د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

"إنّ هذا العبد الضّعيف من علماء صفاقس الواقعة داخل ولاية تونس، ومن أبناء السّيد علي النوري، لقد تمّ الاستيلاء على بلادنا من قبل دولة فرنسا، وتمت مصادرة كافة ممتلكاتنا وأغراضنا، وتعرضت للنّهب والسّلب. ولم تُراعَ حقوقنا الإسلامية المقدّسة. إنّ الاعتداء الذي تعرّض له العبد الضعيف في صفاقس المذكورة من قبل الفرنسيين سوف يضاعف من المعاناة والظلم الواقع علينا. وبسبب ذلك سوف أغادر أنا وعائلتي وطننا. إنّ العبد الفقير من الأشراف، فهو من جهة من السّادة، ومن جهة أخرى من العُلماء. ولهذا السّبب فهو يلتمس إصدار إرادة علية من جناب الصّدر الأعظم من أجل تخصيص معاش له مثله في ذلك مثل بقية العلماء". 

هذه الرّسالة أرسلها محمود النّوري أحد علماء صفاقس بتاريخ 13 جمادى الأولى سنة 1306هـ، الموافق لـ 15 جانفي 1889م إلى الصّدر الأعظم في اسطنبول يطلب فيها التدخّل من أجل إنقاذه من الوضع المتردّي الذي وجد نفسه فيه بعد استيلاء القوات الفرنسية على البلاد التونسية واستباحتها لكل شيء فيها. 

ومثل هذا الطلب قُدم من عدد كبير من علماء تونس الذين رفضوا الاحتلال الفرنسي وقرّروا مواجهته بالعلم والقلم أو السّلاح. ومنهم من تمكن من الخروج من البلاد، ومنهم من بقي فيها مُكرها. وكمثال آخر على ما ارتكبته فرنسا بحق العلماء من تضييق ما نشرته صحيفة "وقت" التركية بتاريخ 16 ماي 1881م من أنّ القنصل الفرنسي بتونس اشتكى إلى محمد الصادق باي والي تونس بأنّ مفتي البلاد أحمد بن الخوجــة يشكّل تهديدًا خطيرا على أمن الجنود الفرنسيين لأنه رفض المعاهدة التي تمّت بقصر باردو بتاريخ 12 ماي، ويُعتقد أنّه عازم على تحريض الأهالي للثورة ضدّ الفرنسيّين، وبالتالي يتعين القبض عليه وحبسه. وبالفعل فقد تم القبض عليه وحبسه في بيته وتحذيره من الاختلاط بالناس وتخصيص حرّاس عند باب بيته يمنعونه من الخروج والتنقل ويُحصون عليه أنفاسه. 

هذا مثال صغير على الممارسات الفرنسيّة بحق العلماء التّونسيين الذين لم يتقبّلوا الاحتلال ووقفوا في وجهه. هؤلاء العلماء وجَدوا تكريما كبيرًا واهتماما خاصّا في اسطنبول عاصمة الدّولة من قبل رجال الحكومة والعلماء والطّلاب والأهالي، خاصة وأنّ أغلبهم من علماء جامع الزيتونة الذي كانت سمعته تملأ الآفاق. ثم إنّ علماء تونسّيين سابقين كانوا قد تركوا سمعة طيّبة وبصمات لا تُمحى بفضل ما قدّموه من خِدمات جليلة للعلم والدّعوة وتعليم القرآن والحث على جهاد الأعداء. 

لقد سَبق أن قدم إلى اسطنبول علماء كثيرون من تونس قبل الاحتلال، من بينهم الشّيخ العالم محمد المثنّى الذي لا نعرف عنه في المصادر التونسية إلا القليل من المعلومات. هذا العالم كان له دور كبير وبارز في حرب القرم (1853-1857م) بين روسيا والدولة العثمانية، وسخّر جهوده للحثّ على الجهاد، وكتب في ذلك المؤلفات والرّسائل من بينها رسالته "تحريض الإسلام لمعاونة الدولة العلية أيدها الله على حرب الروسية" ورسالته "إرشاد العباد للغزو والجهاد". وتقديرًا لجهوده صدر القرار من قصر يلدز بتاريخ 24 ديسمبر 1887م بأنه "نظرًا للخدمات الجليلة التي قدمها أحد أهالي تونس العظام المقيم في دار السعادة الشيخ محمد المثنى أفندي، ونظرا لما ألّفه من كتب عربيّة فقد تقرر تخصيص معاش مناسب له". 

كما أنّ هناك علماء آخرين قدموا خدمات علمية جليلة مثل الشيخ والعالم التونسي عمر أفندي، فقد أظهرت وثيقة عثمانية مؤرخة بتاريخ 25 مارس سنة 1849م أنّ الحكومة أرسلته سنة 1849م لتعليم القرآن الكريم في ألبانيا ونشر العلوم الإسلامية هناك. كما أنّ الشيخ أحمد أفندي التّونسي كلفته الدولة بالانتقال إلى كل من كوسوفو وأدرنة وسالونيك، ومناستر الواقعة في اليونان من أجل تعليم العلوم الإسلامية ووفرت له جميع الاحتياجات المادية من تنقل وراتب وسكن. 

الحُكومة العثمانية أنزلت علماء تونس المنزلة التي يستحقونها، سواء العلماء السّابقون الذين زاروا اسطنبول قبل الاحتلال الفرنسي، أو العلماء اللاّحقون الذين اضطرّوا اضطرارًا للانتقال إليها بعد أن تعرضوا للمضايقة والتهديد. ويمكننا أن نذكر جملة من الأمور التي تكشف بجلاء أنّ علماء بلاد جامع الزّيتونة كانت لهم مكانة مرموقة في بلاد اسطنبول وفي قلوب أهلها. فقد خصصت لهم الدّولة السكن والإقامة اللائقين، وخصصت لهم الراتب المناسب الذي يكفيهم هم وعائلاتهم، فالشيخ محمد بيرم الخامس كان يتمتع بسكن وراتب قدره 1500 غروش. كما أن الشيخ أحمد الورتاني كان يعطى له راتب قدره 500 غروش.

ومن الجدير بالذكر أن بعض علماء تونس فضلوا الإقامة في أماكن أخرى غير اسطنبول مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومع ذلك اهتمت بهم وخصصت لهم رواتب في الأماكن التي يوجدون فيها. فقد كان العالم التونسي أحمد بن طراد مقيما في مكة المكرمة وخصصت له الحكومة راتبا شهريا قدره 65 قروشا، كما أن الدولة وفرت لبعض علماء تونس مصاريف التنقل عند سفرهم من مكان إلى آخر، من ذلك أنه عندما رجع الشيخ محمد المثنى إلى تونس سنة 1856م ثم عودته مرة أخرى إلى اسطنبول سنة 1860م وفرت له الحكومة مصاريف التنقل والسفر. 

وبالإضافة إلى ذلك كان علماء تونس في اسطنبول يحصلون على الوظائف الكبرى في الدولة، فقد ارتقى السياسي ورجل الإصلاح خير الدين باشا التونسي ليصبح رئيسا للوزراء وترك بصماته رغم قصر المدة التي تولى فيها هذه المسؤولية الكبرى. كما أن الشيخ صالح الشريف عين مستشارًا في وزارة الحربية ووظائف أخرى غيرها. ومن المهم كذلك أن نذكر أنّ هؤلاء العلماء كانوا يُعاملون معاملة المواطنين العثمانيين فلا يشعرون بأنهم أجانب عن البلاد بل يشعرون أنهم من مواطنيها الحقيقيّين. 

كل هذا وغيره يجعلنا نفهم بأن علماء البلاد التونسية الذين هاجروا إلى اسطنبول سواء قبل الاحتلال الفرنسي للبلاد أو بعده، لقوا من مسؤولي الدّولة احتراما خاصا لا نعرف إن كان حظي به علماء من بلاد أخرى. ولا شكّ أنّ الطبقات السياسية في اسطنبول والعلماء والأهالي كانوا، وهم يتعاملون مع هؤلاء العلماء يَضعون في اعتبارهم قدر جامع الزّيتونة وجلال قدره عندهم. هذا الموضوع يحتاج بلا شك إلى مزيد من التفصيل وكثير من الكلام. فهو موضوع شائق ومُغر بالبِحث فيه، وللأسف لا نجد معلومات دقيقة ومفصلة في المصادر التونسية، فالمصادر والمراجع التونسية لا تذكر إلا القليل عن حياة هؤلاء العلماء في اسطنبول، وهو لذلك موضوع لا يزال مجالا بكرا للبحث والدّراسة.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس