علي حسين باكير - عربي 21

واجهت إدارة أوباما خلال السنوات القليلة الماضية مشاكل كبير مع حلفائها  أكثر من خصومها أو منافسيها، ونشرت العديد من الكتابات التي تتطرق إلى المشكلة العميقة التي تعاني إدارة الرئيس أوباما منها ،والتي لا يبدو عليها أنها تدركها بشكل جيد والمتمثلة في "غياب مصداقيتها" أمام حلفائها وأصدقائها حول العالم.

لقد بدأ الأمر مع الأوروبيين عندما راقبوا باندهاش كيف أهمل أوباما الاتحاد الأوروبي لصالح التقارب السريع مع الصين إبان الأزمة المالية العالمية، تبعه العديد من المشاكل الثنائية وصولاً إلى فضائح تجسس الإدارة الأمريكية على حلفائها الأوروبيين وعلى رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل.

لم يتوقف الأمر عند الأوروبيين، فالأتراك أيضاً لم يستطيعوا أن يفهموا كيف ولماذا تقوم إدارة أوباما بتجاهل مصالحهم ومخاوفهم الاستراتيجية في سوريا والعراق لصالح روسيا وإيران، لاسيما أنّ أحداً لا يحصل على أي مكاسب من هذا التجاهل، الذي لا يحصد سوى المزيد من الخراب والدمار والاحتلال.

ولا يختلف أصدقاء أمريكا من العرب عن الآخرين، فهم أيضاً لم يفهموا توجهات الإدارة الأمريكية لا قبل الثورات العربية ولا خلالها، فأين خطاب أوباما اليوم من خطابه السابق في القاهرة أو أنقرة، وأين هي خطوطه الحمراء في سوريا ؟ وأين هي وعوده في إيقاف النووي الإيراني؟ وأين هي جهوده في تحقيق السلام والتوصل إلى اتفاق في القضية الفلسطينية؟

العالم كلّه الآن يعاني اضطراباً بسبب سياسة الإدارة الأمريكية المضطربة، أو بالأحرى بسبب عدم وجود رؤية أمريكية إزاء التحديات الكبرى في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط بالتحديد، وفي قلبها إيران. السياسة الأمريكية التقليدية لمختلف الإدارات الأمريكية منذ العام 1979 وحتى العام 2009 كانت تعتمد من دون استثناء على سياسة الاحتواء في مواجهة إيران. 

لم تكن سياسة الاحتواء المطبقة من قبل إدارات كل من كارتر وريجن وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن بنفس المستوى والشدة، واختلفت باختلاف الظروف والبيئة فمنهم من اتبع سياسة احتواء قاسية ومنهم من فضّل سياسة احتواء رخوة إن صح التعبير. لكن هذه السياسة حقّقت بعض النجاحات في عدد من المجالات إلى أن بدأت تتآكل مع الغزو الأمريكي للعراق، عندما تمّ تقديم الأخير على طبق من ذهب لإيران.

مع استلام إدارة أوباما، كان من الواضح أن هناك شيئاً مختلفاً يجري التحضير له، لكن أحداً لم يكن يتوقع انقلاباً كاملاً في السياسة الأمريكية تجاه طهران.  اليوم بات جلياً أنّ الانقلاب قد حصل بشكل كامل، ويتم البحث الآن في الخطوة الأخيرة لإتمامه رسمياً أو ربما الإعلان عن فشله الذريع، هذه ليست مشكلة بحد ذاتها من حيث المبدأ، فليس هناك شيء ثابت في السياسة سوى المصالح.

المشكلة أن إدارة أوباما لم تكن صريحة مع المنطقة والعالم إزاء ما نوت أو تنوي القيام به بخصوص إيران، البعض يقول إن الإدارة نفسها ليس لديها سياسة إزاء الملف الإيراني، وأن هذا هو سبب تناقضها أو ربما عدم وضوحها، في حين يشير آخرون أنّه إذا كان هناك شيء واضح لدى الإدارة الأمريكية منذ البداية، فهو التوصل إلى اتفاق مع إيران. هذا التناقض في النوايا لدى الإدارة الأمريكية وحالة عدم الشفافية التي أكدتها فيما بعد المفاوضات السريّة مع إيران، ومثلها المراسلات السريّة وما ورد فيها، وبغض النظر عن ذلك، فإن الإدارة لا تحيط الكونغرس أصلا بحقيقة ما يجري بينها وبين إيران، فكيف لنا أن نتوقع إن تحيّط حلفاؤها وأصدقاؤها؟! كل هذه المحطات أدت وتؤدي إلى فقدان الثقة بالإدارة الأمريكية، فكيف من الممكن أن يتم الوثوق من الآن وصاعداً بمثل هذه الإدارة ووعودها أو ضماناتها؟!

أما المشكلة الثانية، فهي أنّ سياسة الاحتواء التقليدية التي طبّقتها كل الإدارات الأمريكية السابقة تتجه نحو الانهيار الكامل مع إدارة اوباما، ومن الصعب إعادة إحياء هذه السياسة إلا إذا فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق شامل. 

لقد قررت الإدارة الأمريكية التضحية بسياسة الاحتواء التقليدية، وأيضاً التضحية بحلفائها في المنطقة والسماح لإيران بالتوسع عامودياً وأفقياً، بل في سوريا والعراق ولبنان واليمن بدعم وتشجيع من واشنطن وبشهادة الأمريكيين أنفسهم، ليكون ذلك بمنزلة الجزرة لإقناع إيران بالتوصل إلى اتفاق على أمل أن يؤدي في النهاية إلى تمتين العلاقة بين الطرفين. 

ولأول مرة منذ إنشاء الجمهورية الإيرانية، يتم السماح لطهران باجتياح بري وجوي للعمق العراقي، كما تقوم باجتياج مماثل في سوريا ليس قرب الحدود اللبنانية فقط وإنما الأردنية أيضاً. ومكمن المشكلة هنا هو انهيار سياسة الاحتواء التقليدية دون تقديم أي سياسة بديلة، فأوباما لا يمتلك على ما يبدو سوى سياسة "الأمل" القائمة على "تمني" أن يؤدي الاتفاق مع إيران إلى جعلها دولة مسؤولة، وحظوظ نجاح هذه السياسة بالمعنى العلمي تكاد تساوي صفراً؛ ليس لأنّها تعتمد فقط كلياً على الطرف الآخر، بل ولأنها غير قائمة على معطيات واقعية.

أما المشكلة الثالثة والأكبر، فهو تصور الإدارة الأمريكية أنّه من الممكن لها أن  تجسر الفجوة بين توجهها لعقد تحالف مع إيران وبين عدم ثقة حلفائها بها، من خلال وعود شفهية وكلام عن عدم وجود صفقة شاملة مع إيران، وهو كلام يثير القلق أكثر مما يبعث على الطمأنينة خاصة كما سبق وشرحنا في ظل غياب سياسة أمريكية واضحة للتعامل مع إيران في قضايا أخرى تتجاوز الموضوع النووي.

معظم التقارير الأمريكية للمراكز البحثية أو الإعلامية المحسوبة على إدارة أوباما أو المقربة منها، تدعو إلى التركيز على أن تقوم الادارة بطمأنة حلفائها عبر أمرين، الأول هو محاولة التقريب بينهم وبين إيران، والثانية الوعد ببيعهم المزيد من الأسلحة!، وهي في الحقيقة خطوات لا تخدم في النهاية إلا الجانب الامريكي، ولا يمكن اعتبارها باي حال من الأحوال ضمانات.

الدول العربية تبدو في حالة استسلام تام للسياسات الإيرانية، كما هو حال ضحايا تنظيم داعش والميليشيات الشيعية في المنطقة. هذه الحالة من الاسترخاء تحتاج إلى التفكير خارج الصندوق، وإلى تحولات جذرية في السياسات التقليدية تتماشى مع التحولات الجذرية التي تقوم بها إدارة أوباما وإيران في المنطقة.  الاعتماد الكامل على الولايات المتّحدة كما هو معروف منذ عقود أدى إلى حالة من الضعف الشديد في سياسة الاعتماد على النفس، ومن نتائجها الكارثية حالة الاستسلام القائمة حالياً. 

تغيير هذه السياسة آو تعديلها ليس بالأمر الهين ويحتاج إلى وقت طويل، ولكن لتجاوز سلبياتها الآنية على الأقل لا بد من تمتين العلاقات الإقليمية كما سبق وذكرت مرات عديدة بين اللاعبين الإقليميين الكبار، ولاسيما المتضررين من الانقلاب الحاصل في السياسة الأمريكية (تركيا والسعودية)، والسعي لاجتذاب بعض الدول الإقليمية والدولية، التي قد يكون لديها مصلحة في مثل هذا التقارب لاسيما دول مثل فرنسا ومن ثم توسيع القاعدة، هو أمر في غاية الأهمية في هذه المرحلة على الأقل، ولضمان أن يكون لديهم كلمة مؤثرة وأن تؤخذ مصالحهم بعين الاعتبار في بازار الصفقات الأمريكية- الإيرانية.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس