محمود عثمان - الأناضول

منذ بداية الأزمة السورية عام 2011 وإلى يومنا هذا، ثمة اتفاق داخل تركيا على التعاطي الانساني مع اللاجئين السوريين، رغم الاختلاف حول الموقف السياسي من الأزمة.

فبينما ذهب حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى أقصى حد في الانخراط الفعلي والتدخل الميداني في المسألة السورية، معتبرا شمال سورية منطقة حساسة ذات تأثير مباشر على الأمن الاستراتيجي لتركيا، رجحت أحزاب المعارضة التعاطي السلبي مع القضية السورية باعتبار سورية، كما بقية دول الشرق الأوسط، مستنقعا للخلافات الدولية والاقليمية، يجب النأي بتركيا عن الدخول في أتونه، على غرار المقاربة السياسية الكلاسيكية لتركيا القديمة. 

لكن رغم الاختلاف في وجهات النظر حول الموقف السياسي، بقي التعاطي الإنساني تجاه اللاجئين السوريين محل إجماع شعبي ورسمي. 

من هنا لا يمكن الحديث عن وجود خطاب كراهية وعنصرية عام أو ممنهج ضد السوريين، حيث الأكثرية القاهرة من الشعب التركي تقف ضده. لكن بنفس الوقت لا يمكن إنكار وجود زمرة قليلة تتبنى خطاب العداء والكراهية، وهي رغم قلة عددها، فإنها الأعلى صوتا والأكثر جلبة وضجيجا، والأقدر على الحشد، خصوصا بين صفوف الشباب والعاطلين عن العمل، والمؤلدجين تلقائيا ضد الرئيس رجب طيب أردوغان وجميع إجراءات حكومته. 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحديث عن أخطاء أو قصور في إدارة الملف السوري، لا ينفي ما قدمته تركيا حكومة وشعبا للسوريين من معروف وخدمات يصعب حصرها، كما أن ما فعلته تركيا لا ينفي وجود بعض الأخطاء على صعيد إدارة الملف. 

** العنصرية وخطاب الكراهية يتلقى الدعم من بعض الأطراف الدولية 

لا شك أن ارتفاع منسوب خطاب الكراهية والتحريض ضد الآخر، الأجنبي أو المخالف، في الانتماء الديني أو العرقي أو المذهبي، ليس محصورا في نطاق تركيا وحسب، بل إنه تحول إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية مقلقة، باتت تهدد الأمن والسلم المدني للدول، وتأتي دول الاتحاد الأوربي في مقدمة الدول التي تعاني من هذه الظاهرة الخطيرة. 

وقد شكل وصول دونالد ترامب بخطابه العنصري التحريضي إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، عامل دفع وتحفيز إضافي على بروز تلك الظاهرة وشيوعها. 

الأخطر من ذلك أن الشعوب الأوربية التي باتت تضيق ذرعا باللاجئين والأجانب، هي التي منحت الحركات والأحزاب العنصرية مكافأة سياسية بزيادة عدد أصواتها، وفتحت أمامها الطريق، وأعطتها فرصة دخول البرلمانات، والمشاركة في صنع السياسات والقرارات في تلك الدول. 

ما يدعو للقلق، أن العنصرية وخطاب الكراهية الذي يستهدف السوريين اليوم، لا بد وأن يتعداهم إلى كل ما هو مخالف، سواء في الرأي أو العرق أو المذهب وحتى الانتماء المناطقي. وتركيا ليست ببعيدة عن تلك الاستقطابات، فحتى عهد ما قبل حزب العدالة والتنمية، لم يكن بمقدور المواطن التركي في بعض مناطق تركيا البوح بثقافته، ولا الحديث بلغته الأم في الأماكن العامة، وما محنة المحجبات ببعيدة. 

في تسعينيات القرن الماضي، كانت أخت جارتنا تدرس في السنة الأخيرة بكلية طب جراح باشا جامعة استانبول، ولم يبق على تخرجها سوى تدريبين أي مدة أربعة أشهر فقط، رغم ذلك أصرت عمادة الكلية يومها على إجبارها على خلع حجابها أو الفصل من الجامعة. رفضت الفتاة نزع حجابها، فاضطرت للهجرة إلى كندا، لتعيش هناك بعيدة عن وطنها حتى يومنا هذا. 

في تلك الأيام كان من الطبيعي أن يعترضك ويقطع حديثك أحدهم في الحافلات والأماكن العامة ويأمرك بالتكلم باللغة التركية، قائلا: " هنا تركيا والحديث باللغة التركية فقط" !. 

ولعل من أهم منجزات حزب العدالة والتنمية، نجاحه في مجال الحريات العامة والسلم الاجتماعي. صحيح أن هناك حملات ظالمة تتهمه بالتضييق على الصحافة وحرية الرأي والتعبير، لكن جميع تلك الاتهامات تندرج في خانة أساليب الضغط والابتزاز التي يمارسها الغربيون ضد من لا يخضع لهم، ويسير وفقا لبوصلتهم. 

من المؤسف حقا أن ينزلق بعض السياسيين نحو استخدام ورقة السوريين من أجل تحقيق مكاسب سياسية، حيث يقود حملة الكراهية ضد السوريين، نائبان برلمانيان، سبق لهما محاولة مدعومة من الكيان الموازي لشق صف حزب الحركة القومي، وعندما فشلت محاولتهم، تحولوا إلى مزيد من العدوانية والتطرف. 

عدد من الكتاب الأتراك تحدثوا عن علاقة الكيان الموازي المباشرة بحملة العنصرية ضد السوريين، وغني عن التعريف ارتباط هذا الكيان الارهابي بدوائر الاستخبارات الأجنبية. من هنا تتضح معالم الأضابع الخارجية في هذا الملف الحساس. 

خطورة الخطاب العنصري، أنه يعتبر جميع الرعايا العرب في تركيا سوريين، وخطره الأكبر هو تهديده للسلم المجتمعي والامن في تركيا. 

** حول أسباب الموقف السلبي من السوريين: 

هناك أسباب عديدة، منها ما يتعلق بظروف اللجوء السوري، وارتفاع عدد اللاجئين بحيث أصبحوا يشكلون ما يقارب 4.6% من عدد سكان تركيا، وطول أمد اللجوء السوري، حيث بات يقارب العقد من الزمن، ومنها اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد، ومنها الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا، ومنها العمليات العسكرية التي لا بد وأن يقع خلالها ضحايا من الجنود الأتراك، لكن أخطر تلك الأسباب على الاطلاق، هو الصورة النمطية التي يحاول البعض ترسيخها في ذهن المواطن التركي، من قبيل (أن السوريين في تركيا متورطون بشكل كبير في الجرائم، ويسلبون الأتراك أعمالهم لأنهم يشكلون يدًا عاملة رخيصة..) ، إلى ذلك من مفردات الخطاب العنصري والتحريض السياسي، الذي يفتقر للصحة والموضوعية. 

لعله من المفيد إجمال أسباب هذه الظاهرة تحت عناوين رئيسية منها .. 

العوامل السياسية 

أشرنا أعلاه إلى اتجاه بعض أطراف المعارضة نحو استخدام ورقة السوريين في التجاذبات السياسية الداخلية. لكن الأخطر من ذلك هو ما شاهدناه عشية انتخابات اسطنبول المكررة في 23 حزيران/يونيو الماضي، من تدخل خارجي سافر باستخدام ورقة السوريين، سواء من خلال الحملات التضليلية للناخب التركي، أو التحريض ضد الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية بين السوريين، حيث البصمات الخارجية كانت واضحة بجلاء. 

إن انتهاج تركيا سياسات وطنية مستقلة، من خلال اتباع استراتيجية سياسة التوازنات متعددة الأبعاد والاتجاهات، سوف يجعلها دائما في مواجهة قوى كثيرة، خصوصا الأمريكية والأوربية التي اعتادت على تركيا التي لا تقول لا، وليس تركيا التي تسعى لتحقيق مصالحها واستقلاليتها، خصوصا في مجال التصنيع الحربي والاكتفاء الذاتي، حيث باتت تركيا تعتمد بنسبة 80% على أسلحتها محلية الصنع في حربها على الإرهاب. 

العوامل الاقتصادية 

هناك حاجة ملحة لدراسة تأثير وجود السوريين على الاقتصاد التركي إيجابا أو سلبا. لكن غالبية الدراسات الأكاديمية ، وتقارير غرف الصناعة والتجارة وبعض جمعيات الأعمال، تشير إلى أن اسهامات السوريين في قطاع العمل التركي ايجابية وليست سلبية. 

قد يحتج البعض في مسألة البطالة، وأن السوريين ساهموا في تفاقمها، لكن الأرقام والاحصاءات تكذب هذا الادعاء. حيث معدل نسبة البطالة عام 2009 بلغ 14% وفي عام 2010 نزل الى 11.9% ، حتى في 2015 العام الذي اجتاح فيه الروس مدينة حلب، وشهد موجة نزوح هي الأكبر، كان معدل البطالة 9.9% ، بينما وصل في العام المنصرم 2018 إلى 11% أي إلى مستوى أقل عما كان عليه قبل نزوح السوريين لتركيا، وهذا يدحض ادعاء البعض تسبب السوريين في فقدان أعمالهم. 

على العكس من ذلك، فإن العمالة السورية المدربة والجاهزة سدت ثغرة وفراغا كانت سوق العمل التركية بأمس الحاجة له، حيث كان هناك نقص كبير في العمالة المتوسطة سده السوريون. 

العوامل الاجتماعية 

حرصت بعض القوى على تضخيم تأثير القادمين السوريين على النسيج الاجتماعي التركي، وخصوصا فيما يتعلق بالجانب الذي يخص النساء تحديدا، من توجه الرجال الأتراك إلى الزواج من النساء السوريات، وغير ذلك من المواضيع الحساسة التي تؤرق الاستقرار العائلي. لكن الاحصاءات تدل بوضوح على انغلاق السوريين على أنفسهم اجتماعيا وحتى اقتصاديا. 

الاصرار والعناد الذي يظهره بعض السوريين على بعض العادات التي تستفز جيرانهم الأتراك وتستجلب غضبهم، مثل السهر الطويل ورفع الصوت الضحك العالي والضجيج، وتورط بعض الشباب السوري بأعمال مخلة بالأمن، وغير ذلك من التصرفات غير اللائقة التي تحسب على مجموع السوريين، وليس على مرتكبيها فقط. 

طبعا من الصعوبة بمكان الحديث باتجاه واحد عن كتلة متجانسة، لأن السوريين في تركيا ينتمون إلى شرائح وطبقات اجتماعية مختلفة ومتفاوتة، وبالتالي الأمر يحتاج إلى دراسات مختصة ومفصلة لا يتسع لها المجال هنا. 

** مسؤوليات الدياسبورا السورية 

لم ينجح السوريون رغم ضخامة عددهم، والظروف المتاحة بل والتشجيع من طرف السلطات التركية، من تشكيل "دياسبورا" سورية ذات مؤسسات تعمل بطرقة منظمة. 

كثير عدد الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي أسسها السوريون، لكن غياب التعاون والتنسيق جعل دورها في عملية الإصلاح الجماعي محدود جدا. بالرغم من المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتقها. 

فقد كانت مساهمتها محدودة للغاية في رفع مستوى الوعي العام لدى السوريين، ووضعهم أمام مسؤولياتهم حيال المشاكل والمخاطر المستقبلية المحتملة، والعمل على معالجة بعض السلوكيات المستفزة للمجتمع التركي. 

من الواجب على المؤسسات السياسية المعترف بها رسميا، ائتلاف وحكومة مؤقتة، الاضطلاع بمسؤولية تنظيم عملية التواصل مع الجانب الرسمي التركي، وليس ترك الأمر لمنظمات المجتمع المدني الكثيرة والمتفرقة، التي لا يجمعها سقف واحد. 

حاليا في ظل غياب مؤسسة أو طرف سوري قادر على الوصول والتواصل مع مختلف الشرائح السورية الموجودة على الأراضي التركية، ينبغي أن يكون هناك عمل جماعي منسق بين مختلف المؤسسات يحمل رؤية موحدة وأهدافاً واضحة، ويعمل بالتنسيق مع الجانب التركي الذي يمكن ان يقدم له تسهيلات كثيرة من أجل مسح آثار الصورة النمطية التي يحاول أصحاب الخطاب العنصري ترسيخها في الأذهان. 

هناك مسؤوليات شخصية على السوريين كأفراد، تشمل زيادة مستوى الوعي والتواصل الإيجابي مع المجتمع التركي، وإعطاء صورة إيجابية عن الانسان السوري، والالتزام قدر الإمكان بالعادات والتقاليد التركية، وعدم التناقض معها بشكل صارخ. 

خلاصة القول .. 

دون شك، هناك أسباب وظروف وعوامل موضوعية، ساهمت إلى حد كبير في دفع قضية اللاجئين السوريين إلى السطح مرة أخرى. لكن العامل الأبرز حول حرص بعض القوى داخل تركيا وخارجها على استخدام ورقة السوريين كخاصرة رخوة، يمكن من خلالها النيل من الرئيس أردوغان وحكومته.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس