علي الصاوي - خاص ترك برس

"كن إنسانًا لا أكثر" عبارة لا تتطلب جهدًا كبيرًا لتطبيقها كمنهج حياة كي تنعم البشرية بحياة آمنة مستقرة، بعيدًا عن معاني الكراهية التي تكسو كل تصرفات البشر في هذا الزمن، لذلك لا تعجب حين ترى المظالم كثرت من حولك والحروب أكلت منطقتنا وشردت أبناءنا في البر والبحر غير مأسوف عليهم، لأننا بكل بساطة عجزنا عن أن نرقى إلى مرتبة الإنسانية متجاوزين حواجز الأنانية والطائفية، التي أوحلتنا فيها السياسة والاستقطاب الإيدولوجي.

فبقدر ما ساهم الربيع العربي في تحريك الوطنية الراكدة بداخل الشعوب، وإثارة نخوتها للثورة على الظلم والاستبداد السياسي، إلا أن الجراح التي خلفها وراءه عند بعضهم ما زالت تنزف ألمًا واحتياجًا، ولا تمر ساعة إلا وتقرأ قصصا مآساوية يندى لها جبين الإنسانية خجلًا وحياءً، فتقف مذهولًا أمام نفسك، عاجزًا عن فعل شيء تجاه هذه القلوب المكلومة، وتسأل نفسك سؤال: هل نجحنا في الاختبار الأخلاقي تجاه بعضنا البعض أمام هذا السيل الجارف من المآسي والأحزان والمظالم الإنسانية، أم أننا سقطنا في بئر الخذلان ودفنا رؤوسنا في الرمال غير عابئين بجائع هنا أو شريد وطريد هناك؟

كان أجدادنا في القدم يرددون مثلًا شهيرًا يقول "إن الحي أبقى من الميت"، وكنت أتمنى رؤية تطبيق هذا المثل أمامي لأفهم معناه أكثر، إلى أن قرأت قصة تجلت فيها أسمى معاني الإنسانية، ورأيت تطبيقه عمليًا على أرض الواقع، وكم كنت أتمنى رؤية ذلك المشهد في بلاد المسلمين الذين يحملون ديانة تعد من أرفع الديانات حضًا على الرحمة والإيثار وكل معاني الإخاء والتضامن الإجتماعي. 

وبطل قصتنا هو شاب كندي يعشق الترحال ويجوب البلاد طولًا وعرضًا ليمارس هواية السباحة وتسلق الجبال، لكنه توفي أثناء إحدى مغامراته في اليابان بعد أن سقط من شاهق على رأسه ومات على الفور، ومن هنا بدأت البطولة، فقد جمع عدد من النشطاء مبلغ من التبرعات لنقل جثمان الشاب ليدفن في كندا، لكن أمرًا حدث لم يكن أحد يتوقعه.

فقد رفضت عائلة الشاب نقل جثمان ابنها إلى كندا، وبدلًا من ذلك تبرعت بالأموال لإحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، لتكون هذه الأموال بمثابة قبلة حياة لجمع عائلة سورية مشتتة بين كندا والأردن، فقامت دار الرعاية وبمساعدة بعض الكنائس وأسرة الشاب المتوفي بلم شمل مواطن سوري وزوجته وطفليه بوالدته وأخيه، بعد فراق دام خمس سنوات، ذاقت فيها العائلة مرارة الشتات، وعانت والدته من نوبات قلبية لبكائها الدائم على فراق ابنها، ونشرت محطة "سي بي سي" الكندية لحظة استقبال العائلة السورية في المطار، في حضور أسرة الشاب الكندي المتوفي أيضًا.

وفي وسط هذه الأجواء المفعمة بالمشاعر الإنسانية قالت شقيقة الشاب الكندي لمحطة سي بي سي: "لو كان شقيقي موجودًا الآن لسعد كثيرًا بذلك العمل الإنساني"، ولم يقف الأمر إلى هنا، بل ساعدت العائلة الكندية الشاب السوري في تجهيز منزل من كافة أغراضه ليسكن فيه عزيزًا مكرمًا مع زوجته وأبنائه. 

بعد هذا الموقف الإنساني الذي يبعث في النفس الأمل والسرور، تذكرت قصصًا مشابهة لكثير من العائلات العربية هنا في إسطنبول، لا تقل ظروفها صعوبة عن الحالة التي ذكرت، لكن بكل آسف لم يجدوا من يمد لهم العون ويكفل لهم عيشة كريمة ويجمع شتاتهم الممزق، وبالرغم من كثرة الجمعيات والمنظمات والأموال التي تنفق بسخاء على مؤتمرات وندوات إلا أن أصحاب الاحتياج الشديد ما زالوا خارج قائمة الاهتمامات، في صورة تعكس واقعنا المزيف برتوشه التجميلية التي تقدس المظاهر ولا تأبه لواقع المهجّرين في شتى بقاع الأرض، فما أحوجنا إلى منظومة تكافل تساعد الحالات الإنسانية العاجلة بقدرالإمكان وتجمع شملهم ولو حتى بجهود ذاتية، فليس هناك أصعب من مرارة الهجر والفراق، فحين نكون بلسم لحياة الحزانى والمنكسرين يكون لحياتنا طعمٌ آخر، فليس هناك شيء يشفي من ألم النفس سوى اللمسات الإنسانية.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس