إحسان الفقيه - خاص ترك برس

"مضينا نضرب في طرقات المدينة، ثم أحسسنا حين أقبلت الظهيرة أن هناك شيئا غير عادي قد وقع، لقد بدأ المرور يتحول إلى البطء، وضاعت سيولة الحركة في شوارع المدينة.

وبدأنا نتتبع الخبر..

كان الخبر من أعجب ما سمعنا في حياتنا الصحفية على كثرة ما شاهدنا وسمعنا من عجائب...

* قيل لنا إنّ حركة المرور أبطأت وأصابها ما يشبه الشلل بسبب مظاهرة هائلة تتكون من مائة ألف مواطن تركي اجتمعوا في الساحات والميادين والشوارع ابتداء من مسجد الفاتح إلى مسجد بايازيد وسط إسطنبول.

سألنا: لماذا احتشدت المظاهرة؟

قالوا: احتشدت المظاهرة احتجاجا على قرار المحكمة الدستورية العليا بتأكيد حبس عمدة إسطنبول ورئيس بلدياتها "رجب طيب أردوغان".

سألنا: ما هي الجريمة التي كانت سببا في الحكم عليه بالحبس؟

قالوا: هي جريمة خطيرة خطيرة، لقد قرأ منذ ثمانية أشهر وهو يخطب في الجماهير بيتا من الشعر كتبه الشاعر التركي محمد عاكف، وهو شاعر كانت له اتجاهات إسلامية، وهو يقول في قصيدته:

(المساجد ثكنات المسلمين، وقبابها خوذاتهم، أما مآذنها فهي رماحهم)

* تلك هي مشاهدة الكاتب أحمد بهجت في إسطنبول كتبها بعموده اليومي في صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ 29 أيلول/ سبتمبر 1998م.

فكان هذا البيت الذي نظمه صاحبه بتلك النكهة الإسلامية الواضحة سببا في حبس أردوغان عمدة إسطنبول في ظل حكومة علمانية تحارب مظاهر التدين في المجتمع فما بالك لدى مسؤول حكومي؟

* لم يكن هذا المظهر من مظاهر التوجه الإسلامي لدى أردوغان قد برز بغتة من العدم، بل كان سمتا ظاهرا منذ البداية، مترجما إلى سلوكيات وقرارات لم تكن الزمرة العلمانية المهيمنة لتتوقع في يوم من الأيام أن تشاهده على قطعة أرض تركية.

* يُحسب لأردوغان (الذي كان عضوا بحزب الرفاه الإسلامي وتم انتخابه عمدة إسطنبول) يحسب له أنه خدم (الفكرة الإسلامية) كأفضل ما يكون عن طريق الطفرة التي أحدثها في بلديته من إصلاحات وتنمية، ومشاريع تخدم وتوفر لأهل إسطنبول حياة كريمة في المرافق والمواصلات وسائر الخدمات.

فلم يكن الرجل من أصحاب التوجهات الإسلامية التي تكتفي بالتنظير وفرض نمط إسلامي صوري بالانضواء على الإصلاح الديني دون النظر إلى معيشة المواطن، فدمج أردوغان بين هذا وذاك، بين إصلاح الأمور الحياتية وبث الفكرة الإسلامية.

* كانت اسطنبول قبل أن يديرها أردوغان كم (شبه تحتضر)، ولندع "أوزها أوران" يحدثنا عن تلك الأوضاع باختصار من خلال أغنيته الشهيرة "حان وقت الرفاه" التي صاحبت الحملة الانتخابية لأردوغان، يقول فيها:

"ولِمَ لا؟

أهل إسطنبول غرقى في المشكلات..

محرومون من المياه..

خنقتهم أكوام القمامة..

محبوسون في زحام الطرق والمواصلات..

مخنوقون بالهواء الملوث...

أليس لهذه المشكلات حل؟

فاض بي الكيل"

* الحقيقة تقول:

إن إسطنبول فعليا كانت كذلك..

فأتى ذلك الشاب ابن "حي قاسم باشا" البسيط، الذي كان يبيع البطيخ والسميط دعما لوالده، فلم يولد في مهود القصور الشاهقات أو يتقلب في الحرير، أتى وهو يدرك معاناة مجتمعه، فوعد ووفى.

فما مرّ سوى عام واحد حتى تغيرت الصورة، وتطلعت العيون إلى إسطنبول وقيل أن ثمة أشياء جديدة تحدث على الأرض.

* يتحدث الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه "جنرالات تركيا لماذا يكرهون الإسلام"، باختصار عن تلك الإصلاحات كشاهد عيان فيقول:

"وفي ظرف عام بعد تولي هذا الشاب شؤون المدينة تغير كل شيء، توفرت وسائل المواصلات والنقل، وتوفرت المساكن للفقراء الباحثين عن مأوى، وأصبحت المرافق تعمل بصورة جيدة في كل شيء، حتى المياه التي كانت شحيحة أصبحت فائضة عن الحاجة".

* وحتما لا يتسع المقام لسرد إنجازات الرجل في إسطنبول فاكتفيتُ بهذا الكلام المختصر على لسان شاهد عيان، لكن تجدر الإشارة إلى أن أردوغان  مع هذه الإنجازات كان يهدف ويسعى لصبغة إسلامية في إسطنبول، وهي ما عرضته لبطش الآلة العلمانية في تركيا.

فقد أغلق أردوغان نوادي القمار والخمارات وبيوت الدعارة، بل إنه ذهب إلى زيارة زعيمة الداعرات ليعرض عليها التوبة لها ولمن معها، ويوفر لهن حياة كريمة.

ولم تصمت الصحف العلمانية إزاء هذه القرارات فأثارت حربا ضد الرجل باعتبار ما فعله كارثة قومية.

ومما عمق لدى العلمانيين القناعة باتجاه أردوغان لأسلمة إسطنبول، ما نقله الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه نقلا عن رواة، قد ذكروا أن أردوغان "دعا إلى إقامة صلاة الاستسقاء في جميع المساجد، فخرجت الصحف العلمانية تسخر وتندد بهذا الغباء وهذا التخلف.

وكانت المفاجأة التي ألقمتهم حجرا فقد تجمعت السحب في سماء المدينة فجأة، وأمطرت السماء مطرا ملأ كل الخزانات الفارغة".

وما كان هذا الحضور للسمت الإسلامي ليفوت على الزمرة الحاكمة، وهو ما أدى إلى اعتقال رجب طيب أردوغان وسط سخط جماهيري.

ولم تشفع له عند الساسة تلك الطفرة التي أحدثها أردوغان في إسطنبول، فليس هذا هو السمت المنشود في عمدة المدينة، وليست هي الهوية المطلوبة، فها هي الكاتبة بينار كور تعبر خلال مقال لها على صحيفة الجمهورية عن الهوية التي تنشدها في رئيس البلدية بدلا من أردوغان، فتقول:

 "يمكننا القول أن إسطنبول بدأت طوال العام المنصرم في البحث أكثر من أي فترة مضت عن رئيس  للبلدية يغني وهو يسير على طرقاتها أغنية إسطنبول الشهيرة التي تقول: لقد تجولت هذا المساء في كل حانات إسطنبول وبحثت عنك، عن طريق آثار الشفاة الموجودة على الأقداح".

* ملامح الهوية التي ظهر بها أردوغان وتبعاتها، وتظاهر الجماهير احتجاجا على اعتقاله، كل ذلك يشير إلى أمرين:

يشير أولا إلى أن الشعب التركي شعب لم تغير العلمانية المتجذرة هويته، ويتلمس صاحب فكرة إسلامية إيجابي لكي يشق لها الوديان فقتحم بدورها.

ويشير ثانيا إلى أن أي اتجاه إصلاحي لابد له من فكرة مركزية تتعلق بالهوية، ومن فكرة محفزة تتعلق بالأمور الحياتية، وهذا هو سبيل الإصلاح الحقيقي.

* وأنت أيها العلماني الليبرالي القومجي العروبي اليساريّ العربي .. اسمعني جيدا:

حدثني عن تغيير مسار الإسلام السياسي لأردوغان وخفوت الظهور الإسلامي بعد نشأة حزب العدالة والتنمية.

وحدثني عن بحث أردوغان لمكان يقف فيه بين الإسلام وبين مراعاة الضغط العلماني.

 حدثني عن أخطاء لأردوغان في الداخل أو في الخارج.

حدثني عن كل ما سبق...

 فلا أدّعي العصمة لأردوغان، أو أقول بأنه خليفة المسلمين ....

لكن كفّاي متحفزّان للتصفيق لكل من ينتصر لفكرتي الإسلامية (كليا أو جزئيا).

ولكل من يناصر الحق وينصر المظلوم.

لكل من يصدق مع شعبه.

لكل من يقول للفساد: لا..

وأحسب أنّ الرجل قد وجدنا فيه ذلك بصورة أو أخرى وبنسبة أو بأخرى..

وكلما وجدتُ صاحب فكرة إسلامية يبحث عنها سأصفق له..

لكن حتما لن أنسى ولن تنسى معي ذلك اليوم...

"يوم أمطرت سماء إسطنبول"

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس