باسل الدبعي - خاص ترك برس

السينما التركية بين السرد المسرحي والبناء السينمائي

عُرف المخرج الطلائعي "جورج ميليه" بأسلوبه المسرحي القائم على السرد القصصي في شرح القصة وربط الأحداث، والذي أضفى بذلك تحولًا تاريخيًا ثوريًا جعل السينما تلتقط أنفاسها من جديد بعد أن كادت تموت.

اكتشف لاحقًا الأمريكي "بورتر" أحد المصورين الأوائل الذين عملوا مع المخترع "أديسون" أن الطريقة السينمائية في رواية القصة لا تقوم على أساس المشاهد، بل على أساس ترتيب اللقطات، وبذلك اكتشف فن البناء اللغوي للسينما ناقلًا العمل السينمائي من فضاء المسرح الذي أسسه "جورج ميليه" إلى فضاء سينمائي حقيقي جديد.

الصناعة السينمائية التركية لم تكن بمعزل عن تأثير ذلك الفن الأصيل من الإبداع الفني المتمثل بالفن المسرحي الذي ابتدأته عام 1915م ليستمر متربعًا على المشهد الفني التركي طيلة 30 عامًا، لكن مع بداية عام 1950حدث تحول تاريخي كبير قاده عميد السينما التركية المنجذب للواقعية المخرج عمر لطفي عقّاد عبر فيلم "اضربوا الباغية" الذي استطاع من خلاله أن يًحِدث نقلة نوعية في الصناعة السينمائية التركية ناقلًا القصة من الفرجة المسرحية إلى الفرجة السينمائية، لتزدهر بعد ذلك عجلة الصناعة السينمائية التركية وتبلغ مجدها وألقها ليعرف ذلك العصر بـ"العصر الذهبي" غير أن ذلك التألق بدأ بالانحدار السريع والانهيار المفاجئ مع بداية اندلاع اضطرابات داخلية عصفت بالبلاد لمدة عقدين، ففي 12 أيلول/ سبتمبر 1980 دخلت تركيا في أزمة انقلاب عسكري، تسببت بعملية ارتداد عكسي لحالة النمو التي كان يشهدها القطاع، امتدت تأثيرات تلك الأزمة حتى عام 1992 ما أدى إلى انخفاض مستوى بيع التذاكر من 247 مليون ليرة حتى 50 مليون ليرة في عام 1984، ثم إلى 11 مليون في عام 1990، ثم إلى 8.3 مليون في عام  1992.

القنوات التلفزيونية وبصيص الأمل

بعد عام 1993 بدأ انتشار القنوات التلفزيونية الخاصة والتي كان لها دور مساعد في بناء جيل جديد من المنتجين الفنيين، حيث ساهمت بشكل مباشر في إعادة إحياء البنية التحتية لسوق الإنتاج الفني، مما انعكس إيجابًا على المسار التلفزيوني السينمائي الذي بدأ ينتعش من جديد، غير أن تلك العلاقة بدأت بالضمور في منتصف التسعينيات.

الدعم الأوروبي

شكّلت الألفية بداية مرحلة جديدة في دورة حياة المنتج السينمائي التركي، وكانت بالنسبة له بداية انفراجة حقيقية للانبعاث من جديد على الصعيدين الوطني والدولي، انضمت تركيا لاحقًا إلى منظمة (Eurimages) الأوروبية- هي رابطة تعنى بدعم المشاريع السينمائية لمجموعة من دول الاتحاد الأوروبي - حيث تلقت شركات الإنتاج التركية دعم مالي ما بين 1990-2013 يوازي (21 مليون يورو) عبر إنتاج مشترك وقروض بدون فائدة.

أرقام وإحصاءات

قام المرصد الأوروبي - المتخصص في الدراسات الإحصائية والتحليلية في مجالات الأفلام والتلفزيون والفيديو للفترة 2014-2013 - بعمل دراسة بحثية حول سوق السينما في تركيا، أشارت إلى أن مرتادي السينما في تركيا يمكن تصنيفهم بحسب الفئة العمرية على النحو التالي:

(31%)  نساء (70%) رجال (17%) متزوجون ( 82%) غير متزوجون (16%) من عمر 15-18 سنة (20%) من عمر 26-30 سنة (53%) من عمر 19-25 سنة، كما أوضحت أيضًا نوعية الطلاب المرتادين لقاعات السينما وآلية مداخليهم المالية:

(37%) موظفون  (46%) طلاب (17%) طلاب مرحلة إعدادية (22%) طلاب مرحلة جامعية (57%) طلاب مرحلة ثانوية، كما أفادت الدراسة أيضًا أنه تم إنتاج (687 فيلم) للفترة 1990-2013 عن طريق (358 شركة إنتاج) أي بمعنى (30 فيلم) فيلم لكل سنة، لتستحوذ 15 شركة إنتاج على ما يقرب من 90% من إنتاجات السوق، بينما بقية الشركات نتتج ما يقرب من 10% من الانتاج.

الدعم الحكومي

بداية اليقظة الفنية – إن صحت العبارة - كانت عام 2005 حين سنت الحكومة التركية قانونًا جديدًا قضى بإلغاء قانون الضرائب على المنتج السينمائي، كان ذلك التشريع بمثابة الإنعاش الرئوي الذي أدى إلى تسريع دورة حياة الفيلم التركي والنهوض به من جديد، استمر الدعم الحكومي للصناعة الفلمية عام 2016 لإنتاج 200 مشروع سينمائي بمبلغ (30 مليون ليرة)، كما صرح أيضًا الرئيس التركي أردوغان منتصف هذا العام 2019 بأنه تمت مضاعفة الدعم الحكومي للأنشطة الثقافية 50 ضعفًا عما كان عليه الحال في عام 2002.

الخروج من عنق الزجاجة

في عام 2014  احتفلت السينما التركية بمرور 100عام على إنشائها، حيث تم إنتاج (357 فيلم) وفي عام 2015 (402 فيلم) كما تم إنتاج عام 2016 (356 فيلم). وفي الفترة ما بين عامي 2009-2013 تم عرض (217 فيلم) أجنبي في السوق التركية كان نصيب الأفلام الأمريكية منها (84%) مقابل (16%) للأفلام الأوروبية، غير أن الأعوام (2014-2015-2016) شكلت بداية تحول كبير لصالح الأفلام التركية المحلية على حساب الأفلام الأجنبية، هذا التحول لم يكن وليد الصدفة، وإنما بإصلاحات ودعم حكومي تم التخطيط له مبكرًا، طال ذلك الدعم أيضًا شاشات السينما التي تضاعفت أعدادها من عام 2003 (955 شاشة) إلى 2013م (2243 شاشة) وفي 2016م ( 2356 شاشة).

في الوقت الذي بدأت تنتعش فيه السينما التركية انتعاشًا ملحوظًا، شهدت السوق الأوروبية شيئًا من الركود والتراجع في أسعار التذاكر المباعة، في المقابل سجلت السينما التركية قفزة نوعية في أسعار التذاكر المباعة مع بداية الألفية من (24.6 مليون ليرة) في عام 2003 إلى (50.4 مليون ليرة) كما سجلت في عام 2013 نموًا سنويًا بمقدار (7.4%) في الوقت الذي تسجل فيه السوق الأوربية انخفاضًا بنسبة (0.6%-).

تُصنف السوق التركية في المرتبة العاشرة أوروبيًا من حيث جني للتذاكر خارج سوقها المحلي، وتعتبر فرنسا - والتي تمتلك ما يزيد عن (5587 شاشة) في (2025) موقعًا - السوق الأكبر المستقبل للأفلام التركية.

تُصنف السوق التركية أيضًا في المرتبة الثامنة كأكبر سوق بيعًا للتذاكر، ويمكن اعتبار سعر التذكرة السينمائية في تركيا هي الأرخص في عموم السوق الأوروبية أي ما يعادل (3-4 يورو) مقابل (13 يورو) في سويسرا.

بحسب مؤشرات النمو السابقة، يصبح لدى السوق التركي فرصة كبيرة للنمو، خاصة إذا ما علمنا أن الفيلم التركي تمتع مؤخرًا بقوة شرائية كبيرة في شباك التذاكر المحلي، فمن بين (356) إصدارًا جديدًا في عام 2016 أصبح فيلم (Dağ 2) الفيلم الأكثر مبيعًا في شباك التذاكر بـ(3.588.959 ليرة).

كما تصّدر شباك التذاكر فيلم "مسلم" من بين  الـ10 الأكثر مشاهدة خلال عام 2018 في تركيا، إذ حظي الفيلم خلال شهرين فقط بمشاهدة 6 ملايين و185 شخصًا، محطمًا الرقم القياسي في عالم السينما التركية ومحققًا رقمًا قياسيًا بلغ 81 مليون و684 ألف ليرة تركية (تعادل 15.4 مليون دولار).

رغم كل النجاحات التي حققتها الأفلام التركية، إلا أن ذلك لم يسعفها بعد حتى الآن للوصول إلى العالمية التي استطاعت أن تصلها الدراما التركية كقوة ناعمة تمكنت من غزو 156 دولة حول العالم حاصدة 500 مليون مشاهدة مكنت تركيا من تبوؤ المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في قطاع إنتاج المسلسلات، حيث باتت تتطلع إلى جني مليار دولار بحلول عام 2023 وفقًا ليوسف غورسوي رئيس الاتحاد المهني للإذاعة والتلفزيون.

كانت الخطة الحكومية المقررة للدعم السينمائي تقوم على فكرة استمرار دعم القطاع لتحقيق نمو سنوي تتراوح نسبته بين 6% إلى 7% وهذا النجاح قد تحقق لهم بالفعل، وعلى غرار هوليود كثُر الحديث عن اعتزام "أزيموت بورتفوليو" تخصيص صندوق استثماري لتمويل الأفلام والمسلسلات، من شأن ذلك بالطبع أن يدشن مرحلة دفع جديدة للقطاع الفني برمته. السؤال المهم هنا، هل باتت السينما التركية أقرب إلى عصرها الذهبي من أي وقت مضى، أم أن عقارب الساعة ستعود بها مجددًا  إلى الضمور؟

عن الكاتب

باسل الدبعي

منتج فني مهتم بالجوانب الإعلامية، ومدون حر يعبر عن أفكاره بذاتية تحترم الموضوعية.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس