ياسر عبد العزيز - مدونات الجزيرة

القصة تبدأ مع اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين الكيان الصهيوني وقبرص عام 2010، ثم بين مصر وقبرص عام 2013 ثم مصر واليونان في نفس العام، والتي كانت بالأساس من أجل ذلك الكنز المدفون تحت سطح المتوسط لا سيما في شرقه (الغاز والنفط) الذي تطل عليه كل من مصر وليبيا وسوريا ولبنان وفلسطين، والكيان الصهيوني بالإضافة إلى قبرص بشقيها واليونان، والذي تقدره المسوحات الجيولوجية بملايين المترات المكعبة مما سيجعل هذه المنطقة من أغنى المناطق في العالم.

الوجود المصري في ليبيا والمدفوع من كل من الإمارات وفرنسا، لم يكن كما يدعي النظام المصري بأنه من أجل محاربة الإرهاب، وإنما من أجل تأمين وصول غاز الكيان الصهيوني الذي بدأ انتاجه هذا العام وصُدر بالفعل إلى الأردن وخلال أيام إلى مصر، ويخطط له أن يصل إلى أوروبا المستورد الأكبر للغاز في العالم عبر أنبوب يمتد من الكيان الصهيوني إلى قبرص فاليونان ثم إيطاليا إلى باقي أوروبا، والمستغرب أن النظام في مصر تدخل وهو لا ناقة له في الأمر ولا جمل، إلا البحث عن الشرعية التي دوما يشعر أنها منقوصة.

عندما وقعت تركيا اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا قلبت الموازين وافسدت كل المخططات التي تهدف إلى إخراجها من كعكة غاز شرق المتوسط، وأفشلت كذلك مخطط إيصال غاز الكيان الصهيوني إلى أوروبا، وفي نفس الوقت فإن هناك ثلاث قوى كبرى تتابع التطورات الجارية شرق المتوسط أولها بالطبع الاتحاد الأوروبي المنحاز لليونان منذ زمن ضد تركيا، ومن ثم لقبرص اليونانية وبالطبيعي للكيان الصهيوني، وهي معنية بما يحدث لأنها تنتظر أن تخرج من الهيمنة الروسية كمورد أكبر للغاز، والقوى الثانية هي روسيا بالطبع التي تريد ان تحافظ على استمرار تدفق غازها إلى أوروبا من غير منافس، والقوى الثالثة هي أمريكا المسيطرة على العالم عسكريا واقتصاديا ولا تريد أن تفقد شركاتها أي فرصة جديدة للاستثمار لاسيما في الطاقة. 

الاتفاق التركي – الليبي والذي تلاه اتفاق أمني بين الطرفين يتيح لحكومة الوفاق الاستعانة بالقوات التركية لحمايتها من أي تهديد، والذي كان واقعا بالفعل من خلال استدعاء الجنرال المنشق خليفة حفتر لكل من الإمارات والنظام في مصر ومليشيات من السودان وتشاد لتثبيت انقلابه، ومع فشل تحقيقه أي تقدم خلال ثمانية أشهر استدعى شركة أمنية روسية لتعينه فيما فشلت فيه كل القوات التي استدعاها من قبل. 

وهنا يظهر الفاعل الأمريكي في المنطقة بقوة بعد أن شعر بتهديد مصالحه عبر الوجود الروسي، الذي ما انفك يناوره في سوريا بعد حرمانه من المياه الدافئة لعقود، ليثبت أقدامه في بقعة جديدة ومهمة على المتوسط، وهي الفرصة التي استغلها الثعلب التركي للدخول بقوة وبدعم أمريكا، رغم أنها قبل أشهر من ذلك كانت قد أصدرت قانون (شراكة الأمن والطاقة شرق البحر المتوسِّط لعام ٢٠١٩) والذي يؤسِّس لدور أقوى وأكبر لواشنطن في هذه البقعة التي ازدادت أهمية بعد استخراجات الغاز، وهو ما يعكس انحيازا واضحا ضد تركيا، لكن المصالح تتلاقى، وإرسال قوات أمريكية إلى ليبيا في مواجهة روسيا أمر يحتاج روية كبيرة من أمريكا التي لا تغامر بهز صورتها أمام قوة كبيرة كروسيا، فيستغل الثعلب التركي هذه الثغرة ليذهب إلى ليبيا مدعوما من أمريكا، ومادّا يده لحليفه الروسي بعد صفقة (أس 400) التي هزت الغرب.  

لقد استطاع الثعلب التركي استخدام روسيا بعد أن استخدم أمريكا، فروسيا تحتاج لقوة كبيرة مثل تركيا وفي نفس الوقت قريبة من مسرح العمليات تكون سندا وفاعلا في الأزمة، وتركيا سعت إلى تجميع الدول التي همشتها اتفاقيات كل من النظام في مصر واليونان وقبرص اليونانية والكيان الصهيوني من وراء الستار باتفاقيات مجحفة تأكل الحقوق وتطيح بدول من المفترض أن تكون فاعلة في المشهد، فأتت بإيطاليا وليبيا، ولعل استقبال الرئيس التركي الرئيس الإيطالي هو أكبر دليل على أن المحاور تجمعت لمواجهة محاور أكثر ضعفا بعد دخول روسيا على الخط، وهو ما نتج عنه اتفاق لوقف إطلاق النار في ليبيا وهو اتفاق ذو مغزى كبير في صراع الغاز في شرق المتوسط، وهو ما يعني أيضا إفشال المخطط المصري اليوناني القبرصي الصهيوني، لينقلب السحر على الساحر، ولتقدم السياسة التركية درسا لدول الشرق الأوسط كيف يمكن الاستفادة من الفرص واستخدام الكبار الذين طالما استخدموهم.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس