الحساسية لدى بعض الفاعلين كالولايات المتّحدة الأمريكية لاسيما مع تأكيد تركيا على شراء منظومة (اس-400) الروسية. 

ومع أنّ روسيا ليست دولة حليفة أو يجمعها تجمّع واحد للدول الصديقة مع تركيا، إلاّ أنّ هذه المعطيات المتعلقة بالاقتصاد والسياحة والطاقة والعلاقات العسكرية تعني أنّ أنقرة باتت تعتمد بشكل متزايد على موسكو، وهو مؤشّر أيضاً على أنّ الجانب التركي سيضطر بشكل متزايد إلى مراعاة حسابات موسكو في قضايا شائكة خوفاً من أن ينعكس تحدّي روسيا سلباً على المصالح التركية. لكن، قد يتساءل البعض، وما مصلحة روسيا في مثل هذا التقارب؟ 

عدا عن أنّ الجزء الأكبر من التبادلات الاقتصادية بين البلدين يصب في صالح موسكو، فإنّ الهدف الاستراتيجي هو جذب أنقرة بعيداً عن حلف شمال الأطلسي والاستثمار في الخلاف المتزايد بين تركيا والولايات المتّحدة الأمريكية. إضعاف التحالف الأطلسي والإضرار بالعلاقة بين أنقرة وواشنطن أمر مهم في حسابات موسكو سيما إذا ما استطاعت تحقيق ذلك بأقل التكاليف، إن لم يكن بأكثر المنافع أيضا.

هذه الحسابات ليست مستغربة من الجانب الروسي، لكن المثير للاهتمام وللتساؤلات في نفس الوقت أنّ الموقف الأمريكي يعمل على تسريع هذا التقارب التركي ـ الروسي بشكل غير مسبوق، ويساهم بازدياد اعتماد أنقرة على موسكو!

فبينما تحاول تركيا الموازنة بين واشنطن وموسكو للحصول على أكبر قدر من المكاسب بما يخدم أمنها القومي، لا ترفض الولايات المتّحدة هذه المعادلة فقط، وإنما تذهب أبعد من ذلك لتجاهل المصالح التركية أوّلاً، ومن ثمّ العمل ضدّها ثانياً، وذلك بموازاة مطالبة أنقرة بالتخلي عن مصالحها مع روسيا.

مثل هذا السلوك لا يترك لأنقرة أي خيّار باستثناء الذهاب مجدداً باتجاه روسيا، الأمر الذي من شأنه أن يخلق ما يسمى بـ "الدوامة الشريرة أو "الحلقة المفرغة". من وجهة نظر تركيا، التراجع عن أي من المصالح التي تربطها مع روسيا تحت الضغط الأمريكي من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى خسارة أنقرة للطرفين الأمريكي والروسي معاً.

أمريكا تدفع باتجاه تمتين العلاقات التركية ـ الروسية

وعوضا عن أن تقوم الولايات المتّحدة بأخذ المصالح التركية بعين الاعتبار وزيادة التنسيق السياسي والعسكري معها في الساحات الإقليمية للحد من مساعي روسيا لاستقطاب تركيا، تقوم بالعكس تماماً. 

مثل هذا السلوك لا يمكن تفسيره إلاّ من خلال طرحين: الأوّل يقول أنّ هناك جهة ما داخل واشنطن لا تريد أن تكون علاقات أمريكا جيّدة مع تركيا ولا تريد كذلك للأخيرة أن تظلّ عضوا في حلف شمال الأطلسي، ولذلك يقوم هؤلاء بالضغط من أجل دفع تركيا خارج إطار الشراكة الثنائية والحلف الأطلسي. أمّا التفسير الثاني، فهو يقول أنّ هدف أمريكا من زيادة الضغط على تركيا هو إجبار الأخيرة على مراجعة حساباتها، لكنّ المشكلة في هذا الطرح أنّه لا يتضمن أي "جزرة"!.

بمعنى آخر، تريد الولايات المتّحدة من تركيا أن ترضخ للضغوط وتتخلى عن التطلع إلى روسيا، لكنّها لا تريد في المقابل أن تعطي أنقرة أي شيء يعوّضها عن ذلك أو يضمن مصالحها. من شأن هذه السياسية أن تعمّق الهوّة بين الطرفين وتقضي على ما تبقى من عامل الثقة، وإذا ما حصل مثل هذا الأمر، سيكون من الصعب جداً إصلاح الخلل الحاصل في العلاقة بين البلدين في المدى المنظور، الأمر الذي من شأنه أن يعزز من نفوذ روسيا في تركيا أيضا، وهو بدوره أمر سلبي إذا لم يتم وضع حدود له.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس