د. مدى الفاتح - القدس العربي

الحديث عن عمق العلاقة بين تركيا والسودان ليس مجرد مجاملة دبلوماسية خالية من الروح بقدر ما أنه حقيقة يشترك فيها السودان مع كثير من الدول والمناطق التي كانت لفترة من الزمن تتبع للسلطنة العثمانية أو تنضوي تحت حكم الخلافة.

تكفي نظرة معمقة للغة الدارجة السودانية من أجل تبين حجم تأثير اللغة التركية والمفردات العثمانية عليها، حيث لا يمكن حصر الكلمات ذات الأصل التركي في مجال المنزل والمأكولات والإدارة وغيرها مما لا يزال بعضه مستعملاً حتى الآن.

لوقت قريب كانت هناك أمثلة أخرى لبقايا الآثار العثمانية المادية من التي تمكث شاهدة على عمق التواصل الحضاري، ففي أكثر من مدينة كانت البيوت التاريخية الواسعة التي يطلق عليها شعبياً اسم "السرايات" شاهداً على تجذر المعمار التركي الذي بقيت كثير من سماته تشكّل أساس البيوت السودانية. ما زلت أذكر ملامح تلك السرايات التي رأيتها في صغري في مسقط رأسي مدينة "حلفاية الملوك"- شمال الخرطوم.

مع تغير الزمن وعدم وجود رعاية أو اهتمام رسمي بتلك الآثار تحول كل ذلك تدريجياً إلى معمار حديث، فبالنسبة للمالكين، ومع غياب الاهتمام الرسمي، كانت تلك البيوت ذات المساحة الكبيرة مجرد عقار خاضع لشروط التوريث وقابل للتجديد بما يخدم الاحتياجات العصرية ورغبة الأجيال الجديدة.

بشكل عام فإن العلاقة مع السلطنة العثمانية، ثم مع الجمهورية التركية الوليدة لم تكن تسير على نمط واحد، بل كانت تمر بفترات ازدهار وخفوت بحسب المزاج السياسي للحاكمين، وهو الأمر الذي استمر تصاعداً وهبوطاً حتى عهد حزب "العدالة والتنمية" وتولي الرئيس رجب أردوغان مقاليد الحكم.

تزامن صعود العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان في تركيا مع تجذر سلطة الرئيس عمر البشير وحزبه في السودان، ذلك التزامن أوجب خلق علاقة عضوية بين الجهتين فرضتها الأهمية الاستراتيجية التي يشكّلها كل طرف للآخر: السودان الذي كان يبحث عن علاقة يمكن استغلالها مع الدول الصاعدة، وتركيا التي كانت ترى في السودان بوابة عبور نحو القارة الإفريقية المهمة بالنسبة لها اقتصادياً وسياسياً.

كانت تلك العلاقة قد بلغت ذروتها إبان زيارة الرئيس رجب أردوغان للسودان في ديسمبر 2017. الزيارة التي كانت الأولى لرئيس جمهورية تركي للبلاد كانت توضح إلى أي مدى صارت العلاقة بين البلدين وثيقة ومترابطة. لكن تلك الزيارة أثارت، في نفس الوقت، بعض سوء الفهم الذي ما تزال بقاياه مؤثرة على مناخ العلاقة الثنائية رغم التغيير السياسي الذي حدث في السودان، أو ربما بسبب ذلك التغيير.

ارتبطت تلك الزيارة بموضوع ميناء "سواكن" الذي اقترح الأتراك استلامه وتطويره وهو الأمر الذي أثار تساؤلات ليس فقط في الداخل، ولكن أيضاً على صعيد بعض دول الإقليم التي لم تبد مرحبة باقتراب تركيا من تلك المنطقة التي تتوسط البحر الأحمر ذو الأهمية الاستراتيجية.

لفهم اهتمام الأتراك بمدينة سواكن يجب أن نذكّر بما أوردناه أعلاه من موضوع "السرايات" التي تلاشت وتحولت مع مرور الزمن إلى منازل حديثة، فكما تلك البيوت كانت مدينة سواكن وميناؤها قد بدأت تفقد تدريجياً، وخاصة بعد إنشاء الإنجليز مدينة بورتسودان، كل سماتها التاريخية وكل ذلك الإرث الذي يعود لمن مر عليها من قادة بطالسة ويونانيين وعثمانيين، كما بدأت تفقد توقيعات الظاهر بيبرس والسلطان سليم الأول، الزعيمان اللذان شكلا جزءاً من ملامحها.

لا يمكن فصل محاولة استعادة الملامح العثمانية لسواكن عن جهود تركيا المماثلة في أكثر من مكان في العالم، في مدن آسيا وأوروبا الشرقية وكل مكان كان فيه للعثمانيين بقايا أثر، حيث قام الأتراك بحملات واسعة لترميم الآثار والمساجد والمزارات العثمانية في تلك المناطق وغيرها، وهنا يفهم الأتراك أن الأمر لا يتعلق فقط بالبلد موضوع الأثر، ولكنه يتعلق أيضاً بالتاريخ التركي ويستوجب اهتمام ورعاية الدولة التركية بعد الاستئذان من أصحاب السيادة والحدود السياسية.

بهذه الخلفية يمكن أن نفهم تصريح الرئيس أردوغان الذي ذكر فيه سواكن إبان الحملة الانتخابية بداية هذا العام: "نتشبث بميراث الأجداد من آسيا الوسطى حتى سواكن السودانية".

هنا يتوجب علينا أيضاً أن ننقض ذلك الافتراض الشائع عن وجود علاقة خاصة بين أردوغان والرئيس السوداني المعزول فرضتها الإيديولوجية الإسلامية أو العلاقة ضمن "تنظيم أخواني دولي"، ليس فقط بسبب عدم وجود دليل على وجود ذلك التنظيم الدولي الذي يتم تصويره كرابطة أو نادٍ يضم أفراداً ومسؤولين عالميين، ولكن لأن وصف الإسلامي التقليدي، "الأخواني"، لا ينطبق لا على الرئيس أردوغان الذي ما يزال يفتخر بعلمانية نظامه وبسيره على خطى المؤسس كمال أتاتورك، ولا على البشير الذي اتضح لشعبه أن نظامه، الذي ظل يتنقل بين محاور مختلفة، لم يكن يقوم سوى بالمتاجرة باسم الإسلام الذي كان يستخدمه كورقة عاطفية ناجحة.

هكذا يكون الزعم بوجود علاقة خاصة وارتباط بين الرئيس التركي والرئيس السابق أمراً بلا أساس، رغم أنه كان مما يسعد النظام المخلوع ورموزه أن يوضع الرجلان في خانة واحدة، حيث ظلت تركيا وتجربة العدالة والتنمية بالنسبة للكثيرين من أهم قصص النجاح والصعود في المنطقة. لكن الزعم وحده لا يكفي ولا يصمد طويلاً أمام الحقائق الملموسة التي منها تأخر أردوغان في تلبية دعوة صديقه المفترض، البشير، الذي كان يريد من خلال هذه الزيارة أن يثبت أنه ما يزال يحظى بمكانة دولية، كما أن منها تركيز الجانب التركي خلال الزيارة على الجانب الاقتصادي دون السياسي والحرص على عدم الإدلاء بأي تصريح قد يفسّر على أنه تعاطف أو اصطفاف مع القيادة السودانية. أيضاً يمكن أن نقارن تفاعل الرئاسة التركية بالتغيير في السودان ومقارنته بما حدث في دول أخرى لنتبين وهن فرضية "العلاقة الحميمة"، حيث اكتفى المسؤولون الأتراك بالقول في تصريح مقتضب إن السودانيين قادرون على التصرف في شؤونهم واختيار الأفضل لحكم بلادهم. قارن ذلك على سبيل المثال مع التصريحات القوية إبان محاولة تغيير الرئيس الفنزويلي مادورو وهي المحاولة التي لم تتأخر القيادة التركية عن إعلان رفضها لها أو للمساس بالشرعية السياسية هناك.

لا شك أن أحد أسباب برود ردة الفعل التركي إزاء الإطاحة "بالحليف المفترض" تكمن في اقتناعهم بأنه لم يكن يحظى بشرعية وأن حكمه لم يكن يستند على أي مسوغ، فلا الانتخابات الأخيرة كانت شفافة، ولا محاولة التمديد لشخص ظل لقرابة الثلاثة عقود على سدة الحكم كانت مبررة.

بعكس دول أخرى، اكتفى الأتراك بالمراقبة وانتظار ما ستسفر عنه الخيارات الشعبية الداخلية، كأنهم كانوا يؤمنون بأن الانخراط البناء مع الحدث السوداني إنما يكمن في عدم الانخراط، رغم ذلك كان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حاضراً إبان مراسم الاحتفاء بالوثيقة الدستورية المؤسسة لفترة الحكم الانتقالي في تدليل على أهمية العلاقة بين الجانبين وثباتها رغم محاولات التشويش.

إن المطلوب في هذا الوقت هو علاقة تعاون ندية بمعنى إيجابي للتعاون، لا بالمعنى القديم الذي لم يكن يعني سوى اليد السفلى ومتابعة تلقي الدعم والمساعدة، فبالنسبة لبلد بحجم وإمكانيات السودان يظل هناك الكثير لتقديمه والمساهمة به سواء من ناحية الموارد البشرية أو المادية.

عن الكاتب

د. مدى الفاتح

كاتب سوداني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس