خالد فؤاد - TRT عربي

بعد أن وقعت مصر عام 2015 اتفاقية المبادئ التي مهدت الطريق لخسارة القاهرة الكثير من حصتها المائية بسبب بناء سد النهضة في إثيوبيا، تعود اليوم للتوقيع مع اليونان على اتفاقية ترسيم الحدود التي قد تؤدي إلى خسارتها الكثير من احتياطاتها للغاز الطبيعي.

لم تمر سوى عدة أيام على إعلان إثيوبيا الانتهاء من المرحلة الأولى من ملء "سد النهضة" الأمر الذي سيكون له تبعات مؤلمة على أمن مصر المائي، وبالتالي على الأمن القومي المصري، حتى أعلنت مصر الخميس 6 أغسطس/آب 2020 عن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، وهو الأمر الذي كانت ترفضه مصر منذ عقود لأسباب متعددة تتعلق بالبعد الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي، ليستمر مسلسل إهدار حقوق مصر ومقدراتها من خلال اتفاقيات تثير الجدل حول جدواها ومدى توافقها مع المصالح المصرية.

فاتفاقية ترسيم الحدود مع اليونان سوف تحرم مصر من التحول إلى منصة لتصدير الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا وبذلك تفقد مصر واحدة من أهم شروط قوتها الجيوسياسية. كما أن الاتفاقية ستحرم مصر من ما يقرب من 10 آلاف كيلومتر مربع من مياهها الاقتصادية الخالصة لصالحة اليونان. 

ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط .. أزمات لا تنتهي

منذ اكتشافات مخزونات الغاز الضخمة التي ظهرت في شرق المتوسط في عام 2009 أصبح ترسيم الحدود البحرية بين دول شرق المتوسط من أهم القضايا الشائكة في المنطقة، لا سيما أن المنطقة تشهد نزاعات وحروباً أهلية في كل من سوريا وليبيا، وتستند عملية ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ) إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، التي حددت 200 ميل طولي من ساحل الدولة منطقةً اقتصاديةً خالصةً يحق فيها للدولة التنقيب والحفر لاستخراج النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى.

ولكن يبدو الوضع مختلفاً في منطقة شرق المتوسط التي تتسم بوضع جغرافي معقد يتمثل في حوض مائي ضيق يحتوي على عدد من الدول الساحلية المتقابلة، والذي يجعل من عملية ترسيم الحدود البحرية أمراً بالغ الصعوبة، ولا يمكن الاستناد فيه فقط إلى قانون البحار دون أن يكون هناك تفاهمات بين الدول المعنية بترسيم الحدود البحرية بينها تراعي البعد السياسي والاقتصادي والتاريخي.

مصر وترسيم حدودها البحرية

لم توقع مصر على اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة إلا في عام 2003 مع قبرص، في المقابل لم توقع مصر أي اتفاق مع إسرائيل لاعتبارات سياسية يمكن تفهمها تتعلق بتعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي.

وفي الوقت نفسه لم توقع مصر أي اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع اليونان بالرغم من طلب الأخيرة ترسيم الحدود أكثر من مرة في العقود السابقة، وسبب الرفض المصري يعود إلى فهم مصر للخلاف التركي اليوناني فيما يتعلق بالمناطق الاقتصادية الخالصة بين الدولتين، وإدراك مصر أن ترسيم حدودها البحرية مع أي من الدولتين يجب أن يكون بعد وصول الطرفين التركي واليوناني إلى تفاهم حول حدودهما البحرية.

لكن يبدو أن تسارع وتيرة الخلافات في منطقة شرق المتوسط، واشتعال الأوضاع في ليبيا دفعا اليونان إلى السعي مجدداً للمطالبة بترسيم حدودها البحرية مع كل من إيطاليا ومصر، في محاولة منها لمحاصرة الاتفاقية التركية الليبية لترسيم الحدود البحرية، وامتلاك أدوات دبلوماسية تستند إلى قانون البحار في مواجهتها مع تركيا.

وبالرغم من الخلاف الطويل بين اليونان وإيطاليا حول ترسيم الحدود البحرية بينهما فقد وقع الجانبان اتفاقاً في بداية شهر يونيو/حزيران الماضي لترسيم هذه الحدود. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد حيث كانت المفاجأة بتجاوز مصر لتحفظاتها السابقة، والموافقة على ترسيم الحدود البحرية مع اليونان.

هذا ولم يتم نشر نص الاتفاقية أو نشر الإحداثيات التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين كما هو متعارف عليه، ولكن فقط تمت الإشارة إلى أن الاتفاق الموقع استند إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهذا يعني بوضوح أن حجم الخسائر المصرية نتاج هذا الاتفاق لا تتعلق فقط بالبعد الاقتصادي، ولكنها تمتد إلى البعد الاستراتيجي والجيوسياسي.

خسائر استراتيجية واقتصادية

إحدى استراتيجيات الطاقة الرئيسية التي اعتمدتها مصر في السنوات الأخيرة هي التحول إلى منصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي، إذ يوفر حقل "ظهر" الضخم كميات من الغاز الطبيعي يمكن تصديرها للخارج بأسعار منافسة.

بالإضافة إلى البنية التحتية المتمثلة في محطتي ادكو ودمياط لإسالة الغاز الطبيعي، التي تمنح مصر الأفضلية والسبق في أن تصبح المنصة الإقليمية الرئيسية لتصدير الغاز إلى أوروبا في المستقبل.

إلا أن أحد التهديدات الرئيسية للاستراتيجية المصرية هي مشروع خط غاز East Med الذي تسعى إسرائيل إلى الشروع في إنشائه بجدية، إذ يبدأ الخط من إسرائيل ويصل إلى أوروبا مروراً بقبرص واليونان وإيطاليا.

ويلقى الخط دعماً من الاتحاد الأوروبي الذي يراه كأحد مصادر الغاز البديلة التي يسعى إليها في سبيل التقليل من الاعتماد على الغاز الروسي الذي يسيطر على أكثر من ثلث واردات الغاز لأوروبا، ويعد خط East Med تهديداً واضحاً ومباشراً للمصالح المصرية، إذ يعني في حال تم إنشاء الخط خسارة مصر دورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.

هنا يمكن لأي مهتم بالشأن المصري أن يرى بوضوح أنه ليس من مصلحة مصر بأي حال من الأحوال إنشاء وإنجاز خط East Med، وهو الأمر الذي جعل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا تتوافق مع المصلحة المصرية، لأن الاتفاقية تمنع مرور خط East Med لاستكمال طريقه إلى أوروبا إلا بموافقة الجانب التركي، وهو أمر يبدو صعباً في ظل الأزمات التي لم تحل بين تركيا من جهة وبين اليونان وقبرص من جهة أخرى.

ولكن وفقاً للتطور الأخير واتفاق ترسيم الحدود البحرية المعلن بين مصر واليونان استناداً إلى قانون البحار فإن مصر توافق رسمياً على الرؤية اليونانية لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، وتعطي الحق لليونان لتخطي الاتفاقية التركية الليبية، أي إن مصر من خلال توقيعها للاتفاقية مع اليونان تعطي الضوء الأخضر والمسوغ القانوني لإسرائيل وقبرص واليونان لإنشاء خط East Med، وهو ما يعني خسارة مصر موقعها كمنصة إقليمية في المستقبل، وما يتبع ذلك من خسائر اقتصادية وفقدان لنفوذ ودور جيوسياسي هام في منطقة شرق المتوسط.

يعود الرفض المصري المستمر منذ سنوات لترسيم الحدود البحرية مع اليونان إلى إهدار الرؤية اليونانية مساحة ضخمة من المناطق الاقتصادية الخالصة المصرية، وهو ما تم التنازل عنه بعد موافقة مصر على ترسيم الحدود البحرية مع اليونان وفقاً لقانون البحار ووفقاً للرؤية اليونانية، وهو ما يعني خسارة مصر مساحات مائية هائلة في منطقة واعدة بالثروات تسعى أغلب دول المنطقة للحصول على أي مساحة مائية مهما كانت صغيرة فيها تمكنهم من التنقيب عن النفط والغاز.

إذا كنا نريد أن نتصور حجم الاستثمارات التي يمكن أن تخسرها مصر بسبب الاتفاقية الموقعة مع اليونان فإننا بحاجة إلى النظر إلى الاتفاقات المبدئية التي توصلت إليها مصر في فبراير/شباط الماضي مع كبرى شركات النفط والغاز العالمية (Exxon Mobile – Chevron – Shell – BP – Total)، والتي من المفترض أن تقوم بالتنقيب والاستكشاف والحفر في المياه العميقة أمام السواحل الغربية لمصر في عدة مناطق، من ضمنها نفس المنطقة التي أصبحت تحت السيادة اليونانية بعد توقيع الاتفاقية، وهو ما يعني خسائر لاحتياطات غاز محتملة في تلك المياه كان يمكن أن تمنح مصر مكاسب اقتصادية هائلة.

يبدو أننا أمام سيناريو متكرر منذ اتفاقية تيران وصنافير وإعلان مبادئ سد النهضة التي تم فيها إهدار حقوق مصر التاريخية والتفريط في مقدرات الوطن، ووصولاً إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان الذي سيتسبب هذه المرة في خسارة مساحات هائلة من المياه، وتهديد دور مصر كمنصة إقليمية لتصدير الغاز في المستقبل، وفقدان مصر لدور جيوسياسي هي في أشد الحاجة إليه في شرق المتوسط.

ويبدو أن تلك السيناريوهات لن تتوقف وستكون قابلة للتكرار ما دامت استراتيجية النظام المصري تعاني من ارتباك وتخبط في تحديد الأولويات التي تتعلق بالأمن القومي المصري، وفي الاختيار بين تحقيق مصالح مباشرة لمصر أو الانحياز إلى مصالح حلفاء النظام المصري في المنطقة.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس