فهد الرداوي - خاص ترك برس

يلوح في الأفق القريب غبار حربٍ قد تكون حاسمةً بالنسبة لتركيا ومتوازنةً بنفس الوقت مع المعادلات الدولية ذات الشأن، فها هي ملامح عملية شرق الفرات ترتسم بصورة واضحة أكثر من أي وقت مضى، فتلك العملية التي أجلّتها تركيا منذ عدّة أشهر على لسان وزير دفاعها حين قال: (التأجيل لا يعني الإلغاء)، نراها تُعاود فتح هذا الملف الشائك والمتقاطع الأبعاد في المصالح والرؤى، فمنذ الأمس تجري في العاصمة التركية أنقرة المباحثات المطولة والحساسة مع وفدٍ أمريكي رفيع المستوى، ربما لتحديد هوية الخصم أو لترسيم خطوط الطول والعرض، مع تحديد الأهداف السياسية والعسكرية والعمق الزمني لهذه العملية التي وفرّت لها تركيا المُناخ المطلوب.

أمريكا لا تُضيّع الوقت

تعمل الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اجتماعاتها المتكررة مع الجانب التركي على إيجاد مُعادل موضوعي في ميادين المكاسرة هذه، فمن جهةٍ تُعد تركيا حليفًا استراتيجيًا مهمًا وقويًا وشريكًا في حلف الناتو، وفي الجهة المقابلة تعمل الولايات المتحدة على توفير غطاءٍ لقوات (قسد) وتستعملها كورقة ضغط على تركيا لضمان مصالحها الاستراتيجية بعدم ظهور تنظيمات ردود الأفعال التي تهدد مصالحها، ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، و رُجُوح المواقف الأمريكية الداخلية الرافضة للحرب والمؤيدة للانسحاب الأمريكي من سوريا، أصبح لا بد من إيجاد حل "منتصف الطريق" ففي نهاية الأمر أمريكا لا تُضيّع الوقت ولا تخوض الحروب نيابةً عن أحد، الأمر الذي تلقفته تركيا ببراعة تامة، مسوقةً بذلك، أنَّ حدودها الممتدة مع سوريا على طول 912 كم هي ليست حدوها وحدها بل هي حدود دول الناتو أجمع، ويتوجب العمل على استقرارها لضمان أمن وسلامة شرايين التجارة البرية التي تعبر منها، وتركيا تستطيع القيام بهذا العمل منفردةً وتضمن مصالح الشركاء.

شرق الفرات وتفاهمات غاز المتوسط

منطقة شرق الفرات، هذه المنطقة التي تتمتع باستراتيجية كبيرة جدًا، ولا تنحصر أهميتها بطرق التجارية البرية فقط، بل إنّ هذه المنطقة ترسو على بحار من النفط والغاز والموارد المائية الهائلة وخصوبة الأراضي الزراعية وثرواتها الحيوانية والسمكية، ما جعل منها محط أنظار الكثير وهدفًا يرنو الجميع لتحقيقه، فتوالت بها النزاعات واختلفت فيها جغرافية السيطرة الزمنية، فشبعت من إراقة الدماء وعمليات النزوح والتهجير المتكررة صوب الأراضي التركية والأوروبية، ما جعل من الأمر يُشكل تغييرًا أمنيًا وجيوسياسيًا بات يُهدد مصالح الجميع، خصوصًا بعد قرار الانسحاب الأمريكي من شمال شرق سوريا وإيكال مهمة التواجد التوازني المتمثل بقوات (قسد) المدعومة من قبلها، والمتشاحنة أصلًا مع تركيا التي تعتبر وجود هذه القوات في خاصرتها الجنوبية تهديدًا لأمنها القومي، هذا الشيء جعل من مسألة إيجاد حلٍّ في ملف الشمال السوري أمرًا شبه مستحيل، ولكن أمريكا بالفترة الأخيرة قد تراخت بشكل ملحوظ في مستويات الدعم المُقدّم لقوات (قسد)، ما يعني أنَّ الولايات المتحدة قد تركت الباب مفتوحًا للكثير من التفاهمات السياسية مع وجود ضاغطٍ عسكري تحت الطلب بتكلفة بشرية "أمريكية" صفرية، قد تكون لعبة حافة الهاوية لبعض الأطراف في المنطقة، الأمر الذي تفهمته تركيا سريعًا وبادرت إلى ترجمة هذا الموقف وتغليف مصالحها ببوادر حُسن النية لتلعب دور الناظم الاستراتيجي الذي يضمن استقرار هذه المنطقة ويوقف عمليات النزوح والدربكة، فأعادت طرح مسألة المنطقة الآمنة مع تمرير عملية شرق الفرات، لتعمل بعدها على إعادة ملايين اللاجئين السوريين المتواجدين على أراضيها، ولتكون بذلك قد أراحت نفسها من ملفين أثقلا كاهلها كثيرًا (ملف اللاجئين السوريين وملف الأكراد الانفصاليين)، وربما ستكشف الأيام القليلة القادمة عن تفاهماتٍ واستثمارات كبيرة جدًا لصالح الولايات المتحدة في ملف الغاز الطبيعي بشرق المتوسط ولا يخلو الأمر أيضًا من بعض القواعد العسكرية التي ربما سيتضمنها هذا الاتفاق، الأمر الذي تنبأت به روسيا باكرًا لتعلن على لسان وزير طاقتها (ألكسندر نوفاك) بأنها على استعداد تام لمرافقة تركيا في المتوسط لاستكشاف الغاز الطبيعي ولاستكمال الشراكة (التركية الروسية) التي قد بدأت قبل أعوام وتكلّلت بالنجاح بمشروع "السيل الأزرق" ولرفع مستوى الاستثمار أيضًا بين البلدين لأكثر من 25 مليار دولار، بهذا العرض الروسي تكون تركيا قد ضمنت شريكًا قويًا هي بحاجةٍ إليه كحاجتها للولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي الأقوى عالميًا.

المنطقة الشرق متوسطية قادمة في قريبها العاجل على تغيرات وتفاهمات جذرية وبسطٍ لجغرافية النفوذ، تتقاطع به المصالح الاستراتيجية ذات الأهمية الكبرى ولا مكان فيه لوجود الملفات الصغيرة التي انتهت مدتها الزمنية وآنَ أوانُ حَلِّها.

عن الكاتب

فهد الرداوي

الأمين العام لتيار التغيير الوطني السوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس