محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

أفرزت انتخابات البلدية المعادة في إسطنبول جملة تساولات بسبب الخسارة التي مني بها حزب العدالة والتنمية فيها وهي المدينة الأكثر كثافة وأهمية في تركيا.

إن الاهتمام المتزايد بالانتخابات البلدية وخصوصا بمدينة إسطنبول بالذات سواء في الانتخابات الأولى أو المعادة من خارج تركيا يعطي دلالة واضحة على أن ما يجري في تركيا يؤثر بصورة غير مباشرة على كل الدول الإقليمية، وفي الوقت نفسه فإنه يدل على أن تركيا قد تحولت إلى ميدان تعرض فيه (أعلام السيمافور) والذي يعني التخاطب على بعد بواسطة تلك الإعلام، وبعبارة أدق فإن ما يجري في تركيا محاكاة حقيقية للواقع العربي وتطلعاته.

إن أكثر ما شغل الرأي العام داخليا وخارجيا هي الإجابة عن بعض التساؤلات الضمنية التي أعقبت خسارة مرشح حزب العدالة والتنمية، ومن هذه التساؤلات:

1- هل تعني هذه الخسارة بداية زوال هيمنة الحزب وبداية ضعفه؟

2- ما هو سبب خسارة مرشح العدالة والتنمية في أهم المدن التركية؟

3- كيف سيعيد الحزب ترتيب بيته الداخلي؟

4- ما هو وضع القيادات السابقة لحزب العدالة والتنمية؟ والتي رأى الكثير من المراقبين أن إقصاءهم وإعفاءهم من المناصب الوزارية كان أحد أسباب تراجع شعبية الحزب؟

5- ما هو سبب التعاطف الشعبي العربي والتركي مع بعض قيادات الحزب السابقين ومنهم الرئيس السابق عبد الله غُل ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ونائب رئيس الوزراء السابق على باباجان.

بالنسبة للتساؤل الإول فإننا نعلم أن الأحزاب التركية تنقسم بصورة عامة إلى قسمين، القسم الأول الأحزاب التي تتشكل من مجموعة من القيادات المتوافقة فيما بينها مع التأكيد على الحضور الجماهيري لهذه القيادات وطبعا بدرجات متباينة فيما بينها، مع التأكيد على ضرورة تأسيسها ربما لخلو الساحة التركية من قيادة جماهيرية أو لضرورة تجديد الأطر السياسية وتنويع البرامج السياسية، ومن هذه الأحزاب حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو وغيرهم وهذا الحزب يعد من أعرق الأحزاب وأكثرها جماهيرية ولكن دون حصولها على الغالبية في تشكيل الحكومة منذ الستينيات إلى الآن، حيث استمرت في تشكيل حكومات ائتلافية حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم وهذا الحزب لم يفقد شعبيته إطلاقا رغم تقدم غيره من الأحزاب. والجدير بالذكر أن الأصوات التي حصل عليها الحزب سابقا وحتى انتخابات الإعادة في إسطنبول كانت تتراوح بين 20% و22%.

أما حزب العدالة والتنمية فقد أسسه القياديون الشباب من حزب أربكان الأخير (حزب الفضيلة). ومن الجدير بالذكر أن القياديين الذين يسمون بالكهول بحزب الفضيلة المنحل قد أسسوا حزب السعادة، والشباب أو المجددون ومنهم عبد الله غُل والطيب أردوغان ولطيف شينير وبولنت أرينج وغيرهم أسسوا حزب العدالة والتنمية، وهذه الأحزاب التي تشكلت كما قلنا من قياديين متكافئين في القيادة هي باقية ولا خوف عليها وخصوصا التي سجلت الكثير من الانتصارات والمنجزات الاقتصادية والإنسانية.

الفئة الثانية من الأحزاب هي التي تأسست من قبل شخصية قيادية ربما كانت في حزب آخر وانفصلت عنها، كحزب الخير الذي تتزعمه ميرال أكشينير. وهذه النوعية من الأحزاب لم تدم عادة لفترة طويلة ولا تتوارث. وهذا خارج نطاق بحثنا الحالي.

التساؤل الآخر هو سبب خسارة مرشح الحزب ذي الخلفية القيادية والتخطيطية في أهم المدن التركية:

لا شك أن لمدينة إسطنبول أهمية خاصة لدى كل الأحزاب ومنهم الأحزاب العلمانية كحزب الشعب رغم ميل كفة تلك المدينة للإسلاميين منذ عام 1994، والتي أجاد قيادات الإسلاميين ومنهم الرئيس أردوغان طيلة الفترة الماضية تطويرها وتطوير الخدمات فيها لدرجة كبيرة، وأصبحت الوصيفة لأجمل مدن العالم بالجهود الكبيرة التي بذلت من أجل أن تكون الواجهة الحضارية والسياحية والثقافية  لتركيا، وكادت أن تستمر تحت حكم الإسلاميين لولا بعض الهفوات التي كانت السبب في توجه الناخبين للتصويت لمرشح حزب الشعب إمام أوغلو (وأنا هنا أركز على انتخابات الإعادة لأنني أعتقد أن هناك التباسًا واضحًا متعمدًا في فرز النتائج في الانتخابات الأولى أدى إلى خسارة المرشح يلدرم.

أولى الاخطاء التي ارتكبت حسب معظم المراقبين هو السماح لعبد الله أوجلان المعتقل والمحكوم بالمؤبد بمواجهة محاميه وعائلته، فقد اعتبرت تلك الاسترضاءات بمثابة مغازلة للأكراد، والذين يناهز عددهم المليوني شخص حسب بعض التخمينات بغية التصويت لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية، وهذا أثر بصورة مباشرة على نتائج الانتخابات حيث وهبت نسبة كبيرة من مؤازري الحركة القومية أصواتهم لمرشح حزب الشعب.

السبب الثاني والمهم بنظري هو المرشح نفسه يلدرم. فقد اعتبر بعد تكليفة وتحويله من منصب إلى منصب آخر كشخصية ضعيفة، فقد كان رئيسًا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ثم أصبح رئيسًا للبرلمان في فترة تراجعت فيه أهمية المجلس بعد التحول للنظام الرئاسي، وأخيرًا تم تحويله وترشيحه لمنصب رئيس بلدية إسطنبول دون أي اعترض منه - حيث اعتبر ضعيف الشخصية و(طالب منصب) مهما كان سواء كان ملائما له أو لم يكن ملائما. وكما نوهت باحثة في الشان السياسي التركي في مقابلة مع إحدى محطات التلفزيون التركية إلى تلبيته كافة تعليمات الرئيس أردوغان، حيث استفسرت منه عن عدم امتناعه عن قبول تلك المناصب المختلفة والمتباينة الاختصاص والأهمية، ورغم ذلك كان جوابه مقنعا إلى حد كبير حيث أوضح بأنه لا يبغي من وراء ذلك سوى خدمة أبنائه ومواطنيه وخدمة تركيا في أي موقع كان.

وهناك طبعا أسباب أخرى أهمها التصريحات المتناقضة والتهديدات المبطنة لمرشح حزب الشعب من قبل بعض كوادر حزب العدالة، هذه من ناحية ومن ناحية أخرى فإن حملة من الاتهامات ضد مسؤولي بلدية إسطنبول من حزب العدالة حول الفساد الإداري والمالي وطريقة التعامل مع العطاءات للاستثمارات والتعهدات والمقاولات - قد كانت سائدة وتناولها الإعلام المرئي والصحف قبل انتخابات الإعادة.
والاستفسار الثالث هو حول كيفية إعادة ترتيب البيت الداخلي لحزب للعدالة والتنمية؟

حتما وكما هو متبع من قبل كل الأحزاب الديمقراطية فإن أولى عمليات التجديد والتقييم ستكون بطريقة الانتخابات التي تعكس كفاءة الأشخاص الإداريين والوزراء وطريقة تعاملهم مع الحدث والقضية، وبما أن حزب العدالة والتنمية قد أصيب بانتكاسة فإن أولى الخطوات التي سيقوم بها حتما هي الانتخابات الحزبية الفرعية والرئيسية والدعوة لمؤتمر استثنائي للحزب، وحسب رأيي الشخصي فإنها تعيد مكانة الحزب من جديد وتعطيه دعما غير محدود، وعلى أثر تلك ستكون هناك تغييرات في الحقائب الوزارية، وكما نوه لذلك الرئيس أردوغان والذي لم يستبعد تغيير بعض الوزراء.

ويبقى الأهم وأكثر التساؤلات الملحة هي عن الشخصيات القيادية التي غادرت مناصبها الرسمية وأصبحوا في حكم المتقاعدين وكان لهم تأثير كبير على الساحة التركية وتركوا بصمات واضحة في مسيرة التطور التركي، بالإضافة إلى مساهماتهم الفعالة في تطوير العمل المشترك التركي مع سائر الأقطار العربية ويعتبرون أيضا من منظري السياسة التركية الخارجية، حيث ترك هولاء القادة أثرا طيبا في مخيلة المتابع العربي والتركي معا وحتما كان التعاطف كبيرا معهم بعد التخلي عن مسؤولياتهم، لذا فإن أول ما يتبادر إلى ذهن المواطن هو استفساره عن سبب تخلي هولاء القياديين عن مناصبهم، وهل كان لوجودهم أثر في استمرار تقدم حزب العدالة في كافة النزالات الانتخابية. ولكن هل بالإمكان رجوعهم إلى صفوف الحزب كقياديين؟ وربما سيستلمون مناصب حكومية مرة أخرى.

من حيث المبدأ فإن عملية الاستعانة بهم لإعطاء دعم جديد للحزب ستعطي انطباع حقيقيا بأن الحزب قد اتخذ قرارات متسرعة في السابق ولم يحسب بكل موضوعية تأثير خلو الساحة الحزبية من هذه القيادات، هذا في حال موافقتهم على تلبية نداءات القيادة الحزبية رغم استحالة تلك الحالة واستحالة الموافقة واستحالة النداءات، ولذا فلا مناص من التفكير الجدي بأن هولاء على قاب قوسين أو أدنى من تشكيل حزب سيضمهم من جديد وسيكون أقرب وأقوى ند لحزب العدالة وسيكون في حال تأسيسه ودخوله الانتخابات هو المنافس الأقوى لحزب العدالة.

وأخيرا فمن الضروري القول إن حزب العدالة والتنمية مدعو إلى تغيير بعض النهج الخارجي لأن الدعم  لبعض الأطراف الخارجية قد أضر كثيرا بمكانة الحزب عربيا وحتى إسلاميا، وربما يعتبر بعض ذلك النهج تدخلا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولأن تركيا كانت المرآة الناصعة العاكسة لهموم وتطلعات الرأي العام العربي والإسلامي، لذا فإن أي شائبة تصيب هذه المرآة ستشوش المكانة المثالية في أعين المتطلعين لتركيا.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس