سعيد الحاج - عربي 21

لم تكن العملية التركية "نبع السلام" مفاجئة، فقد لوحت تركيا بها كثيراً وأعلنت استعدادها لها مراراً، قبل أن توحي وتيرة التصريحات وسقفها مؤخراً باقتراب ساعة الصفر، وهو ما كان. المفاجئ كان التعامل الأمريكي مع العملية، أولاً من خلال تغريدات الرئيس الأمريكي وثانياً ميدانياً عبر الانسحاب من طريق القوات، وهو الأمر المستمر حتى اللحظة، بما يوحي بوجود ضوء أخضر أمريكي للعملية أو حتى اتفاق كامل مع أنقرة بخصوصها.

التفسير الظاهري المباشر لهذا التطور المفاجئ، بعد سنوات من استراتيجية أمريكية مغايرة في سوريا، هو أن ترامب استطاع أخيراً فرض رؤيته بالانسحاب من سوريا ومن "الحروب السخيفة التي لا تنتهي" في المنطقة، على حد تعبيره، وأن ما ساهم في ذلك هو إصرار أنقرة على العملية وتراجع حاجة واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" بعد القضاء على داعش.

لكن هذا التفسير يبقى قاصراً عن الإحاطة بالمشهد بكامل تطوراته، لا سيما في ظل تفصيلين آخرين في غاية الأهمية، هما تراجع القوات الأمريكية جنوباً وليس انسحابها بالكامل حتى اللحظة، والأهم احتفاظ قوات قسد بأسلحتها التي زودتها بها واشنطن على مدى سنوات، محوّلة إياها إلى شبه جيش نظامي يعد بحوالي 60 ألف مقاتل بتدريب ورعاية أمريكية، وخبرة ميدانية لا بأس بها.

يشير هذا الأمر إلى أن ورقة قسد، أو وحدات الحماية باسمها القديم، لم تُحرق تماماً بعد لدى واشنطن، وما زالت مهمة وقادرة على لعب دور ما، ضغطاً على النظام وعلى تركيا وربما أطراف أخرى. إذ ليس من المنطقي أن ينتهي الاستثمار الأمريكي في الفصائل "الكردية" المسلحة في سوريا، والذي استمر لسنوات وكلف الكثير، فجأة ودون سابق إنذار. ومما يعزز هذا الانطباع، موقف البنتاغون الذي لم يتغير من قسد ومن تركيا وبالتالي من العملية التركية في سوريا، فضلاً عن تصريحات ترامب المتذبذبة وتهديدات الكونغرس بالعقوبات.

يستثير هذا الأمر في الذهن سردية الاستدراج للاستنزاف، أي أن يكون الضوء الأخضر الأمريكي لتركيا لتطلق عمليتها الأخيرة توريطاً لها في الملف السوري أكثر للضغط عليها و/أو استنزافها. ولعله من المهم الإشارة إلى أن هذه السردية كانت حاضرة في الموقف التركي لسنوات طويلة، وكانت من أهم عوامل تأخر التدخل التركي المباشر في الأزمة السورية، قبل أن ترى أنقرة أن هذا التردد يزيد من مخاطر مشروع الدويلة الكردية أو "الممر الإرهابي" على حدودها الجنوبية، وهو ما استدعى استراتيجية مغايرة بدأت مع عملية درع الفرات، واستمرت مع عملية غصن الزيتون ثم مع نبع السلام اليوم.

تسير العملية التركية حتى كتابة هذه السطور كما هو مخطط لها، وفق بيانات وزارة الدفاع التركية، ودون خسائر كبيرة في الجنود والمدنيين. حتى محاولات النظام الاستفادة منها بالتقدم نحو مناطق معينة ودخولها بالاتفاق مع قسد لا تبدو عائقاً كبيراً أمام العملية التركية ولا تتعارض بالضرورة مع الاهداف النهائية لها، إذ ثمة مصلحة مشتركة للطرفين بإضعاف قسد وتحديد مناطق سيطرتها. ورغم ذلك تبقى فكرة الاستدراج للاستنزاف احتمالاً قائماً له بعض الشواهد، ويمكن أن يتبلور في عدة سياقات.

ففي المقام الأول، تختلف العملية عن سابقتيها من حيث الاتساع الجغرافي وكذلك من زاوية أعداد مقاتلي قسد وتسليحهم وتدريبهم، ما يمكن أن يزيد في ميزان الخسائر التركية عن العمليتين السابقتين، لا سيما إذا ما استمرت العملية بعد المرحلة الأولى وتعمقت أكثر. كما أن استمرار العملية طويلاً دون إنجازات واضحة قد يتحول لمسار استنزاف لأنقرة وضغط عليها.

وهناك عامل استنزاف آخر يتمثل بتقصد استهداف المدنيين الأتراك في الأماكن السكنية داخل الحدود، وبالتالي الضغط على الحكومة التركية من خلال الحاضنة الشعبية، التي تبدو متماسكة حتى اللحظة خلف العملية. وهناك التبعات المترتبة على الاقتصاد التركي بسبب الارتدادات المباشرة للعملية، وكذلك العقوبات الواقعة وتلك المحتملة على أنقرة، لا سيما إذا ما دخلت واشنطن بقوة على هذا المسار.

وهناك الضغوط الدولية والإقليمية على تركيا، التي لم تؤثر حتى اللحظة على قرار إطلاق العملية ولا على استمرارها، لكنها يمكن أن تكون مؤثرة لاحقاً في حال استمرار العملية طويلاً، لا سيما مع إثارة قسد وأطراف أخرى جزئيات، مثل معتقلي داعش واحتمال تفعيل نشاط الأخيرة، والضحايا المدنيين من الطرف الآخر، وغيرها.

وهناك كذلك الموقف الروسي غير الحاسم إلى جانب العملية، رغم الفيتو الروسي في مجلس الأمن، والذي يمكن أن يتحول لاحقاً لموقف متحفظ، أو على أقل تقدير إلى موقف داعم لتقدم النظام وتسلمه/ تسليمه مناطق ومدناً شرق الفرات بما قد يعقّد من الحسابات التركية، وهو ما ظهرت بعض مؤشراته بالفعل.

وهناك بالتأكيد الموقف الأمريكي غير المضمون والذي يمكن أن يتبدل بسرعة أحياناً من النقيض إلى النقيض، واحتمالات فرض واشنطن عقوبات على أنقرة. ولا شك أن العامل الأمريكي محوري وهام للعملية، من باب التواجد العسكري الميداني والدعم المستمر لقسد، وثقل الولايات المتحدة في المجتمع الدولي، والتأثيرات المحتملة لأي عقوبات أمريكية على الاقتصاد التركي. وهو ما يعني أن أي تبدل جوهري في موقف ترامب قد يكون له تبعات ثقيلة على العملية التركية.

في الخلاصة، فإن المسار الهادئ للعملية التركية حتى اللحظة لا ينفي تماماً فرضية سيناريو الاستدراج للاستنزاف الذي تبقى احتمالاته قائمة، وإن كانت ضعيفة وفق المعطيات الحالية، وهي احتمالات ستزيد كلما طالت العملية وتعمقّت. كما أنه من الواضح أن مسارات هذه الفرضية تؤثر وتتأثر ببضعها البعض، بحيث أن حصول أحدها قد يستحث مسارات أخرى أو يفاقمها، ما يفرض على أنقرة أن تكون شديدة التنبه لهذه الاحتمالات، وأن تدرك أن السيناريو الأسلم لها هو أن تتجنب قدر الإمكان التقدم غير المحسوب والتعمق غير المضمون، وأن تحاول إنهاء العملية، أو مرحلتها الأولى المعلنة، سريعاً جداً قدر الإمكان، وهو ما يبدو أنها تنفذه حتى ساعة كتابة هذه السطور، مما قد يوحي بأن احتمالات الاستنزاف حاضرة في ذهن صانع القرار التركي.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس