د. علي حسين باكير - تلفزيون سوريا

في سياق ما يُسمى بتفسير الموقف الروسي المشلول تقريباً إزاء الضربات التي نفذّتها تركيا ضد نظام الأسد مؤخراً، هناك من بدأ يروّج لتأويلات مفادها أنّ موسكو سمحت لأنقرة بتلقين الأسد درساً، وأنّ ذلك يأتي في سياق تفهّم ردّة الفعل التركية إزاء سقوط قتلى لها في الضربة التي نُسبت لنظام الأسد والتي أوقعت حوالي ٣٣ عنصراً من القوات المسلحة التركية.

وفقاً لهؤلاء، فقد قامت موسكو بإعطاء الفرصة لأنقرة للثأر لنفسها من نظام الأسد لتردّ بذلك الاعتبار إلى قواتها المسلّحة. لكن هدف موسكو لم يكن محصوراً وفق –هذه الادعاءات- في هذا الجانب، إنما هي تعمّدت إطلاق يد تركيا العسكرية في تأديب الأسد لأنّه خرج –كما يدّعون- عن إطار التصعيد المقبول من طرفه باستعادته المزيد من الأراضي في إدلب دون موافقة روسيا.

وهناك من يزيد على هذه التوليفة (الادعاء) مجموعة من الادعاءات من قبيل أنّ روسيا تريد أن تضغط على نظام الأسد من خلال تركيا، وأنّ ذلك يصبّ في مصلحتها في نهاية المطاف، ويأتي في سياق دعم طرف على حساب طرف آخر فيما يتعلق بالأجنحة المتصارعة داخل نظام الأسد. باختصار، أصحاب الرأي هؤلاء يرون أنّ الحملة التركية ضدّ نظام الأسد جاءت ضمن اتفاق ضمني مع روسيا!

لا تعكس مثل هذه التأويلات التي تعتمد على خيال خصب قوامه غياب الفهم الصحيح لطبيعة العمل السياسي والعسكري فقط، والافتقاد إلى أدوات التحليل والتفسير، بل تنمّ أيضاً عن جهل يسهم بشكل عمدي أو غير مقصود في توسيع دائرة التضليل، الأمر الذي يقوّض

من الحس السليم لدى الجهور المستقبل على الحكم على الأشياء، ويقلل من قيمة التحليلات الأكثر قيمة من خلال دفنها وراء جبال من التحليلات التي يقوم بها جيش من المدّعين.

مثل هذه التأويلات تتناقض مع نفسها من عدة زوايا لعل أبرزها:

١) الذين يقولون بها يعترفون بأنّ روسيا هي من نفّذ الضربة ضد الجنود الأتراك التي أودت بحياة حوالي ٣٣ منهم، فكيف يستقيم ذلك مع الادعاء بأنّ موسكو سمحت لأنقرة بالثأر لنفسها من نظام الأسد!

٢) القول بأنّ الأسد تمادى وتجاوز التفويض الممنوح له باستعادة المزيد من الأراضي في إدلب يتعارض كذلك مع تأكيدات موسكو الدائمة العلنية على ضرورة أن يستعيد الأسد كامل الأراضي أولاً، وثانياً على الدعم الجوي المقدّم له من موسكو أثناء تقدّمه للسيطرة على المزيد من الأراضي في إدلب.

٣) روسيا ليست بحاجة الى أي طرف لتأديب الأسد بالواسطة أو بالوكالة فضلاً عن أن تستخدم تركيا لمثل هذا الغرض! الجانب الروسي يتفنّن بشكل دائم في إهانة الأسد وقادر دون أدنى جهد على إعطائه الأوامر وتأديبه إن لزم الأمر دون الحاجة إلى جعل تركيا تبيد أرتالاً من قواته العسكرية.

٤) كيف يستقيم القول أيضاً بأنّ هناك اتفاقاً ضمنياً بين روسيا وتركيا بقيام الأخيرة بتلقين الأسد درساً، في الوقت التي أدّت فيه الهجمات التركية إلى تقويض ما تبقى من قوّة عسكرية للأسد وإهانة أنقرة لفخر الصناعات العسكرية الروسية من دبابات ورادارات وأنظمة دفاع جوي وحتى مقاتلات سوخوي (اس-٢٤) قامت تركيا بتدميرها خلال الهجمات التي شنّتها مؤخراً؟

٥) إذا ما افترضنا جدلاً أنّ مثل هذا الاتفاق الضمني الوهمي موجود، كيف بالإمكان لهذا الاتفاق وما نتج عنه من تقويض هائل لقدرات النظام في المنطقة أن يساعد روسيا لاحقاً على دعم الأسد أو حتى تعويضه الخسائر في المعدّات العسكرية التي مُني بها؟!

في حقيقة الأمر، ما جرى هو أنّ موسكو التي استهانت في بداية الأمر بالحشود العسكرية التركية داخل إدلب كما تبيّن من خلال تصريحات المسؤولين والمحللين الروسي على قناة "روسيا اليوم"، لم تكن تتوقّع حملة جوّية بطائرات ميسّرة تركيّة بهذا الشكل لا سيما أنّها كانت تعتقد أنّ تحييد سلاح الجو التركي (اف-١٦) من المعركة سيحرم أنقرة من إمكانية إيقاع خسائر كبيرة في صفوف النظام في أي رد فعل محتمل.

لكن الحملة الجوية بالمسيّرات كشفت عن قدرات أنقرة الهائلة في مجال الاستهداف الجوي في ظل غياب ال(إف-١٦) عن المعركة، فضلاً عن دقّة الاستهداف وحجم القوات المستهدفة للأسد ونوعها. أمام هذه الحقيقة، كان لروسيا خياران، إمّا أن تتدخّل وتقوم بإسقاط المسيّرات التركيّة وهو ما من شأنه أن يُظهّر الكلام عن مسؤوليتها عن استهداف الجنود الأتراك قبل ذلك إلى العلن، ويخاطر بإمكانية نقل المعركة من صدام بين تركيا ونظام الأسد إلى صدام بين تركيا وروسيا، وهو خيار لا يحبّذه بالتأكيد أي من الجانبين.

الأمر الآخر كما بدا واضحاً هو أنّ روسيا لم تكترث للاتفاقات التي تمّ توقيعها مع تركيا، فاتفاق سوتشي كان (ولا يزال) قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام لولا أنّ التقدّم العسكري التركي سمح على الأقل للطرفين للتذرّع به كإطار للمفاوضات الجارية الآن حول إدلب.

وتبقى القاعدة الأساسية هي أنّ كلاً من تركيا وروسيا لا يريد مواجهة مباشرة ليس في مصلحة أي منها لا سيما إذا كان السبب فيها نظام مهلهل كالأسد، نعم، روسيا تريد أن تدافع عن النظام لكنّها لا تريد أن تصطدم بتركيا أو أن يؤدي ذلك إلى معركة معها، وهذه هي فحوى المعادلة الشائكة التي أدّت إلى شل الروس أيضاً. موسكو تحاول الآن تقييد التحركات التركية ضمن هذه المعادلة، لكن إذا ما كانت ستنجح أم لا يعتمد على الكثير من المعطيات المتحرّكة المرتبطة بالمشهد وبالتأكيد من بينها الموقف التركي وموقف الولايات المتّحدة وأوروبا والناتو أيضاً.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس