غراهام فولر - Lobe Log - ترجمة وتحرير ترك برس 

ها نحن نسير مرة أخرى في مرحلة جديدة من الانشقاق على الولايات المتحدة "من خسر ….. البلد الفلاني". فذات مرة كان هناك من خسر الصين في عام 1949، ثم كوبا في عام 1959، ثم إيران في عام 1979، وغيرها، وأحدث حلقة الآن "من خسر تركيا؟".

يُطرح هذا السؤال كلاسيكيًا كلما انقلبت فجأة دولة اعتقدنا أنها كانت مغلقة بقوة في "المعسكر الأمريكي". يبدو أن صانعي السياسة في واشنطن يعتقدون حقًا أن الولاء الاستراتيجي للولايات المتحدة، من بين الدول العاقلة، هو أمر طبيعي. ولا يفترض أن يحدث أي انشقاق عن مثل هذا التحالف، وإذا حدث ذلك بالفعل، فعلى "من يقع اللوم؟". كيف يمكن لتركيا، "الحليف الموثوق للولايات المتحدة وحلف الناتو"، أن تطور علاقات عمل جيدة مع روسيا، وتعمل جنبًا إلى جنب. مع إيران، أو تنخرط في رؤية الصين الأوراسيوية الجديدة؟

تصبح إجراءات أنقرة أكثر منطقية، إذا نظرنا بمنظور أوسع إلى ما يتعلق بما كانت عليه تركيا طوال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية.

ببساطة شديدة، بدأت تركيا بمرور الوقت في السير على طريقها الخاص في ممارستها الكاملة لسيادتها. خلال الحرب الباردة، كانت تركيا تعد حليفا "مخلصا" بارزا لحلف الناتو. بالنسبة لتركيا كانت الحقيقة الجيوسياسية البارزة هي أنها تقع على حدود الاتحاد السوفيتي. انخرطت روسيا في قرون من المواجهة والحرب مع الإمبراطورية العثمانية التركية. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ظهرت دول مستقلة جديدة - جورجيا وأرمينيا وأذربيجان - في هذا الفضاء السوفيتي السابق - على طول الحدود الشرقية لتركيا. وفجأة لم تعد تركيا على الحدود مع روسيا، في تحول جيوسياسي كبير.

في الوقت نفسه، ومع نهاية الحرب الباردة، بدأ الأتراك في التفكير في وضعهم في العالم بعبارات جديدة تمامًا. لم تعد تركيا تعتبر نفسها كما فعلت أمريكا وحلف الناتو، قاعدة استراتيجية شرقية في المقام الأول لاستراتيجية غربية يقودها الناتو. بالنسبة لأنقرة، فإن معنى وغرض الناتو نفسه كانا موضع شك.

 سأجادل، وهو ما سيعرضني لهجوم شديد من قبل مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، بأنه مع نهاية الإمبراطورية الشيوعية السوفيتية، سرعان ما بدأ الناتو يفقد أهميته الاستراتيجية. (لا تزال واشنطن بالطبع تدافع عن حلف شمال الأطلسي بقوة؛ لأنه يمثل منذ مدة طويلة الأداة الرئيسية لقبضة السياسة الخارجية الأمريكية على أوروبا، والتي يطلق عليها في كثير من الأحيان "التحالف الأطلسي".) ولكن مع نهاية الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفياتي، فإن هوية أوروبا أصبحت بعيدة كل البعد عن "التحالف الأطلسي" وفق رؤية واشنطن. أوروبا الآن هي أوروبا، تسعى على نحو متزايد لمزيد من التحرر من الضغط بين الشرق والغرب، ومن التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا. أوروبا تتذوق أكثر من أي وقت مضى استقلالها المتنامي في الرؤية وتفسيرها الخاص لمصالحها الاستراتيجية بصرف النظر عن كونها أداة في حقيبة الأدوات الجيوسياسية الأمريكية. وفي الواقع، تشعر أوروبا الآن بأنها جزء من الفضاء الأوراسي أكثر من كونها جزءًا من المحيط الأطلسي. موسكو أقرب بكثير من نيويورك.

لا شك أن أسلوب سياسة ترامب الفج والمهين قد سرع استعادة هذه الهوية الأوروبية الجديدة والمستقلة. ولكن سيكون من قصر النظر أن نعزو هذا الاتجاه الجيوسياسي الرئيسي في أوروبا إلى ترامب. فمع نهاية الحرب الباردة، كانت عملية الاستقلال الأوروبي الأكبر حتمية وبدأت بالفعل في التطور قبل فترة طويلة من ترامب. لكن مؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن، والتي غالبًا ما تنكر التحولات الجيوسياسية العالمية، قد تسأل الآن "من خسر أوروبا؟".

وعلى نفس المنوال، بدأت تركيا أيضًا في إعادة تصور نفسها بشكل أكبر في المنظور الجيوسياسي التاريخي للإمبراطورية العثمانية السابقة التي امتدت سياستها ونفوذها سياسيًا أو ثقافيًا بطريقة أو بأخرى من آسيا الوسطى عبر الشرق الأوسط وإلى الشمال أفريقيا وحتى البلقان وحتى في شرق إفريقيا. ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الإمبراطورية العثمانية كانت تمثل قلب الإسلام السني ومقره. 

عند إلقاء النظر على الخرائط السياسية والثقافية للعالم، يتضح لنا مدى تموقع تركيا في أوراسيا. صحيح أن مصالحها في أوروبا لا تمثل سوى الجناح الغربي للجناح الثقافي لتركيا، لكنها ليست حتى أكثر من يعرّف الجناح الجيوسياسي والثقافي التركي. ربما كانت السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان مفرطة في الطموح في تقدير نفسها كقوة سنية مهيمنة في الشرق الأوسط، ولكن يمكن القول إنها كذلك. لكن بالنسبة لأنقرة، كانت الانتفاضة السورية في عام 2012 نقطة تحول، عندما بدأ أردوغان في تلمس ما كان يمثل رؤية جريئة ومستقلة للسياسة الخارجية التركية. (انظر كتابي "تركيا والربيع العربي" للاطلاع على تحليل أعمق للهوية التركية والثقافة السياسية.) لكن مغامرة أردوغان السورية في عام 2012 مثلت فعلًا انحرافًا كبيرًا عن سياساته "الجار الصالح" الرائدة السابقة واحتضان تركيا العلني للهوية الإسلامية المكبوتة منذ زمن طويل. لقد تسببت القرارات السيئة بشأن سوريا في خسارة تركيا لتوجهها الراسخ في السياسة الخارجية. لكن أنقرة تحاول بالفعل ببطء استعادة رؤيتها السابقة للسياسة الخارجية، كقوة إسلامية وآسيوية بحكم الواقع.

وماذا عن  أنقرة فيما يتعلق بروسيا؟ تدرك تركيا جيدا أن روسيا عنصر فاعل مهم في الشرق الأوسط وبلاد الشام منذ  مئات السنين ترجع إلى العصر القيصري. لكن اعتبارا من عام 1991، لم تعد روسيا إمبراطورية توسعية على حدود تركيا. وبينما عملت الولايات المتحدة لدفع الناتو بشكل استفزازي حتى عتبة روسيا، تتقاسم روسيا بشكل متزايد مع الصين هدف إحباط جهود الولايات المتحدة الفاشلة للحفاظ على دورها القديم المتمثل في الهيمنة العالمية. في غضون ذلك، أعادت الصين رسم هذه المساحة الأوراسية بشكل خلاق بمشروعها البصري لمركز التجارة والنقل عبر أوراسيا، بمبادرة حزام واحد طريق واحد.

هل يمكن لأحد أن يتخيل حقًا أنه في ظل هذه الحقائق الدرامية الجديدة للقرن الحادي والعشرين، لن تشارك تركيا بقوة في هذه العملية؟ وهل ما زال حلف الناتو في الواقع يعني الكثير بالنسبة لتركيا (أو حتى بالنسبة لكثير من الدول الأوروبية مثل فرنسا أو ألمانيا) سوى أنه أداة مفيدة للتعامل مع الولايات المتحدة وأوروبا؟ من المفارقات أن عضوية تركية الشكلية في حلف الناتو تزودها بثقل موازن مفيد يجعلها أكثر نفوذا في تعاملاتها مع روسيا والصين.

من وجهة نظر أنقرة، ليس لديها الكثير لتخسره، على الأقل فيما يتعلق بأمنها، إذا قلصت، إن لم يكن تخلت عن، علاقاتها بالناتو بشراء أنظمة الصواريخ الدفاعية الروسية S-400. وكجزء من هويتها المزدوجة بين الشرق والغرب، تعرف تركيا أنه سيكون من الغباء قطع جميع العلاقات مع الغرب - خاصة من الناحية الاقتصادية - تمامًا كما سيكون من الحماقة إعادة توجيه نفسه تمامًا إلى الغرب وإدارة ظهرها في المستقبل إلى هذا المشروع الأوراسي النامي القوي.

أخيرًا، بالنظر إلى سجل السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط - وهو سجل من الأخطاء المتسلسلة والحسابات الخاطئة والحروب والكوارث التي لم تنته بعد - سيكون من غير الواقعي بالنسبة لتركيا أن تواصل الرغبة في تعريف نفسها بوصفها مرتبطة بهذه "القيادة الأمريكية". وعلاوة على ذلك، كانت سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران - الجارة ذات الأهمية الكبرى لتركيا - غير منطقية منذ السقوط المدمر لشاه إيران، الحليف الأكبر لأمريكا في عام 1979. إيران أيضًا فخورة وعنيدة وقومية في تعاملاتها، لكن تركيا تدرك أن قدرها العمل مع إيران على أساس واقعي بشأن القضايا الإقليمية الرئيسية - كمنافسين من حين لآخر بالإضافة إلى تقاسم المصالح المشتركة. وعلى الرغم من التوترات الدورية، فإن تركيا وإيران ـ وهما القوتان  المتطورتان الوحيدتان اللتان لهما جذور تاريخية، المستقلتان ثقافيا وجتماعيا حقًا في التاريخ - لم يدخلا في حرب فيما بينهما منذ قرون عديدة. من المؤكد أن أنقرة ليس لديها أي رغبة أو حافز لمتابعة القيادة الأمريكية في تحدي إيران، الأمر الذي قد يتحول إلى فوضى. 

تدرك روسيا جيدًا الطبيعة القومية الشائكة لقيادة أنقرة وطهران في هاتين الدولتين ذاتا الثقل. لقد أدارت موسكو علاقاتها مع الدولتين بمهارة حتى الآن بفعالية. وفي المقابل لم تدر واشنطن أي مجموعة من العلاقات بفعالية.

لذلك لم يخسر أحد في واشنطن تركيا، فقد كانت العملية نتاج قوى جيوسياسية لا تعد ولا تحصى. وعلاوة على ذلك، يجد الأتراك أنه من المهين أن تنظر إليهم واشنطن بوصفهم  ملكية خاصة "تُحفظ" أو "تفقد"، أو تقبل الادعاء بأن أنقرة يجب أن تكون "حليفا أمريكيا". من المرجح ألا تكون تركيا "حليف" لأحد، وهو ما تعرفه روسيا. إن المجازفة التركية الحالية بشرائها للصواريخ الروسية وإعلانها عن حقوقها في احتياطيات الطاقة في منطقة البحر المتوسط ​​حول قبرص يعكس مجهودًا محفوفًا بالمخاطر من جانب أردوغان لتحويل الانتباه بعيدًا عن المشكلات الداخلية إلى المبادرات الأجنبية. ولن تكون تركيا صديقًا لإسرائيل.

سيكون من الخطأ الفادح افتراض أنه عندما تظهر قيادة تركية جديدة ، فإنها ستعود إلى الوضع القديم "للحليف" الذي اعتمد عليه الغرب منذ مدة طويلة. قد يسعى أي قائد جديد في البداية إلى تسوية بعض الخلافات هنا وهناك مع الغرب، ولكنه سيواصل بالتأكيد متابعة ما تعتبره تركيا مصيرها الجيوسياسي الموسع الذي يشمل الانخراط العميق في أوراسيا.

عن الكاتب

غراهام فولر

النائب السابق لرئيس مجلس الاستخبارات القومي في وكالة المخابرات المركزية (CIA).


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس