عبد الله محمد فارح - خاص ترك برس

يقال إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وناموس الطبيعة شامل لطبائع شتى لسنا بصدد كثير منها، ولعل الطبيعة البشرية هي الأكثر انضواء تحت هذه القاعدة وهي الأكثر استسلامًا لهذا التقرير العلمي، فمحال أن تقبل العقلية البشرية الفراغ وأن تبقى الذات الإنسانية بالونًا من العدم وفقاعة لا حشو لها من أفكار أو ميول أو انحياز أو تأثر وانطباع.

وهنا يأتي دور الرموز في ملء الفراغ وسد الثغرة الإنسانية وإشباع الفضول الفكري والمعرفي وحتى في وضع أفق بعيد يكون مستقرًا للطموح ومهوى لأفئدة الأتباع وبرنامجا للأحلام التي تهفو إلى ما تصبو إليه. تفعل الرمزية فعلها من بواكير حياة الإنسان وتبدأ بإلقاء بصماتها سواء الإيجابية أو السلبية على صفحة الذات البيضاء وتلقي بذارها في تربة الطفولة البكر، حيث يغلب على أوائل الرموز أن يكونوا عائليين، وهنا يطلق السلوكيون مصطلحات وأقانيم عدة على تقليد الأبناء للآباء كالتقمص وما شابه، ومع الوقت يتسع فضاء الوعي ويكبر معه الرمز المُتبَع، تترامى آفاق الإدراك وتتضخم الرمزية المطلوبة التي يجب أن تأخذ حجمها المواتي لحقل الشباب الفسيح، ولاستشراف الفضول وأعناق العقول المشرئبة إلى ينابيع المعرفة الغزيرة، فالمسرح الآن لم يعد مساحة بيت وقوام أسرة، بل أصبح عرضة للعولمة ولا سيما في ظل الحوسبة والعالم الافتراضي والشبكة العنكبوتية التي جمعت أعطاف البشرية وفتحت عنفات الشعوب على بعضها.

جاء الربيع العربي على غير ميعاد وبلا بوادر بعيدة كانت تلوح أو استشرافات أو استبصارات، وكان مرحبا به بالإجماع عند الشباب العربي على وجه الخصوص من بين بقية الشرائح العمرية خصوصا شريحة الكهول التي قد تتثاقل إلى الأرض أو تود أن تخلد بقية عمرها إلى مألوف عيشها القديم خوفا من جديد يفسد عليها الحياة التي اعتادت على مساوئها ومحاسنها. كانت أفكار الربيع العربي الأساسية وعناوينه العريضة من الحرية والعدالة ورفض الظلم وزوال الأنظمة القمعية كفيلة أن تجذب إليها الشباب الذي يبحث بالفطرة عن الجديد الطارف ولا يستبد به التليد التالف، وخصوصا أن السلطات والحكومات التي ألفوا عليها آباءهم لم تكن ناصعة مشرقة مرضية كما هو الحال في الدول الاستعمارية التي تركتهم وراءها لحفظ التخلف وذهبت تشيد دولة الرفاهية لشعوبها، ولذا فاضت شوارع العواصم والحواضر في بضعة من الدول العربية بالشباب الذي نفخ الربيع فيه روح الثورة وأوقد جذوة التمرد على العهد القديم.

ولكن الصدمة الكبرى كانت من تساقط الرموز وانفراط عقدهم وانكشاف أحوال الكثيرين منهم، وهذا بدد كثير من عزيمة الشباب وأوهن الهمة ودبّ الفتور عن المثابرة وأذهب ريح الجماعة العاصفة؛ وقد علمنا أن الشاب العربي كان من قديم نشأته يتبع القدوة التي يرضاها لنفسه في كل مجال، وقد رسم صورة الأسوة الحسنة لكثير من الشخصيات سواء من الرموز الوطنية أو الفنية وأكثر من هؤلاء جميعا تأثيرا وتوجيها لبوصلة الشباب هي الرموز الدينية، وبالطبع كان هؤلاء الأكثر صدمة عندما استقام منسم الثورات وتبين خيطها الأبيض الثائر من خيطها الأسود القمعي الاستبدادي.

تحيز كثير من الرموز الدينيون والمشايخ والعلماء المشاهير الذين كانت الحشود تقصد مساجدهم وكان المحبون والمعجبون يشاهدونهم عبر القنوات ليل نهار، أخيرا انحاز جلهم إلى الحكومات التي ثار عليها الشعوب، ليحظوا بعدها بألفاظ وألقاب شتى مهرتهم إياها الشعوب الثائرة من علماء السلطان أو أبواق النظام أو دعائم الفساد أو ما شابه.

كان الشباب العربي يظنون في مقتبل ربيعهم أنهم سيسيرون مسيرة مثلى خلف رموزهم القدامى معلنين الانتفاضة على الأنظمة التي باتت في مهب الريح، ولكن للصدمة الكبيرة التي لم تكن بحسبان الأتباع أنهم وجدوا الرموز في صف الأنظمة، وهذه الصاعقة المدوية قصمت جريان الشارع العربي وفرّقته ومزقته شر ممزق بالفتاوى التي صدرت من أولئك على سبيل المثال بتحريم الخروج على الحاكم، والتي تعاطاها الناس بين مصدق ومكذب ومتبع طائع ومتمرد ثائر. هذا بالإضافة إلى صدمات شتى بالرموز الوطنية التي أثبتت سلطويتها أكثر من وطنيتها لاحقا، وبالرموز الفنية التي انخلعت من مثالها التلفزيوني والمسرحي المشرق الذي عهده المتابعون عنها.

وأخيرا تبين للشباب العربي أنهم خلف رموزهم إنما يتبعون سراباً بقيعة، يحسبه الظمآن ماء...

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس