د. علي حسين باكير - عربي 21 

في حزيران (يونيو) الماضي، عقد الجانبان المصري واليوناني الجولة رقم ١٢ من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بينهما، خرج الجانب اليوناني بعدها ممتعضاً لما اعتبره غياب النيّة المطلوبة لدى مصر للتوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص. 

وفقاً لتقارير مصريّة من بينها تقرير لـ "مدى مصر" في القاهرة، فإنّ الخبراء التقنيين في وزارة الخارجية بالإضافة إلى الاستخبارات العامة دفعوا باتجاه ضرورة عقد اتفاق مع الجانب التركي بدلاً من اليونان، وذلك على اعتبار أنّ الاتفاق سيضمن لمصر مساحة بحرية لا تقل عن ٢٧ ألف كلم٢ في مياه شرق البحر المتوسط، بينما سيؤدي الاتفاق مع اليونان بدلاً من تركيا إلى خسارة مصر لحقوقها البحرية.

بعض اليونانيين اتّهموا وزير الخارجية المصري سامح شكري في حينه بأنّه مُتأثّر بما يُقدّمه له الوفد التقني ولا يريد أن يرى الصورة الكبرى، واقترحوا تخطي هذه العقبة من خلال التواصل المباشر مع السيسي على أن يكون ذلك ضمن تصوّر أشمل يتضمن تشكيل تحالفات عسكرية ضد تركيا في شرق المتوسط دون أن يتم إعلان هذا الهدف بشكل صريح، وأن تكون نواة هذا التحالف مصر واليونان وفرنسا، ويتم ضم الإمارات والسعودية إليه بشكل ما.

تطور مفاجئ

بعد شهر ونيّف من هذا الاجتماع، وفي خطوة مفاجئة، أعلنت مصر واليونان يوم الخميس الماضي التوقيع على اتفاقية ترسيم حدود بحرية للمناطق الاقتصادية الخالصة للبلدين. هذا الاتفاق يأتي في سياق عدّة تطورات مهمّة في المنطقة لعلّ أبرزها ضرب إثيوبيا التهديدات المصريّة بعرض الحائط والمضي قدما في قرارها ملء سد النهضة رغماً عن الموقف المصري. 

أمّا التطوّر الثاني، فهو تحقيق تقدّم طفيف في مسار المفاوضات بين تركيا وروسيا بشأن سرت والجفرة وهو ما يهدّد بالإطاحة بالحسابات المصريّة في ليبيا. وفي ما يتعلق بالتطوّر الثالث، فهو قيام ألمانيا بمبادرة دبلوماسية للتوصل إلى حل للخلاف بين تركيا واليونان وهو ما استجابت له تركيا بإيقاف عمليات السبر والاستكشاف كبادرة حسن نيّة. 

وبخلاف المعمول به، لم يتم حتى لحظة كتابة هذا المقال، نشر نص الاتفاق والإحداثيات المتعلّقة بمناطق الترسيم، وهو ما يثير تساؤلات حول الغاية والأسلوب الذي تمّ اتّباعه للترسيم. وإذا ما كانت اليونان قد اعتمدت وجهة نظرها في الموضوع، فهذا يعني انّ مصر خسرت حُكماً على الأقل حوالي ٢٧ ألف كلم٢، خذ بعين الاعتبار أنّ مساحة القاهرة حوالي ٣ آلاف كلم٢. لكن إذا كانت اليونان قد تنازلت عن جزء من حصّتها، فهذا يعني أن خسائر مصر قد تقلّصت ـ تبقى خسائر ـ وأنّ أثينا ستصبح في وضع ضعيف في أي معركة قانونية مقبلة مع تركيا بحكم أنّها تراجعت عن منظورها القانوني في الاتفاق مع مصر.

خسارة مصرية

وفقاً لبعض المواقع اليونانية التي نشرت الإحداثيات، فإنّ الاتفاق يؤكّد خسارة مصر لمساحة بحرية كبيرة، كما أنّه يُدخل القاهرة في نزاع مباشر مع كل من تركيا وليبيا. بمعنى آخر، الاتفاق زاد على الإشكال التركي ـ اليوناني، والليبي ـ اليوناني بُعداً مصرياً، إذ إنّه نجح في إقحام مصر في صراع مباشر مع الطرفين، كما أنّه خلق مشكلة عربية ـ عربية من خلال السماح بالتعدي على الحقوق الليبية. وفي هذا السياق، فإنّ الاتفاق المصري ـ اليوناني يشتّت الأنظار عن مسألة النيل وإثيوبيا، ويصعّد الوضع مع ليبيا بشكل كبير، ويسدد لجهود الوساطة الألمانية ضربة قوّية. 

استناداً إلى التصريحات الرسمية المصرية التي تلت مراسم التوقيع، فإنّ الاتفاق يعكس إرادة مصر لتوطيد التعاون العسكري والسياسي فضلاً عن الاقتصادي مع أثينا، ويعكس هذا التصريح على ما يبدو التصوّر اليوناني الذي تمّ طرحه بُعيد الجولة ١٢ من المفاوضات. بمعنى آخر، فإنّ الاتفاق يعكس حسابات أيديولوجية بالإضافة إلى أنّ شرعية النظام المصري المشكوك بها بشكل متزايد والتدهور السريع الذي يلحق بوضع مصر السياسي والاقتصادي والأمني مؤخراً كلها عوامل تدفع النظام المصري بشكل مستمر إلى التضحية بحقوق مصر مقابل الحصول على دعم غربي في وضع تدفع فيه بعض الأطراف بشكل متزايد باتجاه صدام بين مصر وتركيا.

الاتفاق يدفع باتجاه معادلة صفريّة في شرق البحر المتوسط كما أنّه يهدد بعسكرة الصراع بشكل متزايد وخطير ويبدو ذلك واضحاً من خلال الرد التركي الأولي على هذا التطوّر السلبي. الجانب التركي ذكّر النظام المصري بأنّ اتفاق القاهرة مع قبرص أدّى إلى خسارة مصر ١١٥٠٠ كلم مربع من حقوقها، وأنّ اتفاقه مع اليونان يضيف خسائر أخرى لهذه الخسائر. لكن الأهم في التعليق التركي هو أنّ أنقرة أكّدت أنّها لن تسمح لأحد بالتعدي على حقوقها وأنّها ستمنع أي نشاطات في المنطقة المذكورة التي تنتهك حقوقها في الجرف القاري وأنّها ستثبت أنّ الاتفاق وكأنه لم يكن بالنسبة إليها على طاولة المفاوضات وفي الميدان على حدٍ سواء.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس