محمد قدو أفندي أوغلو - خاص ترك برس

قد يتطلب الظرف الحالي أن تجيد تركيا اللعب بالبيضة والحجر بسبب التناقضات في مواقف البلدان الأوروبية والأمريكية تجاه ما يهم تركيا ويعزز مصالحها.

الأمريكان وخصوصا الرؤساء من الجمهوريين كانوا ولا زالوا يظهرون الكثير من الأهمية للأتراك بل الأكثر من ذلك فإن مواقف بعض رؤسائهم تجاه مصالح تركيا متميزة وواضحة ونتذكر الرئيس جورج بوش الابن عندما ألقى باللوم على الأوروبيين بسبب مماطلتهم لانضمام تركيا لاتحادهم والمشادة الكلامية بينه وبين الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.

مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي تثير دوما عواصف شديدة للطرفين فالمخاوف الأوروبية من انضمامها كبيرة جدا لاعتبارات عدة أهمها أنها ستكون ثاني أكبر عضو فيه من ناحية السكان بعد ألمانيا حيث بلغ وفقا لآخر إحصائية أكثر من ثمانين مليون نسمة مما يعني أن ثاني أكبر تمثيل في البرلمان الأوروبي سيكون للأتراك من بين ثمان وعشرين دولة في الاتحاد، والاعتبار الثاني أن هذه الدولة الثانية في الاتحاد في عدد السكان هم من المسلمين.

والمثير أيضا أن تركيا التي هي الآن الدولة الثانية في عدد السكان ربما ستكون الدولة الأولى في خلال السنوات القادمة لأن العنصر الشبابي يحتل نسبة كبيرة من عدد السكان في تركيا.

ولكن أوروبا من دون تركيا، أو بالأحرى أوروبا التي لا توافق على انضمام تركيا لاتحادها، والتي ورثت الفكرالاستعماري والتسلط وامتصاص خيرات الشعوب لم تكن صورتها بأنصع من صور حكام الكاوبوي في القارة البعيدة ما خلف الأطلسي، بل هي التي أسست مفهوم قهر الشعوب واستغلال ضعفها واستعمارها وتفننت في القتل والتعذيب والسجن في معتقلاتها ونقلت قوافل البشر مكبلين وحولت الأحرار إلى عبيد، والأكثر من ذلك فإن خطورة أوروبا تكمن في وحدتها فهي ترتدي ثوب المبشرين الصليبين وتتحول كل مدنها إلى ساحة (كليرمونت) تلك المدينة الفرنسية التي انطلقت منها الأفكار الصليبية بعد الألفية الأولى الميلادية وبالتحديد من بداية عام 1099، مما يعني بأن هناك تناقض تاريخي ومبدئي في أسس تكوين تركيا وتلك الدول وأن السعي التركي يقتصر فقط على الاستفادة من مجالات وحدود أسواقها واقتصادها، بل ربما لو كانت هناك بدائل لها مقدرات متماثلة للنادي الأوروبي لكانت هي من تسعى إليها تركيا ولكن...

الخلافات الأمريكية التركية يشبه بعض منها إلى حد كبير البثورالجلدية التي تصيب الوجه والمناطق الظاهرة في الجسم رغم عدم أهميتها وصغرها ولكن لكثرتها أثرت بشكل واضح في جسد علاقاتهما، فالقس الإنجيلي أو جاسوس ولاية نورث كارولينا برونسون قد أثار سلسلة من المشاكل فبعد خيبة أمل ترامب من امتناع أنقرة من إطلاق سراحه فرضت واشنطن سلسلة من العقوبات الاقتصادية ضد تركيا وهو الذي أدى إلى هبوط سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، ومن ناحية أخرى تم فرض الرسوم على بعض البضائع التركية وقد بادلت تركيا تلك الإجراءات بإجراءات مماثلة عملا بمبدأ التعامل بالمثل، وظهرت في الأفق مشكلة أخرى كانت سببا لتأزيم العلاقات أيضا أثيرت ضد ضراب نائب رئيس بنك خلق والذي اعتقل في أمريكا بتهمة قيامه باختراق الحصار الاقتصادي ضد إيران وحسب ادعاء الأمريكان، والذي تم إطلاق سراحه قبل عدة أيام.

ومن المؤكد أن بعض خلافاتهما والتي تثيرها أمريكا بين حين وآخر قد تبدو وخيمة لأنها تصيب الأمن القومي التركي وخصوصا في ما يخص الدعم غير المبرر لفصائل "تنظيم "بي كي كي" وفرعه السوري العدو اللدود لتركيا.

والمشكلة الثانية الرئيسية والتي تحاول أمريكا بواسطتها ليّ ذراع تركيا بها هي عدم تسليم فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب الأخير للأتراك.

إن الجرأة في التصدي لمواقف أمريكا ضد مصالح تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية أصبحت تثير الكثير من التساؤلات، بل الأكثر من ذلك فإن الجرأة التي تحلى بها أردوغان في مواقف محددة عرضها الرئيس الأمريكي ترامب شخصيا هي التي أثارت مخاوف خروج تركيا من تحت مظلة حلف شمال الأطلسي.

إن الانفصال الرئيسي بين تركيا من جهة والأمريكان والأوروبيين من جهة أخرى قد بدأت عندما سحبت أوروبا وحدات صواريخ باتريوت المضادة للأهداف الجوية والتي تعتبر  المظلة الحامية لحلف الناتو من قواعدها في الاراضي التركية، وهي من الأخطاء القاتلة والتي حدثت في عهد الرئيس الديمقراطي أوباما - في حينها  اضطرت تركيا إلى بحث بديل عن تلك الصواريخ بعد تيقنها من استحالة الحصول عليها رغم أن تلك الصواريخ موجودة في دول خارج الحلف.

لذا فإن لجوء تركيا للبحث عن البديل لتلك الصواريخ هي لجوء المضطر بعد تزايد إمداد الأمريكان لما يسمى بوحدات الحماية الكردية (ي ب ك) في الحدود الجنوبية والشرقية لتركيا وخوفا من حصولها على أسلحة فعالة تثير بعض الصعوبات على تحرك قواتها في حدودها الجنوبية.

ومن المؤكد أن تركيا تفكر مليا وجديا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وهذا ما سعت إليه منذ فترة طويلة ولكن طال انتظارها على أبواب الاتحاد وربما أصابها الملل وحتى اليأس من الدخول في النادي، ففي هذه النقطة صرح الرئيس أردوغان بأنه ربما سيجري استفتاء حول دخولها الاتحاد أو التجاوز والتوقف عن المطالبة بالدخول نهائيا، مما يؤكد أن أنقرة ستبحث ببدائل من الدخول في النادي الأوروبي.

ولكن من المعروف أن الدول الأوروبية لا توافق على قبولها كعضو في الاتحاد، فقانون القبول للعضوية يتحتم موافقة الأعضاء والجدير بالذكر أن العضوية في الاتحاد تنقسم إلى العضوية الأصليّة: وهي العضوية التي منحتها الدول الأوروبية المؤسسّة للاتحاد الأوروبي. العضوية بالانضمام: وهي العضوية المفتوحة للدول الأوروبية فقط، وفقًا لشروط الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فهي عضويّة كاملة. العضوية بالانتساب: وهي عضوية مفتوحة للدول الأوروبية وغير الأوروبية على حدٍّ سواء، لكنها عضوية غير كاملة أو ناقصة. ويتمتع العضو الأصلي والعضو المنضمّ بكامل حقوق العضويّة، أما العضو المنتسب فلا يتمتع بتمثيل مجلس الوزراء، ويجوز إيقاف عضويّة أي دولة من الدول المنضمّة إلى الاتّحاد الأوروبيّ في حال ارتكاب مخالفة جسيمة لأحكام النظام الأساسيّ، أو في حال التخلّف عن تنفيذ الالتزامات الماليّة، ورغم موافقة تركيا على كل قرارات الاتحاد سواء ما يخص الإجراءات الاقتصادية أو المالية او المطالب السياسية والحقوقية والانسانية - إلا أنها تمتنع عن قبولها كعضو بل تحاول منحها صفة قريبة من العضوية أو بشكل شراكة مع الاتحاد وهذا ما لا تقبله تركيا إطلاقا.

الموقف الأمريكي من انضمام تركيا غير مستغرب إطلاقا فحتى وقت قريب كانت تركيا الحليف الاستراتيجي الأقرب لأمريكا ومسألة وجودها في داخل الاتحاد قد يخفف من تأثير الاتحاد على الاقتصاد الأمريكي إن صح التعبير أو ستزول بعض العوائق عند وجود حليف مخلص كتركيا، ومن الطبيعي القول رغم أن واشنطن ترحب بدخول تركيا للنادي إلا أنها تتمنى إزالة النادي وتسعى وتحاول ذلك في الخفاء أو وضع العراقيل بقصد تضييق مساحة تحركها ونفوذها الاقتصادي.

وعلى العموم فإن الأوضاع والتطلعات التركية نحو نمو اقتصادها وازدهارها قد توسعت كثيرا بعد سلسلة من الاتفاقات خارج المظلة الأوروبية والأمريكية واتجهت صوب الشرق فقد رغبت أن تكون عضوا مؤثرا في دول الآسيان الاقتصادية القوية المسنودة من الصين وإندونيسيا وكذلك سعيها الحثيث لتقوية علاقاتها مع ماليزيا وروسيا  وغيرها.

كانت مسألة سحب بطاريات باتريوت من قواعدها في تركيا القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقات الأوروبية والأمريكية مع تركيا في وقت كانت بحاجة ماسة لتلك الأسلحة وتزامنت تلك الإجراءات غير المعقولة والمقبولة بتزويد عناصر تنظيم "ي ب ك" المناهض لتركيا بالأسلحة وبكميات هائلة، مع التلكؤ في تزويد تركيا بطائرات أف 35 المتطورة بحجج واهية وغير مقبولة.

إن توجه تركيا نحو تسليح بعض جوانب جيشها بالأسلحة الروسية قد طرح حتما منذ سحب بطاريات باتريوت ومن المعقول جدا لو قلنا بان هناك صفقات أخرى تحدث بين الروس والأتراك ما دام الموافقات المبدئية على أن تكون تركيا جزأً أساسًا في تصنيع بعض أو كل أجزاء أية صفقة أسلحة مستقبلا مع الروس أو مع غيرهم.

ولسنا هنا أيضا نتحدث عن الروس وعلاقاتهم ومشاويرهم مع الحكومات والشعوب وكأنهم نسخة مجددة من أفكار وأفعال الاتحاد السوفيتي والتي كانت تفضل المصلحة الروسية على المصلحة السوفيتية وتولي الاهتمام الأكبر لذلك، أما دعواتها ومساندتها لباقي الشعوب كدولة عظمى فقد كانت تساند الشعوب المضطهدة ضد الحكومات القاهرة وبنفس الوقت تساند غيرها من النظم الدكتاتورية العسكرية ضد شعوبها المغلوبة، وبصيغة أوضح فانها كانت تساند كل نظام أو أية جماعة أو اتحاد أو حزب يساري أو شيوعي راديكالي، أو تحاول استمالة كل دولة تناهض مواقفها ضد الولايات المتحدة والرأسمالية، وتكمن جل علاقاتها كدولة السوفيت السابق أو روسيا الحالي هو توظيف خلافات الدول مع الولايات المتحدة والغرب واستغلالها دون الاهتمام بما ستكون عليه الأمور مع تلك الحكومة وأقرب دليل هي وقوفها بصورة غير حضارية مع نظام الأسد ضد الشعب السوري، لكن هناك ميزة فريدة في العلاقات مع الروس أنها لا تحبذ التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، سوى تلك الشطحة التي سحبت إليها بقشرة الموز الملقية من إيران تحت قدميها وأوصلتها للمستنقع السوري.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس