معاذ السراج - خاص ترك برس

بوسع من يجري مراجعة سريعة لتاريخ بلاد الشام، أن يستنتج بسهولة أن مجتمعات هذه البلاد حظيت بدستور أخلاقي سمح لها أن تنظم شؤونها الحياتية بمختلف جوانبها على نحو فريد في ظل حالة من التنوع الثقافي والاجتماعي، فرضته طبيعة هذه المجتمعات، وموقعها الجغرافي، مكنها من استيعاب الكثير من الهجرات الداخلية والخارجية، وتكوين مجتمع متجانس إلى حد بعيد. ولم يكن هذا الأمر ليتحقق لولا أنه كان يستند إلى منظومة متراكمة من الأخلاق، وقيم التعايش حظيت بها هذه المجتمعات خلال تاريخها الطويل، وأكسبتها تجربة إنسانية غنية، طالما اعتبرت أحد ميزاتها ومفاخرها.

في دمشق، على سبيل المثال، تعتبر أحياء الصالحية، والمهاجرين والأكراد على سفح وضفتي جبل قاسيون، واحدة من بين أمثلة كثيرة لما ذكرنا، وينتمي سكان تلك الأحياء إلى هجرات ضاربة في أعماق الزمن والجغرافية، من فلسطين إلى اليونان وجزر البحر المتوسط، إلى العراق ودول آسيا الوسطى، ونظرًا للاندماج الثقافي والاجتماعي واللغوي، فإنه من غير الممكن  تمييز أصول الناس وانتماءاتهم، هذا إذا كانت المسألة مطروحة ابتداء.

معظم حواضر بلاد الشام ومدنها، حتى الصغيرة منها، وكلها تحتفظ بسمة التنوع الثقافي والاجتماعي، وتسود فيها ثقافة التعايش المشترك، وتحظى باحترام الجميع، دونما حرج أو تكلف.

لا يخرج الجانب السياسي عن هذه القاعدة، تؤكد ذلك الكثير من الشواهد والوقائع. على سبيل المثال، في مرحلة الاستقلال، وقبله في أثناء الانتداب الفرنسي، كان العديد من رؤساء سورية، ورؤساء الوزارات والوزراء، من الأكراد والمسيحيين، وكذلك إدارات الدولة والمناصب الرفيعة، بما في ذلك العسكرية منها، وقد ذكر ظافر القاسمي، في ندوة بلبنان، أنه: "عندما تم الجلاء الفرنسي عن سورية عام 1945 كان جميع الأمناء العامين في الوزارات السورية من المسيحيين، ما عدا أمين عام وزارة الدفاع، وهو أحمد اللحام رحمه الله، وجاءت يومها رسالة تهنئة من الفاتيكان لشكري القوتلي، رئيس الجمهورية آنذاك، بأنه لم يحاب ولم ينظر إلا إلى المصلحة والكفاءة، وقد أطلعني عليها". وقبل ذلك عندما غادر العثمانيون سورية بنهاية الحرب الأولى، وأصبحت دمشق في حالة من الفراغ السياسي والإداري، لم ير زعماء دمشق حرجا في اختيار الأمير سعيد الجزائري (وهو ابن أخ الأمير عبد القادر الجزائري)، ليتولى شؤونها في هذه الظرف العصيب، ريثما تستقر الأوضاع. حتى باتت هذه التقاليد أشبه بدستور متعارف عليه، يتداوله الناس جيلًا بعد جيل.

على أن ذلك لا يمنع أن يكون للسوريين علاقة وثيقة بالدستور، ترجع إلى نشأة سورية الحديثة في آذار/ مارس 1920، وإعلانها مملكة دستورية، حينها، وبموجب دستور "عصري"، تم تشكيل أول نظام برلماني ومملكة دستورية في الشرق الأوسط، بالحدود المعروفة لـ"سورية الكبرى"، واختير فيصل بن الحسين ملكًا عليها.

وصفت الباحثة "إليزابيت ف. تومسون" دستور عام 1920، في دراسة لها نشرها معهد العالم قبل سنوات، بأنه كان "الأكثر علمانية وديمقراطية في الشرق الأوسط"، وأنه: "أنشأ فصلًا بين السلطات والضوابط التشريعية في السُّلطة الملكية، كما منح حصةً أكبر لحكومات المقاطعات، وضَمِن مساواة المسلمين وغير المسلمين في ظل القانون وحرية المعتقد، وهي مسائل متطورة جدًا بالقياس إلى الدساتير التي لا تزال تدور حولها نقاشات مستفيضة حتى يومنا هذا".

أعضاء المؤتمر السوري آنذاك، وكان بمثابة البرلمان، اعتبروا أن مبدأ السيادة، هو "الأساس الوحيد لتحقيق العدل، لأن المثل الدستورية قد تثمر فقط عندما تتم استعادة الحكم الذاتي"، وارتأوا أن من شأن دستور عصري، أن يشكل قناعة لدى عصبة الأمم بأن العرب قادرون على حكم أنفسهم، وأن يسقط دعوى "حماية الأقليات"، التي تتذرع بها أوربا لاحتلال الدول تحت مسمى "الانتداب".

غير أن توقعاتهم تلك لم تتحقق، ذلك أن القوى الأوربية، في سعيها لاقتسام الشرق الأوسط، وفرض الوصاية على شعوب المنطقة، فإنها لم تقم وزنًا لمسألة الدستور ولا لرغبة السوريين بالاستقلال والتحرر، بل إنها تجاهلت جهود الرئيس الأمريكي، "وودرو ويلسون"، وتوصيات اللجنة التي أرسلها لتقصي الحقائق، واستطلاع آراء شعوب المنطقة، وقد أشار إلى هذا الأستاذ خالد العظم – رئيس الوزراء السوري الأسبق – في مذكراته، في معرض تعليقه على رفض الفرنسيين والإنكليز تسمية فيصل ملكًا على سورية، حين قال: "والحقيقة أن الأجانب سواء كان فيصل أميرًا أو ملكًا فلا تتغير نظرتهم إليه ولا تجعلهم يعدلون عما بيتوه لسورية من خطة وسياسة".

ولا شك أن هذا ما دفع الباحثة إليزابيت ف. تومسون، لاختيار عنوان لدراستها يحمل الدلالة نفسها، "رشيد رضا والدستور العربي السوري لعام 1920: كيف قوّض الانتداب الفرنسي الليبرالية الإسلامية". وهذا مثال واضح لمدى تأثير القوى الخارجية في تحديد مصائر الشعوب، والتلاعب بالمعايير الأخلاقية والقانونية لتنفيذ سياساتها وتحقيق مصالحها.

وفي هذا السياق، لم تتوقف محاولات فرنسا طيلة فترة الانتداب، لتقويض السلم الأهلي، وتفكيك النسيج الاجتماعي، تحت ذريعة حقوق "الأقليات"، التي استخدمتها لاختراق المجتمع السوري. ولم توفر في سبيل ذلك أي وسيلة، سياسية كانت، أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، بما في ذلك سعيها الدائب للعبث بالدستور، وصياغته بما يتلاءم مع سياساتها تلك.

بعد الاستقلال بسنوات عاد السوريون لصياغة دستورهم من جديد، عام 1950، وخرجوا بنموذج اعتُبر الأفضل في تاريخ سورية المعاصر، ولا زال إلى اليوم، يحظى بتقدير السوريين واحترامهم. وكان أقرب إلى دستور عام 1920 وأكثر تطورًا منه. لكنه مع هذا لم يسلم من عبث المغامرين من قادة الانقلابات العسكرية، لا سيما بعد انقلاب آذار 1963. وتبقى الكارثة الأكبر تلك التي جاءت مع انقلاب ما سُمي بالحركة التصحيحية، ووضع دستور عام 1973 الذي يعد الأسوأ في تاريخ سورية، رسخ عقلية فئوية تسلطية، أطلقت يد حافظ أسد، ليتصرف بسورية كحاكم مطلق، وليبيحها بدوره لعصابات السلطة من الميليشيات الطائفية وأجهزة المخابرات لتعبث بها على نحو لم يسبق له مثيل. ولا ريب أن هذه العقلية هي التي قادت سورية إلى هذا المصير المأساوي الذي تشهده اليوم، بعد حكم دام خمسين سنة.

عن الكاتب

معاذ السراج

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس